لعله ضرب من الصدفة المحضة أو هو أشبه بتسلسل دوري أن يتحف الأستاذ المحبوب عبدالسلام المكتبة السودانية بسفرين إثنين، رغم ما سيطرأ من إختلاف كبير أو محدود حول محتوياتهما، وحتى لا يدخل القارئ في متاهة العشرينية، فقد نشر الأستاذ المحبوب كتابه "فصول في حريق الجنوب السوداني" الصادر عن بيت المعرفة للإنتاج الثقافي بأمدرمان في طبعته الأولى العام 1989، بينما نشر كتابه الثاني "الحركة الأسلامية السودانية .. دائرة الضو – خيوط الظلام" متأملاً في العشرية الأولى للإنقاذ، الصادر عن دار مدراك حسب رقم وتاريخ الإيداع في القاهرة العام 2009.
هي أولى تأملاتي في عشرينية المحبوب، حين سعدت كثيراً بإهدائه لي نسخة من كتابه الأخير، وربما كنت أول أو من أوائل الذين حصلوا على نسخة منه في السودان بعد خروجه طازجاً وبرائحة حبر المطابع في يناير الماضي. كل ذلك وأنا لم أعرف الرجل الذي شرفني بهذا الإهداء إلا عبر وسائط. لم يسعفني الوقت حينها لقراءته، فهو يحتاج إلى زمن خاص لكن هذا لم يمنعني عن تصفحه على عجالة ومطالعة بعض ما كتب حوله من مقالات نقدية وتعليقات رغم إختلاف زويا تناولها لكنها متفقة على أهميته، إلى أن وجدته هذه الأيام مجاوراً لكتابه الأول حين وجدت فسحة كافية من الوقت للقراءة، فكان أن وجدت الفاصل بينهما عشرين عاماً. ليته يتقبل جزيل شكري وحسن ظنه بي.
على عكس "فصول في حريق الجنوب السوداني" الذي جاءت فصوله "تقصد في الأساس القارئ العربي خارج حدود السودان والذي تطالعه الأنباء في كل حين بأحداثها وتسوق إليه الصحف تحليلات لبعض تفاصيلها ولا يجد في معرفته ما يتيح له أن يدرك أبعاد ذلك ويضعه في مكانه المناسب من مجمل إطار الأزمة" حسب ما جاء في استهلال المؤلف، فقد جاءت فصول "الحركة الإسلامية السودانية.. دائرة الضوء – خيوط الظلام" كما يحمل عنوانه "يتأمل (القصة) من الداخل ويسترجع مناخاتها في حوار مع النفس، مع أنفسنا بالمعنى الذي يشير إليه القرءان للجماعة المجتمعة على وشائج قوية أو على هدف في تداول وشورى، تمعن النظر في فصول ما تزال من بعض وجوهها جارية على الأرض، وأحداث كذلك لا تزال حية توالي إشعاعها الذي لا يحصى على من كانوا بعضاً منها .. الخ".
إذاً هما (الكتابان) مرسلان إلى جهات محددة ويخاطبان قارئين مختلفين، فالأول يخاطب القارئ العربي خارج السودان لتسويق الرؤية التي يتبناها الكاتب حول قضية أساسية من قضايا الأزمة السودانية، ويبسط أمامه ما يعينه على إدراك أبعاد القضية من زاويته. أما الكتاب الثاني فهو موجه بالدرجة الأولى إلى أهل الكيان المجتمع على وشائج قوية أو على هدف، والكيان في هذه الحالة هو الحركة الإسلامية التي شاركت بكامل قواها في العشرية الأولى للإنقاذ والتي يتأملها الأستاذ المحبوب وهو أحد صناعها. وهو مليئ بمعلومات لا يمتلكها إلا من صنعها وعايشها أو كان داخل مراكز صنع القرار فيها، وهو ما أعتقده في الكاتب، ولكني على يقين بأن هناك الكثير من المعلومات التي تم تغييبها عمداً، وكانت بلا شك ستنسف كل أركان الحركة الإسلامية، فليس ما كتب هو كل الحقيقة.
ساد المؤلَّفان جو متوافق في إلتزام الكاتب لرؤيته، ونصرته للواقفين معه في ذات الضفة من النهر بالحق أو الباطل. عند فصوله عن حريق الجنوب السوداني وقف الأستاذ المحبوب ومعه الحركة الإسلامية في موقع المتفرج على الأحداث السياسية متنصلاً من كل دورٍ لها سواء كان ذلك قبل نظام مايو أو بعد المصالحة أو بعد انتفاضة أبريل 85، ونفى ضمناً كل مسئولية لها في أي مرحلة من مراحل التطور السياسي تجاه أزمة الجنوب، بل ذهب إلى أبعد من ذلك بتصوريها حملاً وديعاً وأكثر الحاضرين حرصاً على الجنوب وإنسانه، وطبعاً الخطاب هنا موجه للقارئ العربي وليس السوداني. وجاء تناوله لعلاقة الحركة الإسلامية بالجنوب في فصلين من فصوله الإثني عشر، بل في عدة صفحات لا تتجاوز الخمس من مجمل صفحات كتاب الحريق التي تجاوزت المائة. فيما جاءت دائرة الضوء حواراً داخلياً يكشف عن جرف طيني أو "ترابي" إنفلقت على إثره تلك الضفة لتصبح ضفتين وبينهما مبذولة تلك التاملات التي ما تزال أحداثها جارية على الأرض، ضفة المنشية التي يقف وسط جمهورها الأستاذ المحبوب وضفة القصر وكلاهما يرفع ذات الراية بألوانها وشعاراتها. وفيه أيضاً يمتطي الكاتب ذات المنهج ليصل إلى مقصده بنصرة أخيه ظالماً أو مظلوماً (وهو في هذه الحالة ضفة المنشية وجمهورها)، رغم أن الحديث يعني نصرة الأخ الظالم برده عن الظلم لا بتبرير ظلمه وإيجاذ المسوغات الفكرية والفقهية له.
كل هذا الذي كتب ليس موجهاً لعموم القراء من الجمهور السوداني بالدرجة الأولى، ولا يعنيهم في شيء إلا من باب العلم به كما أراد له ذلك الكاتب في المقدمتين اللتين استهل بهما كتابيه. فالجمهور السوداني له قراءاته المختلفة روحاً ونصاً للأحداث التي تجلت في كتابات العديد ممن تناولوا الكتاب الثاني المعني بقصة الحركة الإسلامية في السودان في عشرية حكمها الأولى، وفي السودان هذه ليست على غرار الحزب الشيوعي في السعودية، فشيوعيو السعودية لا يعترفون بحكم آل سعود وتسمية البلاد بإسم العائلة، لذلك لم يطلقوا عليه إسم الحزب الشيوعي السعودي وإلا إنتمى لآل البيت السعودي، هذا طبعاً إيام المد اليساري وعز مجده. أما في السودان وحسب رأي البعض أن الحركة الإسلامية (الإسلام السياسي) ليست أصيلة في مقابل الإسلام الشعبي الصوفي الذي تغلغل عميقاً في جذور المجتمع السوداني وثقافاته منذ قرون، وهي إنما جاءت لفرض رؤاها وأغراضها الدنيوية ممتطية صهوة الدين (هل العشرية الثانية للإنقاذ تؤكد ذلك من وجهة نظر المحبوب؟).
بقدر قراءتى المتأنية للكتابين، حاولت النفاذ لفكرة جوهرية سيطرت على منهجية قراءتي تلك، فآثرت قراءة "فصول في حريق الجنوب السوداني" مرة أخرى على ضوء قراءتي للكتاب الثاني، لأكتشف مجموعة من الملاحظات حول الحركة الإسلامية وعلاقتها بالتحولات في مسار الحرب في الجنوب ودورها الذي سكت عنه الأستاذ المحبوب في فصول الحريق، لأن قضية الجنوب هي قضية الوطن في تقديري. هذا لا ينفي مدى دسامة الكتاب الثاني وإستعراضه لجوانب متعددة من الأحداث التي استدعاها الكاتب لتقف شاهدة ليس على نصرة طرف على آخر في الحركة الإسلامية (فهذا يعنيهم)، ولكن على مدى الجرم الذي ارتكب في حق الوطن بقطع الطريق أمام السلام الذي وإن تعثرت خطواته كان منظوراً في الأفق وقتها، وزيادة حطب الحريق بإضافة عناصر أخرى ليزداد اشتعالاً، وأخيراً ليفضي إلى مشهد يبدو فيه الوطن ممزقاً.
هي أولى تأملاتي في عشرينية المحبوب، حين سعدت كثيراً بإهدائه لي نسخة من كتابه الأخير، وربما كنت أول أو من أوائل الذين حصلوا على نسخة منه في السودان بعد خروجه طازجاً وبرائحة حبر المطابع في يناير الماضي. كل ذلك وأنا لم أعرف الرجل الذي شرفني بهذا الإهداء إلا عبر وسائط. لم يسعفني الوقت حينها لقراءته، فهو يحتاج إلى زمن خاص لكن هذا لم يمنعني عن تصفحه على عجالة ومطالعة بعض ما كتب حوله من مقالات نقدية وتعليقات رغم إختلاف زويا تناولها لكنها متفقة على أهميته، إلى أن وجدته هذه الأيام مجاوراً لكتابه الأول حين وجدت فسحة كافية من الوقت للقراءة، فكان أن وجدت الفاصل بينهما عشرين عاماً. ليته يتقبل جزيل شكري وحسن ظنه بي.
على عكس "فصول في حريق الجنوب السوداني" الذي جاءت فصوله "تقصد في الأساس القارئ العربي خارج حدود السودان والذي تطالعه الأنباء في كل حين بأحداثها وتسوق إليه الصحف تحليلات لبعض تفاصيلها ولا يجد في معرفته ما يتيح له أن يدرك أبعاد ذلك ويضعه في مكانه المناسب من مجمل إطار الأزمة" حسب ما جاء في استهلال المؤلف، فقد جاءت فصول "الحركة الإسلامية السودانية.. دائرة الضوء – خيوط الظلام" كما يحمل عنوانه "يتأمل (القصة) من الداخل ويسترجع مناخاتها في حوار مع النفس، مع أنفسنا بالمعنى الذي يشير إليه القرءان للجماعة المجتمعة على وشائج قوية أو على هدف في تداول وشورى، تمعن النظر في فصول ما تزال من بعض وجوهها جارية على الأرض، وأحداث كذلك لا تزال حية توالي إشعاعها الذي لا يحصى على من كانوا بعضاً منها .. الخ".
إذاً هما (الكتابان) مرسلان إلى جهات محددة ويخاطبان قارئين مختلفين، فالأول يخاطب القارئ العربي خارج السودان لتسويق الرؤية التي يتبناها الكاتب حول قضية أساسية من قضايا الأزمة السودانية، ويبسط أمامه ما يعينه على إدراك أبعاد القضية من زاويته. أما الكتاب الثاني فهو موجه بالدرجة الأولى إلى أهل الكيان المجتمع على وشائج قوية أو على هدف، والكيان في هذه الحالة هو الحركة الإسلامية التي شاركت بكامل قواها في العشرية الأولى للإنقاذ والتي يتأملها الأستاذ المحبوب وهو أحد صناعها. وهو مليئ بمعلومات لا يمتلكها إلا من صنعها وعايشها أو كان داخل مراكز صنع القرار فيها، وهو ما أعتقده في الكاتب، ولكني على يقين بأن هناك الكثير من المعلومات التي تم تغييبها عمداً، وكانت بلا شك ستنسف كل أركان الحركة الإسلامية، فليس ما كتب هو كل الحقيقة.
ساد المؤلَّفان جو متوافق في إلتزام الكاتب لرؤيته، ونصرته للواقفين معه في ذات الضفة من النهر بالحق أو الباطل. عند فصوله عن حريق الجنوب السوداني وقف الأستاذ المحبوب ومعه الحركة الإسلامية في موقع المتفرج على الأحداث السياسية متنصلاً من كل دورٍ لها سواء كان ذلك قبل نظام مايو أو بعد المصالحة أو بعد انتفاضة أبريل 85، ونفى ضمناً كل مسئولية لها في أي مرحلة من مراحل التطور السياسي تجاه أزمة الجنوب، بل ذهب إلى أبعد من ذلك بتصوريها حملاً وديعاً وأكثر الحاضرين حرصاً على الجنوب وإنسانه، وطبعاً الخطاب هنا موجه للقارئ العربي وليس السوداني. وجاء تناوله لعلاقة الحركة الإسلامية بالجنوب في فصلين من فصوله الإثني عشر، بل في عدة صفحات لا تتجاوز الخمس من مجمل صفحات كتاب الحريق التي تجاوزت المائة. فيما جاءت دائرة الضوء حواراً داخلياً يكشف عن جرف طيني أو "ترابي" إنفلقت على إثره تلك الضفة لتصبح ضفتين وبينهما مبذولة تلك التاملات التي ما تزال أحداثها جارية على الأرض، ضفة المنشية التي يقف وسط جمهورها الأستاذ المحبوب وضفة القصر وكلاهما يرفع ذات الراية بألوانها وشعاراتها. وفيه أيضاً يمتطي الكاتب ذات المنهج ليصل إلى مقصده بنصرة أخيه ظالماً أو مظلوماً (وهو في هذه الحالة ضفة المنشية وجمهورها)، رغم أن الحديث يعني نصرة الأخ الظالم برده عن الظلم لا بتبرير ظلمه وإيجاذ المسوغات الفكرية والفقهية له.
كل هذا الذي كتب ليس موجهاً لعموم القراء من الجمهور السوداني بالدرجة الأولى، ولا يعنيهم في شيء إلا من باب العلم به كما أراد له ذلك الكاتب في المقدمتين اللتين استهل بهما كتابيه. فالجمهور السوداني له قراءاته المختلفة روحاً ونصاً للأحداث التي تجلت في كتابات العديد ممن تناولوا الكتاب الثاني المعني بقصة الحركة الإسلامية في السودان في عشرية حكمها الأولى، وفي السودان هذه ليست على غرار الحزب الشيوعي في السعودية، فشيوعيو السعودية لا يعترفون بحكم آل سعود وتسمية البلاد بإسم العائلة، لذلك لم يطلقوا عليه إسم الحزب الشيوعي السعودي وإلا إنتمى لآل البيت السعودي، هذا طبعاً إيام المد اليساري وعز مجده. أما في السودان وحسب رأي البعض أن الحركة الإسلامية (الإسلام السياسي) ليست أصيلة في مقابل الإسلام الشعبي الصوفي الذي تغلغل عميقاً في جذور المجتمع السوداني وثقافاته منذ قرون، وهي إنما جاءت لفرض رؤاها وأغراضها الدنيوية ممتطية صهوة الدين (هل العشرية الثانية للإنقاذ تؤكد ذلك من وجهة نظر المحبوب؟).
بقدر قراءتى المتأنية للكتابين، حاولت النفاذ لفكرة جوهرية سيطرت على منهجية قراءتي تلك، فآثرت قراءة "فصول في حريق الجنوب السوداني" مرة أخرى على ضوء قراءتي للكتاب الثاني، لأكتشف مجموعة من الملاحظات حول الحركة الإسلامية وعلاقتها بالتحولات في مسار الحرب في الجنوب ودورها الذي سكت عنه الأستاذ المحبوب في فصول الحريق، لأن قضية الجنوب هي قضية الوطن في تقديري. هذا لا ينفي مدى دسامة الكتاب الثاني وإستعراضه لجوانب متعددة من الأحداث التي استدعاها الكاتب لتقف شاهدة ليس على نصرة طرف على آخر في الحركة الإسلامية (فهذا يعنيهم)، ولكن على مدى الجرم الذي ارتكب في حق الوطن بقطع الطريق أمام السلام الذي وإن تعثرت خطواته كان منظوراً في الأفق وقتها، وزيادة حطب الحريق بإضافة عناصر أخرى ليزداد اشتعالاً، وأخيراً ليفضي إلى مشهد يبدو فيه الوطن ممزقاً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق