استيقظتُ - كعادة يومية – في السادسة صباحاً، ودرجة الحرارة في مستوى درجة غليان البشر. قبلها بفترة، لا أدري مداها، كنت كدراً لدرجة بدأت أتحسس معها تقاطيع وجهي. وجهي في العادة، وهذا ما تعكسه لي المرآة يومياً، ممتلئ يتناسب وجسدي الربع الممتلئ. لا أدري لم انتابني الإحساس بأنه ملئ بتعرجات غائرة العمق، وأن هناك حفر ونتوءات. لم أنتبه لنفسي إلاّ وأنا اصرخ بصوت حاد حين ضبطت إصبعي يستكن على فتحة أنفي أثناء تجواله وأنا بين اللاوعي وبقايا نعاس عالقة، مما جعلني استعجل ذهني للاستيقاظ الكامل.
هذا كله من الأحلام والكوابيس التي بدأت تغض مضجعي في الفترة الأخيرة. لم أهتم يوماً بتفسير أحلامي ولا تتبعها، وأسخر من أولئك الزملاء الذين أول ما يبدءون به قراءة الصحف والمجلات هو الأبراج، لدرجة أنّ بعضهم تُسيِّره هذه المقولات ويتفاعلون معها لحدّ الهوس. أما أن تستغرقني هذه الأحلام والكوابيس كل هذه المدة!! فهذا ما لا احتمله. وجميعها ما استطعت الإمساك بطرف خيط من خيوطها للوصول إلى تفسير اقتنع به على الأقل. بل ما أكاد أن أمسك ببداية خيط حتى يصير إلى التلاشي ويبدو كل شيء ضبابياً، تتكاثف حوله ظلمة تجعلني أتخبط دون جدوى. ولحسن حظي سرعان ما تتبدد هذه الحالة وأعود طبيعياً مجرد دخولي الحمام مهيئاً نفسي للخروج إلى العمل.
وأنا ألملم أطراف نفسي خجلاً – وقد اتكأت نصف اتكاءة على الفراش بين الجلوس والاستلقاء– أتاني صوت زوجتي زينب بنبراته الساخطة كعادته هذا الأسبوع:
- ما بك هذه الأيام؟! اللهم ألزمنا الصبر.. إزعاج في الليل وإزعاج في الصباح.
وأضافت هذه المرة:
- لو سِمِعْتَ كلامي..
وطبعاً لم أسمع كلامها ولن أسمعه، فهي في الأيام الأخيرة تبدو «كالمخطرفة»، أو هو ما تؤمن به دون إقحامي في عالمها اللانهائي هذا.
حقيقة صار لي أسبوع وأنا على هذه الحالة التي تفاجئني فجر كل يوم. لم أجد تفسيراً لذلك، بل لم أهتم بعلاج هذه الحالة لأنني سرعان ما أتجاوزها كما ذكرت. لم أشكو لأحد سوى حرمنا المصون– زينب – فكانت بعد البسملة تستعيذ بالله من الشيطان الرجيم ثم تحوقل بعد قراءة بعض الطلاسم والأوراد أثناء تطور الأمر. فهي وقد أخذته ببساطة شديدة في اليوم الأول، أنَّبتني أنني ربما أكلت بشراهة يوم دعوة الغداء لزواج بنت أحد جيراننا. نعم.. حتى أنا أمَّنتٌ على ما قالته، خاصة وأنني أتجلى في مثل هذه الولائم وأسعد بإقامتها. لم يكن الأمر كذلك في السابق، فهو لا يعدو مجرد مجاملة ومشاركة تقوي من حبل العلائق الحميمة أصلاً، أما الآن فعليّ باسترجاع ما دفعته، وفوق ذلك أنعم بوجبة دسمة تحمل جسدي على البقاء والمقاومة مدة أطول. لذلك أمنت على قولها ولم أُعِر الأمر اهتماماً أكثر من ذلك. لكن ما كان من أمر اليوم التالي جعل نظراتها تلوحان ببعض القلق والشك. هي صفحة بيضاء أمامي لدرجة أنني ألمح كل تعكر يصيبها.. خمسة وعشرون عاماً ليست بالزمن القصير الذي يجعلني لا أدرك ما تحمله نظراتها من معني. خرجت ذاك اليوم تلاحقني تلك النظرات رغم محاولاتي تجاهلها.
كان اليوم الثالث من حالتي يوماً فاصلاً. لا أدرى فاصلاً لماذا أو بين ماذا؟! ولكنه كان فاصلاً – على الأقل – بالنسبة لحرمنا المصون. هو فعلاً تطور أكثر من اليومين الفائتين وصار يأخذ بعداً أكثر جدية. صحتُ بصوتٍ مخنوق منادياً لها فجر ذاك اليوم والفزع يكاد يسحقني. سألتني– بالطبع – عن ما يحدث بعد أن سَخَطَت وشَتَمَت ولَعَنَت حظها التعيس لأنني أيقظتها من نومها في وقت مبكر، وقطعت عليها– ربما – حلماً سعيداً. كان علي امتصاص هذا الغضب، لذلك بادرت بالشكوى لها عن ما جرى لي. رويتُ لها أن أرنبة أنفي تتمطى وهي ملتصقة بأطراف أصابعي حتى تصل أسفل ذقني كلما تحسستها، وما أن تصل أسفل ذقني ترتد بسرعة لترتطم بوجهي مسببة لي ألماً فظيعاً، إضافة لعذاب النفس. هذا ما كنت أحسه حقيقة لحظة أن صرخت مرعوباً، بل وأشاهده بأم عيني ولا أدرى أن كنت في حالة وعي أم لا؟!
وقفت حرمنا المصون، بل هي في وضع بين الوقوف والجلوس، كأني بها أرادت الفرار فأصابتها صاعقة جمدتها لتبدو في هذا الوضع فاغرة فاها غير قادرة على تحريك شفتيها. ربما هي حالة «انْبِهَاط» ستزول قريباً.
أخيراً تهاوت على السرير بجانبي وهي تأخذ أنفاسها بصعوبة. انخلاع عينيها من محاجرهما أفسد كل صور التهذيب أمامي أثناء محاولاتها إخفاء نظراتها تلك. لم يفتح الله عليها بكلمة تواسيني بها أو حتى تشتم حظها العاثر وتلعنه كما فعلت قبل قليل. وبقدر علمي بتهذيبها، وأن ما أصابهـا تجاهي هو حالة طارئة ستزول بزوال سببها المجهول، تعذّبتُ – بذات القدر – لأني رويتٌ مشكلتي لها، ربما سببتُ لها ألماً ستعاني منه طوال اليوم.
بعد تأهبي للذهاب إلى المكتب واستعادتي لحالتي الطبيعية، سمعتٌ زينب تتحدث من وراء ظهري عن انتظارها لي للذهاب معها إلى شخص يمكنه إيقاف كل ذلك عند حده. ضحكتُ رغم أنفي وأنا لا أود تعكير صفوها أكثر مما هو عليه. ولم أنس موقفها هذا طيلة نهار ذاك اليوم إلى أن عدت من المكتب آخر النهار. لم ألحظ شيئاً غير عادي من شدة التعب، ولا رغبة لي في تناول وجبة الغداء. هويتُ مستلقياً على أقرب سرير وأنا أقذف بحذائي وملابسي بعيداً، وغفوت بملابسي الداخلية دون ساتر يحجب عني فضول الزوار في هذا الطقس الحار والغرف لا تطاق.
قبيل مغيب الشمس، رفعت رأسي مستيقظاً وأنا أفرك عيني لإثبات حالة الاستيقاظ الكامل. هنالك حركة غير عادية تجرى من حولي.. لا أستطيع تمييزها بوضوح. وجدتُ زينب جالسة بجواري، وتعبِّق في أجواء الغرفة رائحة نفاذة.. لكنها عَطِرة. فركتُ عيني مرة أخرى وقد فاجأهما الدخان المتكاثف برائحته المميزة. زوجتي في كامل زينتها والدار غاية في النظافة والترتيب الأنيق. دون شك أصابتني دهشة، وحلَّق داخلي تساؤل عن حقيقة هذه التجليات. نعم.. هي ليست بالمرأة القذرة، لكنه يوم فوق العادة. سألتها إن كانت راغبة في زيارة وتود الاستئذان.. أجابتني بهزة من رأسها دلالة النفي. تساءلتُ إن كانت عائدة للتو من الخارج إذاً؟! فلما أجابتني بالنفي أيضا كان من الطبيعي أن تتملكني الدهشة، وكذلك مظاهر الاستغراب، ولِي حق المطالبة ببعض تفسير على الأقل. لكني لم أفعل، وآثرتُ التريث ليقيني أنها ستبادر إلى ذلك دون الحاجة إلى مساعدة من أي جهة.
كانت لحظة صمت طويلة بعض الشيء، وهي تبدو مرتبكة يتملكها اضطراب تحاول إخفاءه. لحظات الملل تسربت وسط حالة الترقب والتردد.. كدتُ أصرخ فيها مطالباً بتفسير لكل هذا. لكنها قطعت علي الطريق وهي تأمرني.. نعم تأمرني بتناول كوب العصير الذي أمامي. إنه يوم مفاجآت ما في ذلك شك.. إنها تأمرني ولا أنتبه لكوب العصير الذي بجواري مأخوذاً بالموقف المسيطر. ولما كان الطقس حاراً والظمأ يحرق جوفي، نظرتُ إليها بامتنان شديد.. قلتُ في نفسي «نِعْمَ الزوجة هي». تجاهلتُ كل الذي قد كان، حتى وجبة الغداء لم أنتبه إلى أسبقيتها المنطقية قبل العصير. المهم في الأمر أنني رشفتُ العصير بلهفة المتعطش دون توقف حتى منتصف الكوب، ثم وضعته في سهولة لآخذ أنفاسي قليلاً. عندها بدأ شئ ما يحدث.. طعمٌ لاذعٌ في حلقي والفراغات التي حوله.. طعمٌ لم أدرك كنهه. ابتلعتُ ريقي بقوة وأنا أنظر من طرفٍ خفي إلى زينب لاعقاً شفتي بأطراف لساني لأبتلع ريقي مرة أخرى. كل هذا دون التمكن من معرفة سر هذا الطعم.
إنها تبتسم.. ابتسامة من نوع خاص، جعلتني ارتعش، وملأت صدري بشيء كثيف ثقيل. بحثتُ عن كلمات أقولها دون جدوى، أو ثورة تبدِّد هذا البرود، وأيضا دون جدوى. تلفتُ حولي.. ليس أمامي سوي كوب العصير تناولته متجرعاً ما بقي فيه على مضض وأنا مغمض العينين، محاولاً تجاهل ذلك الطعم العالق في حلقي وفي ذهني.
سمعتها تتنهد بارتياح ونظراتها آخذة وضعاً أكثر راحة وهي تفرغ آهاتها من صدرها. أخيراً سألتها في حنق بعد فقدان السيطرة على التماسك أكثر، وأنا أحس ضعفاً وضموراً في كل مراكز القوة داخلي، سألتها عن حقيقة الأمر وفي ذهني أفكار متضاربة.
قالت في زهو:
- لو تركت عنادك وذهبت معي لكان العلاج أكثر فائدة.
الصورة بدأت تتضح ملامحها والطعم العالق في حلقي يزداد مرارة.. ها هي إذاً وقد بدأت خطوات عملية. علمتُ أنها، وبعد فقدانها الأمل في الرضوخ إلى رأيها ومرافقتها، خرجت مبكرة تقصد شيخها «أب إيداً لاحقه» كما تسميه، تشكو حالها وحال بَعْلِها. وأنه - أي الشيخ - كتب لها ما كتب من الأحجبة، تَحْرِق بعضه مع البخور، وتُذيب حبر الآخر لتسقيني له مع العصير، شرط اكتمال هذه الإجراءات قبل مغيب الشمس. ثم أنهت روايتها بأن الشيخ يلحُّ على مقابلتي شخصياً، لأن الوسطاء لا ينقلون أعراض «المرض» بصورة كاملة وصادقة مما يؤثر في العلاج. شربتُ العصير إذاً.. وشربتُ المقلب، ولكني ضحكت.. ضحكتُ كما لم أضحك من قبل. ومن خلال دموعي المنهمرة، من أثر الضحك الطويل، رأيتُ إمارات الغضب مرتسمة على وجهها فاكتفيتُ بذلك. ران صمتٌ وجدتُ نفسي بعده في موقف لا أحسد عليه، إذ صارت تؤنبني وتوبخني معددة لي ما فعلته من أجلي اليوم، فهي لم تتناول وجبة واحدة منذ الصباح بسببي. صار صدرها يختلج وعيناها مغرورقتان بالدموع. حزنتُ لأجلها واضطرمت في نفسي موجات تأنيب الضمير نتيجة الإساءة إليها.
من يومها وهي تلعنني وتسبني كلما مرَّت بي الحالة التي صارت ملازمة ليقظتي عند الصباح. وكان يوم الخميس.. وهو الذي استيقظتُ فيه متحسساً وجهي بيدي حتى استقر إصبعي على فتحة أنفي وصرخت. وعند ترامي صوتها المنفعل إلى مسامعي، تقهقرت صرختي وانحبست بقاياها داخلي، دون محاولة للأطلال برأسها مرة أخرى، متهيئاً لسماع المعزوفة اليومية. الغريب في الأمر وكأنني وطَّنتُ نفسي على ذلك، حيث لا انفعال ولا ثورة.. بل لا أجرؤ على إيقافها ولو بالحسنى.. فقط أتركها على سجيتها حتى تهدأ. هل هو اعتراف بذنبي تجاهها وما تتحمله من أجلي؟! «ليته يكون كذلك».
لملمتُ أطراف ثوبي، وأنا أزيحُ غطائي عن جسدي، منسلاً من الفراش دون إحداث صوت يوقظ صوتها مرة أخرى. وبعد تجاوزي باب الغرفة صار كل شئ عادياً كما الأيام السابقة، منذ حوالي خمسة وعشرون عاماً بعد الشهر الأول من زواجي من زينب. اتجهتُ إلى الحمام– كأول فعل صباحي – وأنا أحرك يدي، سائراً بخطوات رياضية لطرد بقايا النعاس والاسترخاء التي ما تزال عالقة بعقلي وجسدي البدين.. نعم جسدي بدين، لكني لا أرى في ذلك عيباً خلقياً، ولا أخلاقياً.. إن بدانتي مكتسبة وليست أصلاً فيَّ.. نتيجة طبيعية لهزيمة دواعي الحركة والنشاط بفعل الزمن، فأنا لست من أسرة الأصل فيها البدانة.. ثم أن بدانتي ليست مكتسبة بطرق غير شرعية كما الكثيرين الذين تتدلى كروشهم أمامهم في تحدٍ ظاهر لأنفسهم ولغيرهم. لكني لا أميل إلى الرياضة ولا ممارستها، فمنذ بلوغي سن الأربعين بدأ جسدي في الازدياد دون ترهل شاذ - نعمة من الله لم أسع إليها - لكنه جسدي الربع تظهر عليه آثار السمنة في يسر. وحتى الآن، وقد تجاوزتُ الخمسين من عمري، أُطِمئِنُ نفسي بأنه في استطاعتها إزالة الشحم المتراكم في سهولة.
الكدر والبؤس عالقان في نفسي رغم مجهوداتي المبذولة أثناء الاستحمام وطيران كل ذرات الكسل. خرجتُ من الحمام عائداً إلى غرفتي مرتدياً ملابسي استعداداً للخروج إلى العمل.. ذات الشيء الذي أفعله يومياً.. نظرت إلى المرآة تلقائياً متأملاً هندامي.. ربما ينقصه شئ. وأخيراً أخرجتُ زجاجة عطري المحببة من مخبئها بعد ترتيب ما تبقى من شعر على جانبي رأسي لكي تكتمل صورتي المعتادة. وهذا «التهندم» عهدي به قريب يرجع إلى سنوات قليلة للوراء بعد تجاوزي عهد «الهندمة». أما العطر فهو أقرب.. لا أذكر قبل سنوات استعمالي له سوى في مناسبات الأعياد، بل أكثر تحديداً في أول يوم من كل عيد، وحتى ذلك كان يأتي عفواً. ولكني الآن أخصص له ميزانية متجاوزاً كل أعراف التعامل مع الراتب الشهري. وأنا أول من لا يشجع ذلك بحكم وظيفتي التي تفرض عليَّ حسابها بدقة، تفادياً لحدوث أي خلل.
دخلت زينب حاملة بين يديها «كباية الشاي الساده» وكوب الماء وقطعة الخبز «أَسْنِد بِيها مَعْدَتِي».. كما تقول لي. وبهذه المناسبة، أنا لا أطيق الشاي السادة، ولا كنت يوماً أتعاطاه، ولو بعد الوجبات كما يفعل الكثيرون، دعك عن شاي الصباح فهو ينزل في حلقي كالعلقم، أبتلعه في صعوبة ومرارة. لكني ذات صباح لم أجد الحليب ميسوراً، وبحساباتي ستختل ميزانيتي المرصودة بدقة، فكان أول بند نقرر إلغائه من جملة بنود كثيرة اضطررنا إلى إلغائها مع مرور الزمن. الزمن والحاجة أجبراني، خاصة شتاءاً، على تعاطي الشاي السادة ومعه هذه القطعة المتبقية من وجبة العشاء تحفظها لي زوجتي «أَسْنِدْ بِيها مَعْدَتِي»، فربما يتأخر الإفطار، أو يُلغي فجأة كما كل الأشياء الفجائية.
وهي تهم بوضع حمولتها على الطاولة القريبة مني، انقلب كل شئ على أعقابه وكذلك وجهها. أنا لا أؤمن بالشؤم في حياتي، بل لا أؤمن بأي شئ في حياتي سوي عملي. مشهد كوب الشاي المتهاوي على أرضية الغرفة متناثراً في معظم أرجائها زاد من كثافة الكدر المتصاعد أعلى وجهي، وصار كل شئ ضبابياً لثوان. أفقت بعدها وأنا أكثر هدوءاً. حاولت التخفيف عنها، شئ عادي جداً أن نفقد التوازن.. لكن ليس دائماً. علينا استعادة التوازن سريعاً وإلا اختلت الحياة، وساءت الأمور بدرجة لا تحتمل.. هي حكمة لازمتني طويلاً.
وسط محاولات التسرية عنها كانت اعتذاراتها تبدو غامضة، لا أفهم أن كانت تعتذر لي أم لنفسها. وهاهي تستعيد سيطرتها وتلعن الشاي والصباح وحياتها وكل شئ، امرأة مغلوبة على أمرها. هي شخص لطيف بشهادة الكثيرين، ولكن عندما تثور تنقلب إلى شخص آخر لا يمكن وصفه باللطف. خمس دقائق بالتمام والكمال انقضت في محاولات تهدئتها وإقناعها ببساطة ما حدث، ومطالبتها بصنع شاي من جديد، وهذا ما فعلته أخيراً. هذه المرة دخلت في حذر، تُقَدِّم رجلاً وتُؤَخِّر الأخرى بفعلٍ مضحك، إلى أن تمكنت من وضع حمولتها في سلام. تنهدتُ أنا قبلها، وحمدتُ الله في سري خوفاً من العلن، ونظرة ربما ترميني بها. فإذا تكرر ما حدث مرة أخرى لخرجت دون تناول الشاي، وهو شئ يرهقني رغم طعم العلقم الذي اشتمه قبل تناوله.
كانت تجلس قبالتي وأنا ارتشف الشاي رشفاً علّ هذا الكدر ينزاح عن صدري، فإن وطأته ثقيلة لمن لم يعتده. تأملتها.. تأملتُ معها أكثر من ربع قرن من الحياة الأسرية.. مازالت بملابس النوم وشعرها متكوِّر خلف رأسها، كأنما خاصم المشط منذ ولادتها.. مظهرها هذا مثير للتقزز، ويدفع برغبة التقيؤ إلى السطح.. لا أدري لماذا؟!! فهو مظهرها كل صباح عدا الجمعة والعطلات الرسمية، لاستسلامي للنوم إلى وقت متأخر. لكن هذا ما حدث.
سألني المرحوم أبي في بساطة شديدة، وهو وقتها طريح الفراش يعاني الأمرَّين من المرض، ويقاوم بضراوة من أجل البقاء، سألني:
- لماذا لا تتزوج؟
تساءلت بدوري:
- لماذا لا أتزوج؟
كنتُ حينها أخطو خطوات لا بأس بها في السلم الوظيفي في مقابل راتب شهري لم تحلم به أسرتي يوماً. لماذا لا أتزوج وأنا قادر على إعالة أمي وأختي وأبي الذي أقعده المرض؟! ما خطرت زينب في بالي يوماً، ولا غيرها خطرت ببالي.. كنت أراها بين الحين والآخر في دارنا أو في دارهم وعلى طرقات الحي. فيها من النضارة ما يكفي للانتباه لوجود أنثى، وفيها من الحياء ما يكفي لسحب البساط من تحت الانتباه الغير مركَّز، وأنا كنتُ كذلك. رشَّحتها لي أمي دون غيرها.. هي صديقة حميمة لوالدتها وأنا لا أطمع في أكثر منها، لذلك قلت:
- على بركة الله.
وذات خميس ليس ببعيد - منذ تاريخ الاختيار – دخلتُ عليها. تلاشت مظاهر الحياء بعد أول شهر نقضيه معاً، لتبدو على سجِيَّتها كَرَبَّة بيتٍ ماهرةٍ، تُدِير شئون مملكتها دون تدخل مني.
وضعتُ كأس الشاي ومازال نصفه ممتلئ. نهضتُ خارجاً ومازالت هنالك عشرة دقائق - حسبما تشيرُ ساعتي – على مواعيد وصول عربة الترحيل. رغم ذلك واصلتُ خروجي ونظرات الدهشة في عينيها تتنقل بين كأس الشاي الممتلئ إلى نصفه وبيني. ارتبك وجهها قليلاً، بل أراها هازَّة كتفيها استغراباً وماطَّة شفتيها، يمكن أن يكون لأي سبب إلا امتعاضاً، فهي أضعف من إظهار هذا الشعور تجاهي.. ولو سراً.
لفحتني أشعة الشمس بقسوة أكثر لحظة اجتياز الباب المفضي إلى الطريق العام. ذرات الغبار عالقة تخنق الأنفاس. طقس صيفي هو.. معلوم لدينا، لا اختلاف حوله.. الشيء المزعج هو ألا تجلب لنا هذه الرياح سوى الغبار والسموم، وتتناسى خلفها ما ننتظره من أمطار ونسمات تُلَطِّف علينا ولو حتى قليلاً، والفصل بواكير خريف عندنا.. ربما كان الطقس من أسباب الكدر الذي أصابني.. ربما.
كلما أراه أمامي يبدو باهتاً واهناً، لا حياة فيه.. بقيتُ في الخارج مكابداً الأمر متنازع بين عواصف ونوازع غريبة معتملة في صدري لا أدري سبباً لها.. لم يحدث من قبل أن راودتني رغبة العودة أدراجي والتغيب عن العمل.. كثيراً ما تراودني رغبات في ترك عمل ما انوي إنجازه.. فعلاً أتركه وإن شارف على الانتهاء دون أن يضيرني ذلك في شئ. فقط عملي الرسمي لا أساوم فيه. وهاهي الآن الرغبة الشاذة مسيطرة على دواخلي بشدة، يقابلها استبسال في دواخل أخرى أثناء انتظاري عربة الترحيل. «لكن ما باله الحاج إبراهيم لا يأتي اليوم في موعده.. عشر دقائق تأخر!! لابد وأن في الأمر شئ».. تساءلتُ والقلق ينهشني، متحركاً حول نفسي ومديراً رأسي ذات اليمين وذات اليسار، وأحياناً إلى الأعلى عسي ولعل.. وفي رأسي تدور مبررات منطقية كثيرة يمكن أن تكون سبباً للتأخير.. لا أدري سبباً لهذا الكم الهائل من القلق.. يحدث أحياناً مثل هذا التأخير وإن كان نادراً، لكنه الانقباض الجاثم على صدري الآن.
في بداية الطريق ظهرت عربة تتهاوى قفزاً على المطبات، لم أرها من قبل. ربما هي عابرة سبيل ليس إلا.. فكثيرة هي السيارات السائرة في الطرقات حتى صارت لا تحتملها. لا أتخيل هذا الكم الهائل من جحافل السيارات وكأنها قوافل نمل، وأنا مصلوب على محطة المواصلات العامة - ربما ساعتين – إذا ما اضطررت إلى الخروج عصراً في زيارة ما أو عند حدوث طارئ.
سرعان ما بدأ الاهتمام يسيطر علىَّ.. وَرَدَ في خاطري أنها قد تكون العربة الجديدة. سمعتهم أول أمس يتحدثون عن عربة جديدة خُصِّصَت لإدارتنا للنقل الجماعي. واتخذتُ وضع المتحفز مترقباً حركتها إلى حين وقوفها بجواري مباشرة. أخذت نظارتي وضعاً يسمح لها بالتمعن في يسر بعد أن مسحت عدستيها مرة.. ومرة أخرى من ذرات الغبار العالقة. صاح شاب في وجهي ملقياً بالتحية. تحية من نوع جديد.. لم نألفه. هل وقعها غير المألوف، أم هو عنصر المفاجأة نتيجة ما يحدث داخلي؟! لا أظنني عرفته.. في عمر ابني محمد. ما بال وجهه لا يستقيم ولا يستقر في دواليب ذاكرتي وقد أحاطت به لحية لم يحاول تهذيبها!!؟
طار فكري إلى الحاج إبراهيم.. كتلة من النشاط والإنسانية هو.. ذلك الشخص صاحب الوجه الوديع، ما أن تراه حتى تقع في أسر وداعته. خط الزمن عليه الآن رسمه بصعوبة.. هذا النقش الذي لا يمكن تمييزه بسهولة. رفقاء منذ أن جمعتنا ظروف العمل. لا أذكر تاريخاً محدداً لها.. وجدتُ نفسي معه وهو معي، فقد تم تعييننا في فترة متقاربة. في بداية عمله اختار سلك الجندية. نشط وترقي فيه حتى بلغ رتبة جاويش.. لا يطمع في أكثر من ذلك، فادعي المرض، وبقرار طبي فُصِلَ من الجندية. لكننا لم نقو على فراقه، فسعينا ومعنا الإدارة من أجل بقائه بيننا. ومن يومها وهو سائق عسكري بملابس مدنية. صرتُ دائماً الجالس بجواره بعد تخصيص عربة ترحيل جماعي لإدارتنا يتولى هو قيادتها بنفسه منذ سنوات. ولظرفه وبشاشته لا نشعر بطول الطريق إلى حين وصولنا وهو يلقي بنكاته وقفشاته في ثرثرة لا نملها.
صاح الشاب في وجهي مرة أخرى:
- ماذا هنالك يا أحمد الخال.. ألا تود الذهاب؟
أنه ليس مهذباً.. لكنه يعرف اسمي ولقبي. انبسطت أسارير وجهي قليلاً، وأنزاح عنها بعض الجفاء وأنا أهم لأتقدم من جهة المدخل الأمامي.. الأربعة العظام جالسون في الخلف، عثمان أرباب الجالس خلف شاربه الضخم، حمد الملك، السمكري وفضل المولي. ألقيتُ عليهم بالتحية، ودائماً ما أقرنها بالأربعة العظام.. وهذه الصفة – ولكي لا يحدث لبس من نوع ما – مسألة نسبية مقارنة بكميات اللحم والشحم التي أدخرها الدهر لي، بينما هم مجرد عظام مكسوة بجلد. حمدتُ الله أنهم مازالوا على مقاعدهم، لم يتغيبوا أو يتغيروا.. لا بأس من الزيادة إذا. وقبل أن أرفع قدمي الأخرى وأقذف بجسدي داخل العربة تذكرت مفكرتي. صحتُ فيهم بدهشة تلقائية دون إرادة مني:
- نسيتها..!
ورجعت مهرولاً في اتجاه الدار غير مكترث لضحكاتهم التي انطلقت خلفي، وذهني مشغول بفعل النسيان. ما بال هذا اليوم.. لا أذكر متي نسيت مفكرتي قبل اليوم.. كيف حدث هذا؟!
أخذتُ مكاني في العربة بجوار السائق كما هو معتاد، مكرراً عليهم التحية، غائص في مقعدي.. انه وثير ليس كسابقه، لكني أشعر بالغربة فيه. زاد من غربتي إحساسي بأنني معلَّق، وجعلني ذلك أكسر حاجز الصمت بسؤالي عن الحاج إبراهيم وسبب تغيبه، قبل سؤالي عن السائق الجديد أو عن اسمه. سبب جهلي بكل ما أراه الآن هو عدم مرافقتي لهم نهاية يوم أمس لخروجي باكراً عن مقر عملي. الوجوم يعلو الوجوه. ارتجفت عضلات قلبي وكدت أرفع يدي بالفاتحة على روحه داعياً له بالرحمة، بل أن العبرة كادت تخنقني فعلاً لولا إنقاذ عثمان أرباب لي حين قال في صوت واهن:
- أحالوه للمعاش.
صوته ملئ بنبرة يمكن الإحساس بها فقط، دون وصفها. لكنه صوت مرتعش.. وكأني به رافض أو مرغم على النطق بجملة كهذه. وهي جملة كثر تداولها في الفترة الأخيرة، لدرجة أنها صارت لا تؤثر حتى في الشخص المعني، وتنتهي بمجرد الانتهاء من آخر حرف فيها. حتى من يتأثر قليلاً لا يزيد عن قوله «الحمد الله.. ارتاح». لم يقل أحدنا هذه المرة «ارتاح»، وأنا واثق تماماً من أن أحدهم لم يقلها أمس.
أي معاش هذا.. الرجل ما يزال موفور الصحة والعافية. امتلأتُ حتى الاهتزاز. لا حيز العربة ولا من حولي يتسع لغضبي لأنفجر فيهم بصوت غاضب:
- كيف حدث هذا؟!
خرج صوتي وكأنما من بئر عميقة برغم ما بذلته من جهد. هم ينظرون ناحيتي، وكأني بهذا التساؤل أحملهم مسئولية ما جرى لإبراهيم. لم أكن معهم يوم أمس، وكل ما حدث كان بعد خروجي أثناء ساعات العمل. هو حدثٌ عادي في حساباتي، قد يحدث لأي شخص وإن تعدَّدت الأسباب، لكنه الآن صار مختلفاً. إنني أجلس دوماً بجواره.. وهكذا في غفلة منا كُتِب له أن يختفي.
- إنها موضة هذه الأيام.
قالها حمد الملك في محاولة للاعتذار عنهم، أو ليواسي نفسه على الأقل. نعم.. إنها موضة كما قال حمد الملك، أما أن تشمل هذه الموضة الحاج إبراهيم، فهذا ما لم أقدر على ابتلاعه. «هل هو خطير إلى هذه الدرجة؟!».. جملة لم تكتمل لطعمها المر في حلقي. شعور بالقهر جثم على صدري.. أرغب في تحطيم أي شئ أو عمل ما يرفع هذا الثقل الجاثم على صدري. ها هي الرغبة في العودة إلى داري تطل برأسها مرة أخرى بعد أن شغلتها الأحداث بعنفوانها. ابتلعتُ ريقي في صعوبة هازاً رأسي امتعاضاً.
هو شئ قاسي.. أفسد علينا بهجة التفكير في العربة الجديدة وكيفية الاحتفال بها. هذا أول ما يفكر فيه الحاج إبراهيم حين يتولى قيادة عربة جديدة . يرتب لنا كل ما يلزم وكأنها إحدى بناته مولودة حديثاً.. يهلُ لها ويطير جزلاً بولادتها رغم وصولها في الزمن الضائع. «ذلك الأشيب الودود، كيف يعاملونه بهذه القسوة؟!»
ضرب الوجوم معاقل الفرح داخلنا، وصرنا إلى صمت ثقيل مرهق للعقول. أما أنا فمستعد منذ استيقاظي لاستقبال كل ضربات الكدر دون تفكير في صدها، كما كنت أفعل دائماً. طوال مسافة الطريق المتبقية، وحالة الصمت المسيطر بكثافة، لم التفت إلى السائق الجديد، وإن كنتُ أضبِطُ نفسي متلبسة بنظرة جانبية، سرعان ما تعود إلى وضعها الطبيعي لتتربع أمامي صورة الحاج إبراهيم مرة أخرى. ذلك الوجه الطويل الهادئ القسمات.. رأسه مغطى بشعر أجعد ناصع البياض.. دائماً ما يضع عليه طاقية حمراء، وحاجبان أشْيَبان كثّان، ولحية بيضاء خفيفة تقف شاهدة على بياض سريرته.. يحمل كل هذه السماحة كَتِفَان عَريضان على جسد قوي متين، رغم عوادي الدهر، متماسك ويزداد صلابة. ساعده في المحافظة عليه عمله كجندي لفترة طويلة. كم كان قوياً مهاباً في تلك الفترة.. مهابة لم يفتقدها حتى الآن.
قال لي مرة:
- بدأتُ أشعرُ بالتعب والقرف من هذا العمل.
كانت علاقتنا صائرة إلى متانة وهو مازال جندياً ضمن قوات السجون. كان عائداً لتوه من مأمورية استغرقت زهاء الأسبوعين.. مأمورية ترحيل بعض المعتقلين من السجن الرئيسي إلى أحد سجون المدن النائية. وهو دائماً ما تُوكَلُ إليه مثل هذه المهام، يعود بعدها ممتلئ بالتعب والقرف والحماس لترك الجندية. أهدِّئُ من حماسه، بأن لا ذنب له في ما يجري.. هي أمور لا تستقيم بتركه للعمل.
هذه المرة قالها في تعب واضح، لا مجال لمبررات يمكن أن تُثنيه. هنالك حالات يُجدي معها الحوار والتكرار، أما الآن فصوته يحمل تصميماً وعزماً. حالته النفسية ظاهرة لدرجة المرض العضوي. ذاك اليوم طلب أورنيك مرضي وذهب. لم يعد إلا بعد أربعة أيام، وبدأت الشكوى من صحته تتوالى. دخل إلى مكتبي مرة ووجهه يعكس مدى إرهاقه. جلس، بل تهالك على أقرب مقعد وهو يقول لي بصوت أقرب للهمس:
- صِرتُ أبغض هذا العمل.. لكنني لا أدري ماذا أفعل بعد ذلك! تقدمتُ بطلب لفصلي من الخدمة لأسباب صحية.. سيعرضونني على لجنة طبية لتقرر في ذلك.. سأرغمهم على الموافقة مهما كان، وأسافر بعدها إلى أهلي.. سأجد عملاً بجانب المعاش الذي سأتقاضاه.
قلت له:
- لديك رخصة قيادة. يمكنك العمل في أي شركة أو مصلحة.
ثم استدركت وأنا أنظر إليه:
- لماذا لا تعمل معنا في الإدارة كسائق.. ستكون معنا على الأقل وعملك مختلف عن سابقه.. ثم إننا لا نود افتقادك.
قال في يأس:
- لا أدري.. ربما فكرتُ في الأمر.
- سنحاول مع المدير.. هو شخص طيب، بالتأكيد سيوافق.
- المهم عندي أولاً موافقة اللجنة الطبية.
منذ ذلك الحين وهو خلف عجلة القيادة، ملتصق بها.. تراه يحتضنها وهو نائم.
ولم يَنْفَضّ عنا السكون المخيم إلا عند وصولنا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق