زعازع الدكتور منصور خالد

قراءة ما يكتبه الدكتور منصور خالد صعبة وهينة، ليس على طريقة (السهل الممتنع) التي درج الناس على إطلاقها هكذا خبط عشواء. فهي هينة وسهلة لمن أراد أن يقرأها هكذا ويمضي في سلام قادحاً أو مادحاً دون أن تترك سوى أثراً عاطفياً هو بالتأكيد إلى زوال عاجلاَ أم آجلاً، وصعبة لمن يقرأها ويقف حماره بين عقباتها كل مرة مضطراً إلى إسترجاع ما كتبه قبلها، وما كتبه قبلها ليس بالقليل، فيكفي أن آخر كتاب أصدره (السودان أهوال الحرب وطموحات السلام) كان في العام 2003 وتجاوز عدد صفحاته الألف صفحة، مستعيناً به في قراءة ما استجد في كتابته.

فبين طيات غلاف فاخر وتصميم أنيق جمعت (مدارك) للنشر حزمة مقالات كان الدكتور منصور خالد، قد سبق ونشرها في الصحف السيارة، في كتاب تجاوزت صفحاته السبعمائة من القطع الكبير. أختير للكتاب الذي صدر في خواتيم هذا العام (2010) إسم "تكاثر الزعازع وتناقص الأوتاد" حول قضايا التغيير السياسي ومشكلات الحرب والسلام في السودان. هي أربعة مقالات طويلة بدأ الدكتور نشرها عقب توقيع اتفاقية السلام الشامل 2005 على فترات متفرقة، نقلنا فيها بطريقته الشيقة في الكتابة بين نصوص تلك الاتفاقية شرحاً وتفسيراً ورأياً، وتجولت بنا أراؤه داخل أروقة تنفيذها ومعضلاته، ولم ينس التعريج بنا في سوح السياسة ما قبل الاتفاقية طالما هي ذات ارتباط وثيق بالقضية المركزية (الحرب والسلام). المقالات مليئة حد التخمة بالمعلومات والتوثيق وجوهر حيويتها تلك المقاربات الذكية والاستشهاد بالتاريخ العالمي طالما كان ذلك ممكناً. كثير من تلك الآراء أجد نفسي متفق معها وبعضها أقنعتني سياقات الحجج التي عرضها لأتفق معها، وأخرى مختلف حولها.

مثلما تكاثرت الزعازع وتناقصت الأوتاد لدى الدكتور وهو يختار ذلك عنواناً لسفره الجديد، والتكاثر يعني الزيادة أما الزعازع فهي فيما بدا لي عدم الاستقرار والاضطراب، فقد أضاف الكتاب إلينا (زعزعة) جديدة على تكاثرها ذاك أثناء القراءة. فقد خلط الناشر المقالات، بالتأكيد بعلم الدكتور، متجاوزاً المواقيت الزمانية لنشرها بحيث جاء عاليها أسفلها وآخرها منتصفها، فصار من الصعب قراءة المقالات بالترتيب الذي جاءت به حسب ترتيب محتويات الكتاب إلا بالعودة إلى إعادة ترتيبها حسب مواقيت نشرها. قراءتها بالترتيب الأخير سيجعل من الممكن ملاحظة التطورات التي طرأت على أفكار ورؤى الكاتب بسبب تسارع وتصارع الأحداث في فترة زمنية قصيرة حول قضية الحرب والسلام، جوهر الموضوع.

زعزعة أخرى لا يمكن معالجتها بإعادة الترتيب على أي نحو لأنها جوهرية، تناقص على إثرها وتد جديد. أشرت في المقدمة إلى أن قراءة ما يكتبه د.منصور خالد يحتاج للإستعانة بما كتبه سابقاً لإستجلاء ما يستعصي عبوره من عقبات، فاسترجاع ما كتبه قبل التوقيع على إتفاقية السلام الشامل، وأعلم أنه قد استغرق فيه زمناً وجهداً كبيرين وكنت شاهداً على جزء من ذلك الجهد حين كان يجلس طويلاً في مكتبه بمنظمة (شرا) في العاصمة الأرترية أسمرا ثم يدفع بما يخرجه لمعاونين إختارهم للمراجعة والطباعة، ليخرج ذلك السفر الضخم "أهوال الحرب وطموحات السلام" في العام 2003م. ذلك نفس شخصي مختلف ومناخ سياسي مغاير الذي صاغ فيه رؤاه حول ذات الموضوع "الحرب والسلام في السودان"، نفس جعله حتى نهاية الألف صفحة من الكتاب ينعت نظام الإنقاذ بحكومة أو نظام الجبهة الإسلامية القومية، مناخ ظللته سحابات الحرب المستعرة وقتها ونفس صبغته مواقع د. منصور على قمة هرم المعارضة سواء على مستوى موقعه القيادي في الحركة الشعبية أو داخل الصفوف القيادية للتجمع الوطني ممثلاً لها.

من أتون المناخ الحار وجاف تنتقل بنا مقالات الدكتور إلى مناخ آخر دافئ ممطر، فالشراكة وقد استوثقت عروتها صارت حكومة الجبهة الإسلامية ونظامها بفعل المناخ الجديد إلى حكومة السودان نافياً في تشدد –مرة- أن قد الاتفاقية أبرمت بين الحركة الشعبية لتحرير السودان والمؤتمر الوطني، بل بينها وحكومة السودان مما يلزم أي حكومة تفرزها مستقبلاً الانتخابات القومية باحترام الاتفاقية والدستور، متجاهلاً بأن الأرضية التي تواثقت عليها قوى المعارضة مع الحركة الشعبية أكثر صلابة ومتانة بما يجعلها الأكثر قدرة ليس على إحترام الاتفاقية والدستور فقط بل وتطوير ما اعتورهما من نقص في صالح بناء الدولة السودانية. أنا هنا أتحدث فقط عن إختلاف المناخ الذي أفرز الكتابين، رغم أن الدكتور يزعزعنا مرة أخرى وبعد سبعين صفحة أو نيف بتشديده على من أراد تحليل الواقع بناءاً على المعطيات الموضوعية للقضية، وهي في هذه الحالة كما يقول، تلك التي أفرزها اتفاق ارتضى بها طرفان: الاتفاق هو اتفاقية السلام الشامل والطرفان هما (الحركة الشعبية والمؤتمر الوطني)، وهذه لزعزعة أخرى لم يستطع فيها مغالبة الطبع الذي دائماً ما يغلب التطبع.

وتتكاثر الزعازع في حسن النية (المشوب بالحذر لزوم الحذر نفسه) الذي صاحب رؤى الدكتور في كتابته حول تنفيذ الاتفاقية، وكما قال فإن الأعمال بخواتيمها، "ولن تحسن الخواتيم إلا إن أخذ كل طرف من الطرفين الموقعين التزامه نحو الاتفاق مأخذ جد، وحمل من معه من الأنصار على ذلك"، وهذا القول لم يجيء في أول المقالات التي كتبها بعد التوقيع مباشرة في العام 2005 "إتفاقية السلام البدايات والمآلات" بل جاء في مقال "السودان .. إلى أين المصير؟"بعد أن إنساب ماء غزير تحت الجسر. فإن كان حسن النية متوفر مع إنطلاقة التنفيذ في بداية الفترة الانتقالية بسبب الانتقال من الأجواء الحارة الجافة إلى الدافئة الممطرة، فأربعة أعوام كافية لزعزعة حسن النية تلك في المؤتمر الوطني وليس بنسبتها إلى البعض دون البعض والإرتكاز (هروباً) على مفهومي صقور وحمائم، فالطيور على أشكالها. ولا تفسير لحسن النية ذاك الذي توفر للدكتور منصور خالد في تنفيذ المؤتمر الوطني للاتفاقية، واعتباره بخواتيمها، إلا إن كان الغرض هو القفز بها إلى مرحلة تنفيذ الاستفتاء دون اعتبار للمراحل المهيئة لذلك كما هو وارد بين طياتها. هذا ما يدعمه قول كثير من قادة الحركة بأن المؤتمر الوطني والبشير هم الأكثر شجاعة لتوقيعهم إتفاقية السلام وإقرارهم بحق تقرير المصير لأول مرة في تاريخ السودان، وهو قول للإستهلاك وقراءة (هينة) لمجريات الأحداث.

ولعل رؤيته في عدم الانتقاص من الاتفاقية بل البحث عن وسائل للارتقاء بهذا البناء الغض الطري كما أسماها، والتي جاءت في نقد ما ذهب إليه بونا ملوال عندما قال للشرق الأوسط في 2004 "حرص الطرفان على أن تكون اتفاقية السلام آلية لاقتسام السلطة بينهما أكثر منها آلية لحل النزاعات وحسم المشكلات كما توقعتها أغلبية السودانيين"، تذهب إلى بند حسن النية من تلك الزعازع، ويدعمها أكثر حيرته من موقف الدكتور حيدر إبراهيم الذي صرح به في ذات العام الذي أورده في صلب مقاله الأول (حسب الترتيب الزماني)، إذ قال د. حيدر "يصاب المرء بالحزن والخوف من المجهول حين يتذكر الطريقة التي اقتسم بها الطرفان السلطة والثروة" ثم يتساءل:"هل هذا الذي يتم تقسيمه بالنسبة وطن أم غنيمة ذبيحة. ولكنها بالفعل شركة مساهمة وليست شراكة سياسية كما يروج لها الطرفان".

وتقود زعزعة حسن النية المتوفرة لدى الدكتور إلى محاولات للتبرير أكثر من كونها مناصرة للحق، فهو يرهن إمساك القوى التي تحدث التغيير (الحركة الشعبية والمؤتمر الوطني) (هذا إن اعتبرنا هناك تغيير إلى الأحسن) بمفاتيح التغيير حتى ترسي قواعده، جاء هذا بعد حصيلة عامين من حساب الربح والخسارة، متجاهلا بذلك تأكيدهما الحرص على حل النزاع السوداني بصورة عادلة ومستدامة بمخاطبة جذور المشكلة وخلق إطار للحكم يقوم على الاقتسام العادل للسلطة والثروة وضمان صيانة حقوق الإنسان. وهو في ذلك يذهب أكثر إلى تبرير ثنائيتها بفرع كامل من إحدى مقالاته.

الاتفاقية قبل أن تكون نصوص هي روح، وحين تفارقها الروح تصير عوجاء عوج الطندب، فالدكتور يشير في مقاله الأول "اتفاقيات السلام البدايات والمآلات" إلى أن بروتوكولات السلام اقتربت من قضايا التحول الديمقراطي اقتراباً سليماً، وأنها ذهبت مباشرة إلى جذور الأزمة، ونأى الطرفان بقدر ما استطاعا، عن النظر إليها عبر عدسة أيديولوجية مشوهة. وفي هذا القول زعزعة أكدتها مجريات الأحداث، فالطرفان لم يلتزما بحرفية نصوص الاتفاقية ولا الدستور في هذا المجال ناهيك عن استلهام روحها، ولأنها مثل الطندب فكلما شاءوا الإمساك بفرع منها كاد أن ينكسر ومواقف الحركة الشعبية أكثر خيبة من الطرف الآخر لأن ذلك منه متوقع ومن صميم عقيدته السياسية.

اتفاقية السلام هل هي صناعة خارجية؟! فيها زعزعة بينة ذات حدين، حد ميت استنكر فيه على قطبي المهدي القيادي بالمؤتمر الوطني زعمه بأن الاتفاقية صناعة أمريكية رؤى وصياغة، باعتباره مفكر استراتيجي في حزبه ولا يندفع في الأمور على حد زعم الدكتور، وبالتالي فهو قد ظلم غيره. والمظلوم هنا وفدا التفاوض من الطرفين حسبما فهمت. وأقول حد ميت إستناداً إلى زعزعة المناخ عالية الذكر. أما الحد الآخر فهو الحاد الذي أشهره بعد سطور من ذلك في وجه المرحوم الدكتور فاروق كدودة الذي صرح للحياة اللندنية بأن كل الاتفاقيات صناعة أجنبية والدليل (سمبويا)، هنا هاج الدكتور منصور –ولا أجد تفسيراً لذلك- مشهراً ذلك الحد حين يقول متسائلاً: ثم ماله سيمبويا؟ أوليس هو الرجل الذي ابتعث التجمع الوطني وفداً ليلتقي نائبه السفير أمبويا في نيروبي بقيادة نائب رئيس التجمع عبدالرحمن سعيد حتى يتمكن التجمع من المشاركة في مفاوضات الإيقاد؟ ويقترب أكثر بنصله الحاد المشهر في وجه كدودة (وبالتالي المعارضة) قائلاً: ثم ألم نرتحل جميعاً لنناهض النظام من أسمران ونعقد الاجتماعات في كمبالا وأديس أببا ونيروبي، وثم وثم...". ففي حد النصل الميت يستنكر على قطبي زعمه بأجنبية الاتفاقية صناعة ورؤى بأنه ظلم غيره في ذلك، وفي جانب نصله الحاد يهاجم كدودة ومن شاكله مستنكراً عليه زعمه بأنها أجنبية الصناعة ليصل في هجومه عليه إلى الإقرار بوجوب التدخل الأجنبي "فالسودان لم يعد الوطن البكر ولا الدرة العذراء. تلك الدرة ثقبت منذ زمان، وفي هذا قول يستفز أنصار الجندر.

فأما القول بأنها ليست رؤى أجنبية فهو مجاف للحقيقة، فإن صيغة (نظامين في دولة واحدة) الذي شكل القاعدة الأساسية للاتفاقية هو رؤية أجنبية خارجية أمريكية، خرج بها مركز الأبحاث الاستراتيجية والدراسات الدولية (CSIS) وهو من أهم مراكز البحوث الأمريكية كما ذكر ذلك الدكتور منصور نفسه سواء في كتابه (أهوال الحرب وطموحات السلام) أو حتى آخر لقاء معه في اليومين الفائتين في حواره مع جريدة الرأي العام السودانية. وحتى القول بصياغة أفكارها الأساسية ليس أجنبياً ففيه تجني على الحقيقة وإنكار للدور الكبير الذي لعبته مجموعة الأزمات الدولية وهي على حد علمي ليست سودانية، سواءاً كان هذا الدور في مجموعة الأفكار التي ساهمت بها في قسمة السلطة أو الثروة. أما إذا كان الاحتجاج عن صياغة تفاصيل التفاصيل بحيث يتم إقتسام السلطة والثرة وأيهما يأخذ نصيب الأسد فيها فهذا ما جعل المفاوضات تطول وتتطاول وتجعل معارضيها يقولون إنها مجرد آلية لإقتسام السلطة والثروة بين الطرفين.

وسأورد هنا واقعة فيها من الطرافة بقدر ما فيها من السخرية السوداء، ففي منتصف العام 2001م، وقبل أن تتضح الرؤى حول مستقبل السلام في السودان وفي ظل تراجع العمل المعارض الذي كانت آثار ضغطه على النظام الحاكم وقتها بين وواضح، قمنا زميلي مجدي وأنا، وبعد التفكير ملياً في الواقع الراهن وقتها، بصياغة إتفاق محتمل بين الإدارة الأمريكية والنظام الحاكم جاء في عشرة نقاط، وكان عبارة عن محاولة قراءة استباقية لما يمكن أن يحدث. و (الاتفاق) في جوهره لا يجافي الواقع الذي أثبتته الأيام كثيراً، خاصة بعد تداعيات أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، ومسار عملية السلام فيما بعد. وصغنا ذلك باعتباره ترجمة غير دقيقة من اللغة الانجليزية لاتفاق بين الإدارة الأمريكية والحكومة السودانية، ووزعناه على بعض الصحف. أثار ذلك (الاتفاق) جدلاً كثيفاً، بعد أن تداولته الصحف على نطاق واسع وبحث فيما وارءه الفضائيات، مما أضطر وزير خارجية النظام وقتها إلى نفيه بشدة واضطر الإدارة الأمريكية أيضاً إلى نفي مماثل، ونحن نضحك بسخرية، ولكن وقتها علمنا أن مياه ذات رائحة تجري تحت الجسر.

نعود إلى زعازع الدكتور منصور التي جاءت تحت أربعة عناوين رئيسية، سأعيد ترتيبها حسب مواقيتها الزمانية، الأول "اتفاقيات السلام البدايات والمآلات" والثاني "عامان من السلام حساب الربح والخسارة" والثالث هو " السودان .. إلى أين المصير؟" أما الرابع فقد جاء تحت عنوان "التغيير السياسي في السودان أي تغيير .. ولماذا التغيير؟"، فقد اتسمت تلك المقالات بالتكرار باعتراف الدكتور نفسه " نفعل هذا بعد عامين من إقرار الاتفاق على مشهد من العالم، تذكرة لمن لا يتذكر، وتبياناً لمن جهل أو تجاهل، وتنبيهاً للمتشاطرين الجدد، رغم إنا لا نقول إلا قديماً ومعاداً من قولنا مكروراً"، ومن المنصف أن نعزي ذلك إلى نشر تلك المقالات في الصحف السيارة في أزمنة متفاوتة تتجاوز السنتين أحياناً، وهو طبيعي في تلك الحالة، ولكن أن يضمها كتاب واحد وبترتيب زمني مختل فهذه زعزعة، خاصة وأن عهدنا بالدكتور الدقة والتدقيق والتجويد فيما ينشره.

ما زعزعني أخيراً هو ما جاء في ختام المقال الثالث (حسب ترتيبي)، وكان في سياق موضوع، ولا أقول قضية، الشماليين في الحركة. "نقول لرهط الشامتين أن السودانيين الجدد سيبقون، إن انفصل الجنوب، تحت خيمة ما تبقى من السودان، لا يقتلعون منه إلا يوم أن تقتلع الخيمة." وما تلا ذلك من قول إلى أن "أو إن شاء الشامتون بلا جدوى الرد على السؤال ...."، فهذا لا يشبه الدكتور.

عود على بدء .. أقول إنني أقرأ ما يكتبه الدكتور دائما بالطريقة الصعبة كما فسرتها في مقدمة هذا المقال، فهي كتابات محفزة تستثير العقل إتفاقاً أو إختلافاً، كما إنها غنية ومشحونة بمعلومات لا تتوفر الإ للموسوعيين والعالمين ببواطن الأمور وظواهرها معاً، فشكراً لمدارك التي ضمتها بين دفتي غلاف واحد.

هناك تعليق واحد: