السلام هو الحل

من الواجب والمطلوب إعادة المعادلة إلى وضعها الطبيعي، تلك المعادلة التي أخل بموازناتها السودانيون منذ ما قبل إعلان الاستقلال وإلى اليوم. من الواجب إعادة السلام إلى ضفة القاعدة بعد أن ظل لعقود طويلة يرواح ضفة الاستثناء في الوقت الذي احتلت فيه الحرب مكانها كقاعدة في علاقاتنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وشكلت منهجاً لحل قضايانا وما أسهله من حل يزيد الأمور تعقيداً، بينما بقي السلام أملاً يراود الأفئدة وحلماً يتطلع إليه أهل السودان في كل مكان إلا المتضررين منه.

في حالتنا المستعصية يتطلب السلام إرادة استثنائية، فهي حالة مركبة زادها الانفصال تعقيداً. فبدلاً من العمل على إرساء قواعد السلام في جبهة واحدة وداخل وطن واحد، وما عشناه من معوقات صاحبت ذلك طوال الفترات السابقة، بات علينا التعامل مع ثلاث جبهات لارتباطها الوثيق مع بعضها وعدم جدوى التعامل معها بعقلية التجزئة، أي كل جبهة على حدة. والجبهات الثلاث هي الشمال بمشكلاته وحروبه الداخلية والجنوب بمشكلاته وحروبه الداخلية وأخيراً الشمال والجنوب كدولتين مستقلتين.
إن اي معالجات وحلول لا تستصحب هذه التعقيدات المركبة سيكون مصيرها الفشل في تحقيق السلام المنشود الذي يتطلع إليه الشعب السوداني شمالا وجنوبا. وأي مشروع يستهدف فقط وقف الحرب بين الشمال والجنوب دون مراعاة العناصر الأخرى سيكون حرثاً في البحر لن يصمد طويلاً، لأنه يترك بؤراً قابلة للانفجار إن لم تكن متفجرة أصلاً. وهي بؤر جاذبة لأسباب الاضطراب وعدم الاستقرار الذي سيؤثر دائماً على الحل الجزئي.
لن يستطيع الشمال التعامل مع الجنوب، والعكس صحيح، ما لم يستصحب مشروع السلام بينهما ويعمل الطرفان على المبادرة والدعم والضغط في سبيل إنهاء الخلافات الداخلية لكل منهما في إطار مشروع متكامل يستهدف تحقيق السلام الدائم بينهما. وهذا يتطلب إقراراً من الطرفين بتأثيراتهما المتبادلة داخل كل دولة وامتدادتهما التي لن تمحى بمجردة جرة قلم على خارطة السودان معلنة قيام دولتين.
التعامل مع الأزمة من قاعدتها السياسية سيسهل كثيراً تلمس حلول تفضي إلى واقع غير الذي نعيشه الآن، فما نعيشه الآن قائم على قاعدة الحرب والقوة والعداء في التعامل مع قضايا يمكن بحثها بعيداً "ترابيز الرمل"، لأن مكانها الطبيعي "طاولات" المفاوضات والحوار، لذلك من الطبيعي ان لا يصل فيها الطرفان إلى حلول، فالنبات لا ينمو في تربة غير التربة الصالحة له والمناخ الملائم له.
تبني مشروع "السلام هو الحل" سيخلق أرضية قوية لهزيمة النزعات الحربية المتأصلة لدى بعض الأطراف لدى الجانبين، وهي نزعات قادت إلى ما قادت إليه، ولا تعبر سوى عن مصالح ضيقة بعيدة كل البعد عن تطلعات وآمال الشعب في الدولتين. إشاعة هذا المشروع وروحه يعد الضربة الأولى في طريق هزيمة المشروع المقابل له وهو مشروع "الحرب هي الحل". وإقرار هذا المشروع هو السبيل لإعادة الأمور إلى نصابها بوضع السلام في ضفة القاعدة وإزاحة الحرب إلى ضفة الاستثناء كما هي طبيعة الأشياء. وهذا يتطلب أن نناقش لماذا "السلام هو الحل"؟ وكيف "السلام هو الحل"؟
مشروع اجتماعي
قلنا إن السلام هو القاعدة، ولمَّا كان الأمر في سوداننا غير ذلك سنسعى لإعادة الأمور إلى نصابها بإشاعة مشروع "السلام هو الحل". يدعم هذا المشروع وقوفه على قاعدة نظرية صلبة، هذا غير الفطرة السليمة التي جبل عليها الإنسان، فكل العقائد السماوية تنحاز إليه وكل النظريات الايديولوجية والاجتماعية تقوم على فكرته ومناهجها تثبت صحة فرضياته طالما تستهدف تلك النظريات إشباع الحاجات الإنسانية.
وما احوجنا في السودان إلى مثل هذا المشروع، وهو مشروع اجتماعي في المقام الأول، يستهدف قطاعات عريضة تضررت بشكل مباشر أو غير مباشر وما زالت طوال عقود من الحرب التي لا تزال نيرانها مستعرة. ولكي نطرح تساؤلاتنا، لماذا السلام هو الحل؟ لابد من استعراض ولو جانب من المشهد الذي يكشف حجم الكارثة التي أوردتنا لها الحرب.
أقعدت الحرب بالوطن في الوقت الذي نال فيه استقلاله قبل أكثر من نصف قرن، وهو عمر الحرب نفسها. فإدارة موارد الدولة في ظلها يخل بميزان الأولويات لدولة تتطلع للنهوض والوقوف على قدميها بين دول العالم، ويقدم الاستثناء وهو ميزانية الحرب ونفقاتها –حتى وإن كانت حرب أهلية داخلية- على حساب التنمية والمشاريع النهضوية والخدمية التي تلبي احتياجات المواطن ورفاهيته، لذلك ظل التراجع والتردي في التنمية والخدمات الذي بلغ درجة لا يمكن وصفها. فإذا كانت أكثر موارد الدولة هي الضرائب والجبايات وميزانية الدفاع والأمن ظلت تراوح مكانها في سلم الأولويات بدلاً من التعليم والبحث العلمي والصحة وتنمية الموارد البشرية وتاهيلها، فذلك يعني أن الحرب غير ضررها عليه فإنها تمول قسراً من المواطن. وهذا يعني أنها أقعدت بالعملية الاقتصادية برمتها وتداعيات ذلك التي أوردتها.
أقعدت الحرب بالعملية السياسية وتطورها في السودان، وجعلتها كسيحة مما انعكس سلباً على الأداء الكلي للدولة. فرغم البدايات المبكرة للعمل السياسي والنشاط الحزبي في السودان الذي سبق غيره في الإقليم، إلا انه ظل رهين الحرب وإفرازاتها التي عطلت التطور الطبيعي للعمل السياسي والتداول السلمي للسلطة والتوجه نحو النظام الديمقراطي التعددي المعني بقيادة المشروع النهضوي والتنموي والقادر على إدارة التنوع الذي يتسم به السودان. وضربت الحرب التطور الحزبي وجعلته متكلساً وغير قادر على النمو في مناخه الطبيعي وغير قادر على المساهمة المنوطة به في الإرتقاء بالعمل السياسي.
لكن أكثر التشوهات التي أفرزتها الحرب، والتي ستظل هاجساً مؤرقاً لمشروع "السلام هو الحل"، هي تلك التشوهات الاجتماعية وتهديدها للسلام الاجتماعي وتمزيقها لنسيجه. فقد قادت الحرب إلى مظاهر اجتماعية وعودة اخرى كاد يتجاوزها المجتمع، ولعل أبرز ما قادت إليه هو حدة الاستقطاب الديني وإفرازها للتطرف والإرهاب الديني في وطن كانت سمته التسامح، وخلقت مناخاً مناسباً لفئات تستدعي التبرير الفكري والأيدولوجي للحرب، إضافة لإعلاء القبلية والعصبية والتقوقع الإثني كمظاهر سالبة استخدمتها السياسة -وحتى الاقتصاد- وجيرتها لمصالحها، بدلاً من مصلحة الوطن.
إن مشروع "السلام هو الحل" يتطلع إلى أن يكون حركة اجتماعية غير تقليدية واسعة تحاصر كل مبررات الحرب الأيدولوجية والفكرية، وتشكل عنصر ضغط في سبيل هزيمة مبرراتها وحيثياتها، وتعمل على محاصرة إفرازاتها الاجتماعية في إطار مشروع كبير للسلام يعيد ترتيب الأولويات لصالح الوطن.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق