أليساندرا .. فتاة من شيلي


(1)
الزمن الجميل هو أن تمتلك ذاكرتك لحظات صادقة صافية تقتنصها من ركام الفعل القبيح، وتأتي لاقتناص مثل تلك اللحظات بعد سنوات لتكتشف أن الفعل القبيح ما زال مستمراً، إضافة إلى أنك كبرت في السن ولا وقت لذاكرتك لتتسع لذكريات مثيلة لأنها وبكل بساطة أصابها الكبر أيضاً وصارت لا تتسع لذكريات عشرينية لرجل تجاوز الخمسين أو كاد. أو هكذا سأحكي لك عن أليساندرا فيرونيكا.

كنت وسط مجموعة من طلاب أمريكا اللاتينية رمت بي الصدفة أن أسكن مع إثنين منهما ليكونا دليلي في هذا العالم الذي أقتحمته لأول مرة. أحدهما هو صديقي القادم من كنتونات كولومبيا، أو بالأحرى من ريف بوغوتا، تلك التي نقرأ عنها وربما نشاهد بعض منها في الأفلام، حيث الحرب والمخدرات، إنه إدواردو تاردس ديِّاس .. ودياس (dias) بالاسبانية تعني صباح. وهو كذلك فعلاً بالرغم من كونه أكثر كسلاً مني وبمراحل، فقد كنت مشهوراً بين زملائي بالكسل. والآخر، كارلوس لويس فالاس، الذي كنا نحسده على نشاطه وهو القادم من كراكاس عاصمة فنزويلا الغنية بالنفط، بل يكاد (ينقط نفطاً) من فرط مظهره الفاخر واهتمامه الفائق بهندامه على عكسنا وكانت فوضانا (وبهدلتنا) مثار خلاف دائم بيننا.
ذات مساء خريفي تلقيت دعوة من طلاب شيلي للاحتفال بذكرى مقتل الرئيس الفنزويلي سلفادور الليندي الذي جاء إلى سدة الحكم في شيلي بانتخابات عامة حرة في العام 1970 الشيء الذي لم يعجب الولايات المتحدة الأمريكية وقتها خاصة وأن القارة الجنوبية يغشاها المد الاشتراكي من كل صوب. فبعد كوبا التي وقفت ك(شوكة حوت) في حلق واشنطن في فترة الحرب الباردة زاد عليها المد الاشتراكي في أنحاء أمريكا اللاتينية. فكان أن دبرت لإزاحته عن السلطة بواسطة انقلاب عسكري قاده الجنرال أوغستو بينوشيه.
في سبتمبر 1973 نفذ بينوشيه إنقلابه، وبدعم أمريكي كامل، وحاصر القصر الرئاسي في العاصمة سانتياجو، رفض الرئيس سلفادور الليندي الاستسلام برغم مطالبة الانقلابيين له بذلك، بل ارتدى الوشاح الرئاسي وسقط قتيلاً داخل قصره. لتبدأ منذ ذلك التاريخ ولفترة امتدت حتى العام 1990 حقبة جديدة من الديكتاتورية والقهر في تلك الرقعة المطلة على المحيط الهادي في شريط القارة الجنوبية، حيث مارست السلطات الانقلابية أبشع أصناف التعذيب ضد مواطنيها ومنعوا أي نشاط سياسي وتذكر بعض الإحصائيات أن أكثر من ثلاثة آلاف مواطن قتلوا وسجن وعذب قرابة الثلاثين ألف هذا غير الذي تمكنوا من النفاد بجلدهم والهروب ومنهم إبنة الرئيس سلفادور الليندي (إيزابيل الليندي)، معها إبنة أخيه الروائية الشهيرة وهي إيزابيل.
دخلنا ثلاثتنا القاعة المعدة للاحتفال. بدا الحفل صاخباً، ربما هكذا يحتفلون بموتاهم، ولكن هذا الصخب من طبيعة الدم الذي يسري في عروقهم. فرغم كل المآسي التي ظلت تعيشها أمريكا اللاتينية بسبب الحروب والسياسة وبسبب الظروف الطبيعية إلا أن تلك الروح الصاخبة تظلل حياتهم أينما حلت جماعة منهم، وقد تتحول إلى صخب عنيف في بعض الأحيان.
كانت ترقص.. وهي جالسة قبالتي، أو هكذا رأيتها أول مرة. كل شيء فيها يضج بالرقص.. طريقة جلستها، صوتها وهي توزع حديثها هنا وهناك وضحكتها.. شيء ما في صوتها مثير للدهشة، قادر على أن ينثر حولها مُتَّسعاً من البهجة والخفة التي تذهب بوطأة أي روح مثقلة. ثم جاءت تلك الأغنية الخالدة (وكأنها نشيد العلم) ليقف الجميع ويبدأون في ترديدها:
قوانتانا ميرا
ماريا قوانتانا ميرا
وتقفز تلك الفتاة العشرينية على الطاولة وتعب حنجرتها بتلك الكلمات وبصوتها الخلاب. إنها أليساندرا فيرونيكا، كما قدمها لي صديقي إدواردو ديِّاس، مضيفاً "من شيلي"، تضع على كتفيها ذلك الوشاح المصنوع يدوياً والذي يميز فتيات أمريكا اللاتينية عن سواهن، وترتدي بنطلون جينز مهترئة أطرافه السفلى.

(2)
وبمناسبة البنطلون، تابعت قبل عدة أيام جزء من برنامج أذاعته هيئة الإذاعة البريطانية البي بي سي بعنوان محاكمة البنطلون أم محاكمة القانون بمناسبة صدور الحكم على الأستاذة لبنى حسين، استضاف فيه مقدمه الأستاذ الحاج وراق الذي انتقد القوانين القائمة وأبان أن القضية هي بين مشروعين أحدهما تنويري والآخر سلفي ظلامي ويرى أن المرأة التي ليست حرة في ارتداء زيها لن تكون لها الحرية في اختيار من يحكمها، والضيف الآخر هو الأستاذ كمال حسن أحمد القيادي في المؤتمر الوطني الذي أكد على أن القوانين لا غبار عليها ووافق ألأستاذة أسماء الحسيني في أنه يمكن مراجعة تلك القوانين بحيث يتم ضبط وإحكام الثغرات في تنفيذها، والتي قالت إن السودان لا يجيد فن إدارة أزماته وأعطت لذلك مثالاً بدارفور، أما الأستاذة هادية حسب الله الباحثة في جامعة الأحفاد فلم أتمكن من الاستماع لمداخلتها. ولكني استغربت كثيراً لمداخلة نقيب الصحفيين الأستاذ تيتاوي الأخيرة، بعد أن مدح منهج الحكومة الذي اعتبره معتدلاً محذراً من ذهابها لأن ذلك سيفتح الباب أمام المتطرفين والتكفيريين، وذكر أن القضية ليست البنطلون فكثير من السودانيات يرتدين البنطلون بما يوحي أنه لا يمثل مشكلة، ليقفز إلى توجيه النقد إلى جامعة الأحفاد معتبرها القلعة الأكثر ليبرالية وكأنه يشير إلى أن ذلك يتنافى وقيم المجتمع السوداني رغم استدراكه في النهاية واعترافه بفضل الأحفاد في تعليم البنات.
ترى ماذا سيقول الأستاذ تيتاوي لو عرف أن فتيات لاتين أمريكا عموماً تحيتهن قبلة يطبعنها على شفتيه وكأن شيئاً لم يكن فهي مجرد تحية لا تعني أنك خاص جداً (هذا قبل انتشار انفلونزا الخنازير ولا أدري الوضع الآن)، ناهيك عن ارتداء البنطلون. وماذا لو عرف أن صديقتي فيما بعد أليساندرا فيرونيكا تلك الفتاة العشرينية انتظمت في صفوف المعارضة وكانت تنتمي لجبهة مانويل رودريغز الوطنية الجناح العسكري للحزب الشيوعي الشيلي وقتها، وكانت من العناصر التي تساهم في تهريب السلاح إلى داخل تشيلي في الثمانينيات من القرن الماضي.
وتحكي لي في بساطة قصة خروجها النهائي من شيلي، حينما حاصرها رجال بينوشيه بعد أن اكتشفوا أمرها، وألقوا القبض على والدها، قبل أن تستطيع هي الفرار متجاوزة بوليفيا التي كان نظام الحكم فيها لا يختلف عن نظام بينوشيه، لتصل إلى نيكاراغوا في رحلة شاقة محفوفة بالمخاطر ومنها إلى كوبا بالطائرة، لتبدأ رحلتها الناعمة إلى شرق أوربا. كانت تعلم أنها لن تكون قادرة على العودة إلى ديارها في ظل بقاء نظام بينوشيه الديكتاتوري، وأنها ربما تبقى في الخارج إلى وقت طويل لحين ذهابه.
لم يثن طلاب شباب شيلي المناهضين لنظام بينوشيه، الذين التحقوا بأوربا غربها وشرقها، بعدهم عن الوطن ولا الفقر المدقع الذي كانوا يعيشونه من الإلتزام مواصلة للنضال والتعريف بقضيتهم وكشف وتعرية النظام القمعي في بلدهم. فكانوا يعملون في المقاهي والمطاعم ويجوبون الشوارع حاملين آلة الجيتار الخشبي ليعزفوا ألحان وطنهم ويجمعوا ما يستطيعون لدعم قضيتهم.
قدم طلاب شيلي في وقت لاحق أليساندرا فيرونيكا لترأس مجموعتهم، ولم تكن ترغب في ذلك كما ذكرت لي ولكنها بنزعتها القيادية تصدت لمسئوليتها. تنتمي أليساندرا إلى مجموعة السكان الأصليين وهم الهنود الحمر الأمريكيين الين يشكلون أقلية في بلدهم، حيث أكثر من 60% من سكان شيلي من الإسبان الذين اختلطوا بالسكان الإصليين لينتجوا ما يعرف ب(المستزو) والبقية من عناصر أوروبية. إذاً ما أن تراها حتى يراودك إحساس بأن تضع على أعلى ضفيرتها المنسدلة ريشة وترفعها على صهوة جواد.
وبالرغم من تصديها لمسئولية قيادة طلاب شيلي، إلا أن ذلك لم يغير من طبعها ومرحها الصاخب، ولم تزم شفتيها ويقطب جبينها نتيجة هذا الوضع، بل ظلت تحمل جيتارها الخشبي وتغني لوطنها في كل محفل وتلقي أشعار بابلو نيرودا الذي مات بعد إثنتي عشرة يوماً من وفاة رفيقه وصديقه سلفادور ألليندي رئيس شيلي. وكلما التقيتها لا تيأس من محاولاتي الفاشلة لحفظ قصيدة واحدة للحب لنيرودا من قصائده المائة، بالرغم من إجتهادها مع الثنائي إدواردو تاردس دياس وكارلوس لويس فالاس تعليمي اللغة الإسبانية.
نضال وتضحيات إليساندرا (ما وقعت واطة)، فبعد الاستفتاء المزيف الذي نظمه بينوشيه وجاء به مرة أخرى إلى سدة الحكم في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، حكمت المحكمة العليا في شيلي ببطلانه ونظمت إستفتاء آخر، تمكنت فيه المعارضة من نشر برنامجها وتحريض الشيليين لرفض بينوشيه الذي وجد نفسه مطالباً بتوضيحات حول مسائل القتل والتعذيب التي مارسها طوال فترة حكمه، لتجيء نتيجة الاستفتاء لصالح المعارضة. وبناءاً على تلك النتيجة كان عليه ترك السلطة، لتنظم المحكمة العليا بعدها انتخابات البرلمان وتلتها الانتخابات الرئاسية العامة التي فاز فيها باتريشيو آيلوين ليترك أوغستو بينوشيه رئاسة الدولة في 1990.

تنفست أليساندرا الصعداء مثل كل شعب شيلي وأكيد رددت قصيدة بابلو نيرودا:
قلبي يكفيه صدرك
أجنحتي لحريتك
من فمي يدرك السماء
كل ما كان يرقد في نفسك.
(3)
ألا يحق لي أو لأليساندرا أن تستعيد الزمن الجميل خاصة إذا قرأت تقرير أمنستي انترناشيونال في العام 2008 والذي يورد عن شيلي ما يلي:
وردت أنباءعن إساءة معاملة أفراد من السكان الأصليين من جماعة "مابوتشي". وفي مايو/أيار، نظَّم عدد من المعتقلين من جماعة "مابوتشي" إضرابات عن الطعام احتجاجاً على التطبيق الجائر لقوانين مكافحة الإرهاب.
وفي يوليو/تموز، قام ضباط شرطة يرتدون الزي الرسمي (يُعرفون باسم "كاربينيروز)، بمداهمة جماعة "مابوتشي"، وهم من السكان الأصليين في "تيموشويشوي" الواقعة في إركيللا بإقليم ماليكو. وادعت الشرطة أنها كانت في بحث عن حيوانات مسروقة، ولكن الجماعة أنكرت حيازتها لحيوانات مسروقة على أرضها. وورد أن الشرطة أطلقت غازاً مسيلاً للدموع وطلقات مطاطية وذخيرة حية على أفرادعزل من الجماعة، مما أسفر عن إصابة عدد منهم بجروح وعن تدمير بعض المنازل. وتأثر الأطفال بالغاز المسيل للدموع وفر عديد منهم إلى التلال القريبة، كما تعرض النساء والأطفال لمعاملة سيئة. وكانت الجماعة قد تعرضت في وقت سابق من العام لإجراءات مماثلة من جانب الشرطة. وبحلول نهاية العام، لم يكن قد أُجري أي تحقيق بشأن المداهمة التي وقعت فييوليو/تموز، على حد علم منظمة العفو الدولية.
وفي ديسمبر/كانون الأول، ورد أن الشرطة أطلقت النار على أشخاص من جماعة "تيموشويشوي مابوتشي"، كانوا يحصِّلون أجورهم في المنطقة الرابعة بمدينة إركيللا. ويُعتقد أن ستة مدنيين قد جُرحوا، وبينهم عدد من الأطفال.
أكيد قالت أليساندرا في نفسها "كان زمان أحسن" على الأقل كانت قادرة على فعل شيء وهي بعد فتاة عشرينية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق