"جلدة عشرون"
الحراك داخل السجن في "خور ملح" أخذ بعداً مختلفاً بعد التاسع من يناير يوم توقيع اتفاقية السلام بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية. وما بين الترقب والانتظار التي شهدتها الأيام التي سبقته، عاش النزلاء آمالاً عريضة بأن يتم إطلاق سراحهم بين ليلة وضحاها. وما أن تأفل شمس يوم من تلك الأيام، حتى يرتفع ترمومتر الإحباط وترى الوجوم متربعاً على وجه الظلام.
حتى الذين ارتكبوا
جرائم قتل أو المتهمين بارتكابها ظل يراودهم الأمل بالإفراج عنهم بعد توقيع
السلام. وفعلاً أطلق سراح عدد قليل من النزلاء تلك الأيام، ورغم أنهم يدركون أن
ذاك لا علاقة له بذلك، إلاَّ أن بعض المتفائلين تتهلل وجوههم ويكاد الواحد منهم
يلملم أطراف أمتعته قبل نفسه تهيأً لمناداته من قِبَل إدارة السجن ومن ثم الإفراج
عنه.
وكانت تسري شائعات وسط
النزلاء بأن لجنة مختصة، تضم قيادات عليا، قادمة من رمبيك وصلت إلى رئاسة الحركة
الشعبية في منطقة "ربدة" لتتولى عملية إعادة التنظيم لقوات الجيش الشعبي
بناءاً على ما وقعته مع الحكومة السودانية في برتوكول الترتيبات العسكرية
والأمنية. ومن ضمن مهام هذه اللجنة النظر في أمر السجناء والمعتقلين (بمن فيهم
أسرى الحرب الذين تحتفظ بهم الحركة) في مختلف سجون الحركة بالجبهات المختلفة.
وتواصل الشائعات، بعد التصريحات التي ترد في نشرات الأنباء وينقلها أفراد الحرس،
بان السجناء في الجبهات الأخرى قد أطلق سراحهم بالفعل، وحتى الأسرى سيصلون في غضون
أسبوع إلى الخرطوم.
جاء يوم السادس من
يناير –سيدي الرئيس- يحمل أملاً ما للنزلاء، ولكنه قطع شكَّاً داخلنا ظللنا (نحن
الأربعة) نتجادل حوله إمعاناً في استغراقنا في التفاهة. فقد حضرت لجنة مكونة من
بعض قيادات الحركة الشعبية في الجبهة الشرقية وفي إطار إعادة تنظيم القوات، لحصر
السجناء والمعتقلين في سجن (المناضلين) كما يحلو للملازم ثاني "طون
أرياي" أن يطلق عليه تمييزاً له عن سجن الأسرى الذي يقع على مسافة اثنين
كيلومتر منه. وكنا نحن ضمن مجموعة (المناضلين). جاءت اللجنة وعلى رأسها ضابط برتبة
مقدم وتضم النقيب "داؤود" قائد ثاني جهاز استخبارات الحركة في الجبهة
الشرقية إضافة للملازم ثاني "طون". ليبدأ مشوار طويل من الانتظار وما
يمكن أن تسفر عنه أعمال اللجنة التي باشرتها فور وصولها.
بأمر المخابرات الأرترية
ولكن لا شيء جديد
بالنسبة للنزلاء، المسألة ليست سوى حصر لهم ولأسلحتهم. ولكن بالنسبة لنا كشفت عن
حقيقة وجودنا في سجون الحركة الشعبية، لتعيدنا بذلك الاكتشاف إلى الفصل الأول من
حديثنا. فقد كان أمام اللجنة (استمارة) لتملأها ببيانات محددة عن كل نزيل أو معتقل
في سجونها لرفعه لقيادتها العليا. وتشتمل البيانات، إضافة للاسم، على العمر وتاريخ
دخول السجن والرتبة العسكرية ولكنها تحتوي على أهم ثلاثة مواضيع حيرت اللجنة في
التعامل معهما عندما جاء دورنا للمثول أمامها، وهي التهمة التي بسببها دخل السجن
والجهة الآمرة بدخول السجن إضافة للمدة المحكوم بها.
تمت إعادتنا إلى داخل
سور السجن مرة أخرى، بعد الحيرة التي وقعت فيها اللجنة، لننتظر حتى الانتهاء من
مثول جميع النزلاء. بعدها تم استدعاؤنا واحداً بعد الآخر لملء البيانات، لنكتشف
أننا داخل سجون الحركة الشعبية بأمر من المخابرات الأرترية، وأن مدة انتظارنا غير
محددة وأننا موجودون داخل السجن بلا أسباب محددة. إندهش المقدم رئيس اللجنة (ويبدو
أنه لا يعلم بوجودنا أصلاً في السجن أو أنه تعمد أن يوحي إلينا بذلك) وهو يستمع
إلى إفاداتنا وإفادات رجال الاستخبارات بتلك الحقائق. ورغم أنها تمثل إدانة للحركة
الشعبية إذا ما وقعت تلك الاستمارات في يد إحدى منظمات حقوق الإنسان إلاَّ أنهم
-وللحق- سجلوا بياناتها بكامل تفاصيلها. ولكنها يمكن أن تحرق أو يتم إتلافها.
يوم توقيع السلام
بدت الأيام مثقلة
بالبرد والانتظار إلى أن جاء التاسع من يناير 2005م، اليوم المشهود في تاريخ
السودان، حيث تم التوقيع على الاتفاق. سمح لي في ذلك اليوم بمقابلة طبيب بسبب
ارتفاع ضغط الدم الذي أعاني منه، وانقطاع الدواء عني منذ اعتقالي من قبل المخابرات
الأرترية في الأول من أبريل 2004م. كنت على علاقة معه أثناء وجوده في العاصمة
الأرترية أسمرا، حيث يعمل في إحدى المنظمات الدولية العاملة في الجبهة الشرقية،
وهي منظمة الغوث الدولية
(IRC)، وتعمل بشكل
رئيسي في المجال الصحي إضافة لمجالات أخرى مثل توفير المياه واحياناً توفير
الأغذية لسكان شرق السودان في المناطق التي يسيطر عليها (التجمع الوطني
الديمقراطي). كان مركز عملياتهم الرئيسي في منطقة "خور ملح".
لم يتعرف عليَّ
الدكتور "علي خيراوي" بادئ الأمر، فقد تغيرت هيأتي في تلك الأشهر
الثمانية نتيجة ظروف السجن، ولكنه احتضنني في مودة كبيرة وهو مأخوذ بالدهشة
والحيرة التي اكتشفتُ سببها. فقد أشاعت المخابرات الأرترية بعد إعتقالي بأنني
غادرت إلى السودان. قال لي "خيراوي" كنت أعتقد أنك في السودان وبين
أهلك"!! رددت عليه بابتسامة ضعيفة، بأنني هنا في "خور ملح" وفي
حلقي معلق "فص ملح". كان ذلك أول ارتباط لي وللآخرين بالعالم الخارجي،
انتهزت فيه الفرصة للحصول على أكبر قدر من المعلومات التي أريدها. ولكنه كعادته لم
يكن له اهتمام كبير بما يدور سوى مهنته، وواضح من دهشته التي استقبلني بها أنه
اكتفى بالشائعة التي أفادت بمغادرتي للسودان، رغم قرب محيط تحركه من مناطق وجودنا
وانتشار خبرنا. ولكن كان مهماً بالنسبة لي أن أملكه كل المعلومات عن وضعنا والظروف
التي نعيشها، وأسماء المعتقلين معي ومعلومات تفصيلية عنهم تحسباً لأي ظرف طارئ.
المعلومات التي
انتزعتها انتزاعاً من الدكتور "خيراوي"، قلبت موازين وجودنا ولكن ليس
رأساً على عقب. فهي برغم شحها وعمومياتها وعدم أهميتها بفعل التقادم، إلاَّ أنها
منحتنا بعض الحيوية في اتفاقها مع كثير من استنتاجاتنا وقراءاتنا لما يدور وراء
الأسوار في الحقل السياسي من ناحية، وكشفت لنا ارتفاع حدة التوتر بين الحركة
الشعبية والنظام الأرتري مع اقتراب موعد التوقيع على اتفاق نيفاشا. كما دفعت دفقات
جديدة في شرايين مركز تفكيرنا ونشطت من روح قراءة ما وراء الخبر فينا، وقطعنا بها
وقتاً كان يمكن أن يكون مملاً وقاتلاً، ونحن نرى (فيما يرى النائم) أن محطتنا
القادمة هي مباني المخابرات الأرترية. ولكن ماذا يحدث فيها وما سيأتي بعدها بدا
ضبابياً.
"جلدة واحدة وعشرون"
السيد رئيس الحركة
الشعبية ...
لم يحدثني أحد من
مقاتلي الجيش الشعبي عن رغبته في انفصال الجنوب عن الشمال، ولم ألمح في وجه أحد
منهم سيماء رغبة الانفصال. وبالرغم من أنني قرأت كثيراً تصريحات لمثقفين وسياسيين
في الحركة الشعبية وسواها عن وجود تيار قوى ينزع للانفصال ويعمل جاهداً له ويسمونه
"تيار الجنوبيين الوطنيين" أو ال"Southerners"، لكنها لا تنعكس على رغبات قاعدة الجيش
الشعبين أفراد وضباط، إذا كان من حقي اعتماد من التقيتهم عشوائياً أو من تعرفت
إليهم وهم كثر، كعينات استبيان. فهم يميلون إلى تمديد صلاتهم شمالاً ويعتقدون أنه
مجالهم الطبيعي. فغير أن الكثيرين منهم له صلات سابقة بالشمال أو ما زالت، نجد
ظاهرة النزوح شمالاً طوال فترة الحرب تنفي عملياً وجود مثل هذه النزعة أو تجعلها
ملتبسة.
وإذا كانت " محبة
الأوطان ليست مما تميل النفس إليه ساعة ثم تنفر ساعة، إنما الوطنية شعور ينمو في
النفس ويزداد لهيبه في القلب ويرسخ في الفؤاد كلما كبرت هموم الوطن وعظمت مصائبه
واشتدت"كما قال الزعيم مصطفى كامل، فإن ذلك النزوع إلى الوحدة والشعور
بالانتماء إلى وطن ما إنما صقله وكشف قيَّم معدنه تلك المصائب والتي استمرت
طويلاً، وبرغم إلتقاء خطاب الحركة في أحد مستوياته مع من يتبنون خطاب الانفصال
داخلها أو خارجها لموازنات داخلية (جنوبية) تخصها، وبرغم أن ذلك يجعلها تبدو
متنازعة بين الخطاب الوطني ال(Southerners)
باعتبار كونه خطاب
للهوية (الجنوبية)، والخطاب القومي (وهو مستوى آخر من مستويات خطابها) الذي هو
خطاب الوحدة على أسس جديدة. فإنه يبرز التناقض البنيوي بين واقعها السياسي -
التنظيمي وتطوره عملياً وفقاً لخطابها السياسي في إحدى مستوياته من جانب، وتطلعها
الفكري والسياسي النظري في مستوى مختلف من جانب آخر.
إذاً تقرير المصير كحق
أكدت عليه المنظمة الدولية "الأمم المتحدة"، يُبقى الانفصال واحداً من
خيارات تفضي إليه ممارسة ذلك الحق، الذي اتفق السودانيون عليه مرغمين أو راغبين،
ولكنه يظل ممارسة منفتحة على آفاق متعددة أخرى، الوحدة بأشكالها (مركزية، فدرالية
وكونفدرالية). وقد ظلت الحركة الشعبية تفاوض نظام الخرطوم في منبر الإيقاد للوصول
إلى أحد ثلاثة خيارات هي الوحدة الفدرالية (على أسس جديدة)، الكونفدرالية أو
الانفصال. فيما جاءتنا فكرة جديدة من مركز الأبحاث الاستراتيجية والدراسات الدولية (CSIS) في الولايات المتحدة الأمريكية، هي أقرب
للبنية الكونفيدرالية وهي فكرة (نظامين في دولة واحدة) تلك التي بنيت عليها
اتفاقية السلام الشامل، التي تم التوقيع عليها بين الحكومة السودانية والحركة
الشعبية في نيفاشا الكينية.
ولكن هل الإنفصال هو
دعوة أصيلة في خطاب الحركة الشعبية، سيدي الرئيس؟!!
لا يمكن الإجابة
مباشرة على سؤال مطروح بهذه الصيغة دون القفز فوق العديد من المعطيات. وإذا كنت
أرى أن للحركة الشعبية خطاب متعدد المستويات، فإن الانفصال يمثل دعوة أصيلة في
مستوى من مستوياته. في مقابل ذلك، وعلى مستويات أخرى، أجده لا يمثل سوى كرت ضغط
يحقق مساحة سياسية أكبر لها، تكسبها قدر من المناورة لبلوغ أهدافها.
أول تلك المعطيات هي
الاسم الذي اتخذته الحركة (الحركة الشعبية لتحرير السودان)، وهو يوحي بأن الحركة
تجاوزت ومنذ البداية الرؤى الانفصالية منفتحة على رؤى أشمل تسع ويسعها كل السودان.
"في ذات الخطاب أكد زعيم الحركة أن الحركة لا تنظر لنفسها كحركة جنوبية تسعى
لحل مشكلة الجنوب، وإنما هي حركة وطنية تهمها قضايا الوطن كله، وستعمل على أن تلعب
دوراً طليعياً بهدف توحيد السودان على أسس جديدة، وعلى حل المشكلة الجنوبية في
إطار سودان موحد تحت نظام اشتراكي عبر نضال طويل الأمد". د. منصور خالد ،
السودان، أهوال الحرب .. وطموحات السلام.
ثاني تلك المعطيات،
دخول الحركة الشعبية في التجمع الوطني الديمقراطي. مع ملاحظة أن الحزبين الكبيرين
(الاتحادي والأمة) إضافة للمؤسسة العسكرية (القيادة الشرعية) وهي أطراف رئيسية في
ذلك التجمع، كانت في مرحلة من المراحل على رأس سلطة تحارب الحركة الشعبية. مما
يعني أنها قادرة على قراءة مصالحها السياسية جيداً، فحربها التي تخوضها ليست ضد
الشمال وإنما ضد الأنظمة الحاكمة في الشمال.
ثم إن الحركة الشعبية
سعت –دائماً- للتمدد شمالاً، وشمالاً هنا ليس بالمعنى الجغرافي فقط، بل بمدلولها
الإثني. ففي الشمال لديها ما يكفي من أبناء الجنوب الذين جاءوا قبل الحرب أو نزحوا
أثناءها. ويجيء قرار إنشائها للواء السودان الجديد كماعون لاستيعاب الشماليين
كواحد من مظاهر محاولات ذلك التمدد بعد فشل مواعينها الطبيعية في ذلك.
في مقابل ذلك هناك معطيات
أخرى تتجاوز رغبات الحركة ورؤيتها للسودان الموحد على أسس جديدة، فالفضاء الذي
تحركت ولا زالت تتحرك فيه بشكل رئيسي هو الجنوب. والبيئة التي نشأت داخلها كانت
لها تجاربها في الكفاح المسلح وحركاتها المسلحة التي تنزع رؤاها نحو الانفصال.
فكثيرون من مقاتلي وقادة حركة الأنيانيا انخرطوا في الحركة الشعبية، يحملون رؤاهم
تلك.
إضافة لذلك، الواقع
القبلي الذي فرض نفسه على تركيبة الحركة الشعبية وبنيتها التنظيمية، وهو واقع كان
يستدعي مخاطبته بمستوى تتمظهر فيه بوادر الرغبة في الانفصال. والدعوة لمحاربة
"الجلابة"، كمستوى من مستويات خطابها، تحمل من ملامح الخطاب الإثني ما
يدفعني للقول بأنه يمكن أن يؤسس لقاعدة إنفصالية وسط القبائل في جنوب السودان شاءت
الحركة أم أبت.
تأسيساً على ذلك
(البعض) من المعطيات الوارد ذكرها، فإن الحركة الشعبية ظلت تتمسك بكافة الخيارات
مما جعلها غير متماسكة في أطروحاتها وفرض عليها تقديم ما هو تكتيكي على ما هو
استراتيجي، وشيَّدت لها ثلاثة خطوط دفاع تحميها إثر كل انسحاب. فهي من جانب تقدم
أوراق الوحدة على طاولة المفاوضات بيد، وباليد الأخرى تبرز كروت الانفصال. وفي
سبيل تحقيق مكاسبها يمكن لقادتها الإدعاء بأن 95% من أعضائها يرغبون في الإنفصال،
ولكنهم يرجعون ليؤكدوا أن هذه النزعات يمكن السيطرة عليها.
وهي تضع الوحدة على
أسس جديدة كهدف أعلى إذا تعذر تحققه ستقبل بالفيدرالية وإذا فشلت في بلوغه ستتجه
إلى الانفصال وإنشاء دولة مستقلة في الجنوب. وذلك يبرز ما أشرت إليه سابقاً بأن
ذلك يبرز التناقض البنيوي بين واقعها السياسي - التنظيمي وتطوره عملياً وفقاً
لخطابها السياسي في إحدى مستوياته من جانب، وتطلعها الفكري والسياسي النظري في
مستوى مختلف من جانب آخر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق