"جوع كلبك يتبعك" قول قديم حاول تطويعه الحكام على المحكومين في كثير من النماذج والأمثلة منذ قدم التاريخ، بعد أن أثبت فعاليته على فصيلة الكلاب. أما الكلاب التي أنا بصددها الآن فهي شيء مختلف. وحتى لا يذهبن الظن بك مذاهب بعيدة ويؤدي بك إلى التهلكة، فإنها الكلاب التي يتم تدريبها لإنقاذ حياة البشر في مواقع الكوارث التي تخلف حطاماً وركاماً وأنقاضاً ربما يكون تحتها من هو على قيد الحياة أو حتى جثث لأموات قضوا نحبهم جراء إنهيار ما خلف تلك الانقاض.
ففي جلسة ضمتني وآخرين أثناء عيد الأضحى المبارك، وهي المناسبة التي تجمع بين معارف لم تسعفهم مشاغل الحياة للتواصل واللقاء لزمن طويل ربما لسنوات، طاف الحوار بعوالم شتى. من بين الحوارت الشيقة التي دارت أثناء تلك الجلسة جاءت سيرة الكلاب في منعطف حديث عن سلالاتها وإستخداماتها، وفي العادة نستخدمها في السودان للحراسة ولذات الغرض يستخدمها الرعاة لحراسة القطيع، وعند المولعين بالقنيص يستخدمونها في الصيد، ولعل أشهر كلب هو الذي يملكه المبدع أحمد الفرجوني، وكان قد بكاه قصيداً عندما دهسته عربة وقال فيه:
ما دوامة يا تمام كيوف الشارع
اصلو الدنيا معدا والمعيشة شوارع
بعد ما كت سباحا يمينك ضارع
كتلت الليلة واتدردقت فوق الشارع
ضربك لوري عاد ينشل يمين السايقو
وينعصر النفس تعدم عليهو طرايقو
مثل ما تف زورك قندراني يضايقو
يتفو تفيف ملاح ما يلقا زولا يلايقو
كل الحديث عن وفاء الكلب والشعر والصيد يرطب المجالس وينديها، ويخلف ذكريات جميلة يستحسن ترديدها، وحتى الاستخدامات الشرطية للكلب تجعل منه أسطورة حين يستخدم في الكشف عن المجرمين ومطاردتهم، وفي الكشف عن المخدرات، وحتى حين إستخدامه لقمع المظاهرات من قبل الأنظمة البوليسية لا يقلل ذلك من قيمة الكلب وإن كان يقلل من مستخدمه لهذا الغرض، وحتى تلك الكلاب المستنسخة والمعدلة جينياً التي توصلت إليها معامل كوريا الجنوبية يمكن بلع الغرض من استخداماتها المستقبلية في علاج بعض المراض كما ذكر العلماء. لكن عندما تواصل الحديث عن الكلب ووصل مرحلة كلاب الإنقاذ، أنقبضت الأنفس ومن بينها نفسي، بل كدت أن أتقيأ اللحم الذي أكلته قبل قليل.
قال المتحدث الذي ابتدر الحديث عن هذا الموضوع، وهو ذو دراية بالكلاب وأساليب تربيتها واستخداماتها، إن الكلاب التي تستخدم في إنقاذ البشر والتعرف عليهم تحت الأنقاض تربى بطريقة خاصة. فهي غير الخصائص المتعارف عليها من قوة حاسة الشم والسمع والبصر، عليها أن تتعرف على رائحة البشر من فوق ركام الأنقاض. يتم تجويع تلك الكلاب لدرجة أن تلتهم أي طعام يقدم لها بعد ذلك، والطعام الذي يقدم لها في هذه الحالة هو لحم بشر. لماذا لحم بشر يا هذا؟ حتى تتعرف على رائحة البشر وهي تبحث تحت الانقاض، وهي في حالة جوع شديد. لم أصدق تلك الرواية وشكك فيها غيري باعتبارها نوع من الحديث الذي يتجاوز حدود المعقول، لكنه أصر على قوله مستشهداً بدلائل تبدو منطقية رغم أن العقل يرفض عقلنتها.
لم أجد أثناء بحثي معلومة واضحة أو قولاً صريحاً عن هذا الموضوع، ولكن هناك إشارات غامضة ربما توحي بصدق حديث الرجل عندما قرأت تقريراً عن كلاب الإنقاذ في الشبكة العنكبوتية في موقع شبكة الأنباء الإنسانية (إيرين)، حيث قالت آن كريستين (رئيسة لجنة تدريب الكلاب في الجمعية الوطنية للبحث والإنقاذ في الولايات المتحدة)، في تصريح للشبكة إن كلب الكوارث يجب أن يكون واثقاً من نفسه وشجاع وخفيف الحركة. كما يجب أن يكون قادراً على التركيز إذ أن عليه استنشاق الحطام وتجاهل الروائح الأخرى والضوضاء مهما كان الإغراء.
يستغرق تدريب فريق مكون من الكلب ومدربه حوالي سنتين قد تزيد أو تنقص قليلاً، باعتبار أن المدرب جزء لا يتجزأ من تدريب الكلب، وعليه خلق علاقة قوية جداً مع الكلب للتمكن من السيطرة عليه لأنه يتم إعتمادهما كفريق ويعملان معاً كشريكين لمدة قد تصل إلى عشرة سنوات.
ويواصل التقرير في ذات المنحى الذي يثير الشك في تجويع الكلب وإطعامه لحم بشري ويذكر ""تدرك الكلاب أن رائحة الإنسان مكونة من روائح مختلفة- مثل الملابس التي يرتديها الناس والغذاء الذي يأكلونه ودهان أحذيتهم وغدد العرق. ومن المفهوم بصورة عامة أيضاً أنهم يقومون بتحديد رائحة خلايا الجلد التي تسقط من البشر بمعدل 40 ألف خلية في الدقيقة. وبمجرد التأكد من العثور على شخص يتم إبعاد الكلاب حتى يتم إخراج الضحية بأمان." وفي هذا القول إشارتان، الأولى أنهم يقومون بتحديد رائحة خلايا الجلد البشري والثانية هي إبعاد الكلب حتى يتم إخراج الضحية بأمان. وهما إشارتان توحيان بما ذهب إليه محدثنا أثناء تلك الجلسة.
وفي نهاية التقرير، تكاد تلك المعلومة تقترب من الحقيقة حين يصل التقرير إلى مرحلته النهائية وإنقاذ الضحايا الأحياء، لتبدأ المرحلة الإنسانية من عملية الإغاثة باحتلال مساحة أكبر من العمل ويتم إحضار كلب مدرب آخر- متخصص في البحث عن الجثث – للعثور على الموتى.
إنه لشيء يدعو للراحة إذ لم نبلغ تلك المرحلة بعد، فالأنقاض عندنا ليست بتلك الكمية التي يصعب إزالتها باليد أو ببعض الآلات في دقائق معدودات، والكوارث عندنا بشرية وليست طبيعية في غالب الأحيان. ففي خبر بجريد السوداني الغراء أن رئيس غرفة البصات السفرية عزا زيادة اسعار التذاكر لنسبة بلغت 30% لفك الإختناق الكبير الذي حدث في الميناء البري بمناسبة العيد نتيجة الزيادة الكبيرة في أعداد المسافرين وتكدسهم. وتلك الزيادة مبرراتها عدم وجود بصات لسفرها للولايات وبعضها في الصيانة. هذا الخبر ذكرني بتلك المعلومة الفظيعة عن كلاب الإنقاذ، فهناك يجوعونها حتى تضطر لأكل لحم بشري، وهنا يمكن لأي جهة أن تزيد الأسعار لمبررات واهية، وكأن العيد هبط فجأة من السماء دون سابق إنذار، ويضطر المواطن المسكين لإبتلاع طعم الزيادة ليلحق بأهله ويفرح بالعيد وسطهم. كثيرة هي الأشياء التي تحدث عندنا وتشبه حالة تجويع كلاب الإنقاذ حتى تضطر لأكل لحم آدمي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق