الشملول .. شدة وتزول

هكذا رفعت أمي يديها بالدعاء بعد صلاة العشاء ثم قالت (الشملول، شدة وتزول)، لم يكن أمامها غير الدعاء (حيلة العاجزين والأقوياء) حين جاءها النبأ. ولأنها عاشت مثل تلك التجربة مرات ومرات، وقضت بعض عمرها متوهطة جمر القلق على زوجها أو أحد أبنائها، لم تشأ أن تتبين النبأ وهي على يقين بأنها لن تصبح نادمة لأنها واثقة بأنهم يفعلونها عادة. لكنها لا تحتمل أن تسمع عنك ما لا يسرها، فهي دائماً ما تتسقط أخبارك أنت بالذات، ويرتفع ترمومتر سعادتها بأخبارك السعيدة رغم أن السعادة الزائدة ترفع نسبة السكر أيضاً في دمها وأنت سيد العارفين. ربما هذا ما جعل دمعة ساخنة تنزل على خدها الذي جلَّده الزمن حين تلقت النبأ بأنهم أخذوك مع آخرين وألقوا بكم في غيابت الجب، وأعلم كما تعلم أن دمعتها عصية شيمتها الصبر، أو ربما طاف بخيالها لحظتها طيف المرحومة خديجة، تلك الأم التي شيدت صرحاً من الأبناء وحيدة تصارع الدنيا فتصرعها بعزيمتها وإصرارها ولا تفتر همتها حين تتغلب عليها الدنيا.

عزيزي الشملول، لن يستطيعوا محو إبتسامتك الدائمة وهي التي لا يمحوها حتى تقطب حاجبيك وتلك الإنكماشة التي تعلو جبهتك حين يجد الجد وتحزم أمر الكلام، فسرعان ما تتدفق تلك العقدة على جبينك سماحة مثلما ينطق لسانك ويسيل مهذباً بقيم الرحمة والتسامح والسمو إلى مراقي النبل، لن يستطيعوا محو تلك الإبتسامة لأنك تفكر بطريقة ويفكرون بطريقة مختلفة.
قاعدة تفكيرك وقوامها، رغم المنهج الصارم الذي يسمه، هي تلك السماحة التي غذتك بها الحاجة خديجة وأنت بعد بعض جنين بدأت تأخذ ملامحك بإكتمال نمو خلاياك، حين فارق والدك الدنيا وما فيها وانتقل إلى الرفيق الأعلى قبل أن يأتيها الطلق بشهرين، ولما تزل ترضعك تلك السماحة رغم العرق الذي يسيل على ثدييها وهي تجاهد الدنيا لكيلا يبيت أبناؤها وهم يتضورون جوعاً، ولا تصرخ أنت من قلة لبن الأم ويشب عودك وتصير (دكتوراً) يملأ الدنيا وقبل ذلك يخفف عن الآخرين آلامهم وعنها وطأة الألم وضغط الدم والحياة.
أما هم يا صديقي فيفكرون في صغائر الأمور بينما تمر تحت جسورهم عظائمها دون ان يلتفتوا جانباً ليروا هول المصائب التي من أوجب واجباتهم أن يهتموا بها ويمنعوا وقوعها، وتعبر سماءهم أهولها دون أن يرفعوا رؤوسهم ليروا عظم الفاجعة التي ستحل بنا. إنهم ينظرون فقط تحت أقدامهم، وإذا اجتهدوا كثيراً لا يتجاوزون ببصرهم مدى الرؤية. يتوقف بصرهم عند هذا الحد وهم المناط بهم ومسئوليتهم الأولى أن يبصروا إلى الأعمق وأن يمتلكوا بصيرة تهديهم سبيل القرارات التي تمنع عن الكوارث وتعبر بنا إلى بر الأمان.
كنا قد اتفقنا في إحدى حواراتنا، وأنت محاور فذ منذ صغرك، أن الفساد هو أكبر الكبائر وأس الداء الذي ينخر في العظام، وهو ما قادنا إلى ما نحن نعيشه اليوم، وأنت وزملاؤك مجرد ضحية لعملية فساد كبرى. الفساد بكافة أشكاله وأصنافه المالية والاقتصادية والسياسية. الفساد الذي كان يجري تحت الجسر صار في الآونة الأخيرة مارداً يمشي على قدمين ويوزع ابتساماته الهازئة دون حياء، ليست كابتساماتك الرطبة التي تبشر بالحياة. لا تصيبك الدهشة إذا وجدته مطلاً من على إحدى الفضائيات يتحدث بجرأة و(قوة عين)، وهو يدلي بتصريحات على الهواء بأنه السبب في أن يعيش أكثر من 95% من الناس عندنا تحت خط الفقر.
أهم ركن في بسط أمننا الاجتماعي والاقتصادي هو العدل، إنهم لا يبحثون في مظاهر الظلم الواقعة علينا.. ربما لا تهمهم في شيء. أموالنا المنهوبة على عينك يا تاجر تبدو خجلة من فرط قلتها أمام تلك الأموال التي يستولون عليها دون عدل. من يختلسون المال العام قليلون رغم ضخامة المبالغ المعلن عنها بواسطة أجهزة رسمية، ولكن تلك التي يتم الاستيلاء عليها على حساب الآخرين أضخم بكثير. أتذكر كيف كنا نتساءل عن كيفية رسو تلك العطاءات على شركات بعينها أوهل هناك عطاءات أعلن عنها أصلاً، أم إنها المحسوبية والمحاباة وكلها من ضروب الفساد. هو التمكين المالي لطبقة بالقانون وليس بالعدل، حيث يمكن أن تجري الأمور بشفافية وعلنية، ولأن الفساد متأصل تسير الأمور بهذه الطريقة. دعك من ظواهر المحسوبية في التعيين للوظائف سواء الحكومية أو الخاصة (وكلو أكل عيش) ومشهد كثير من الكفاءات العاطلة لا تلتقطه كاميراتهم. إنهم أدخلوا أمننا الاجتماعي في مأزق لأنهم لا يريدون أن يخترقوا ببصرهم مدى الرؤية، وحين تطالب أنت بزيادة اجرك تقوم قيامتك، وكم من مجدلية ستشهد قيامتك.. ستجد أكثر من مليون مجدلية تنتظر قيامتك أو هن منتظرات على رصيف الحياة يتسولن قطعة خبز أو قطعة شرف يوارين بها سوءاتهن، وكانوا يضحون علينا حين يقولون أن الحرة لا تأكل من ثدييها، وهل هناك ما يدرأ عنهم شبهة إفقار الناس وكل يوم نشاهد تلك الأيادي الممتدة على استحياء من شباب وكهول يعتصرهم الألم، لا أريد أن أزيدك حزناً على حزن.
هم المسؤولون عن أمننا الاجتماعي ولكنهم لا يدرون أنه الواجب الذي تقوم عليه واجباتهم الأخرى، إذاً ما بال تلك الجرائم الغريبة تستشري بين أوصال المجتمع وهي لا تحتاج لباحثين كي يستجلوا أسبابها لأنها واضحة وضوح الشمس.
اتذكر أيها الشملول حين كنا نتذمر من ذلك المشهد القبلي الطاغي إنه من أكبر القضايا، لقد تفرق دم الوطن بين القبائل وهم لا يبصرون أو هم يبصرون. إنحسر جلباب الوطن وها نحن نحاول أن نغطي وجهه فتظهر أطرافه وحين نغطي أطرافه يطل وجهه سافراً بلا غطاء، صار الجلباب لا يسع سوى القبيلة، وإني لأراه الآن لا يسع سوى خشم بيت القبيلة. غطى الغبار نسيجنا الاجتماعي وأثر في مكوناته، إنه مسؤوليتهم وواجبهم.
دع عنك كل هذا صديقي الشملول، إن الفساد السياسي أدهى وأضل. ضلالاته الصغرى مقدور عليها بمزيد من النضال الذي لم يتوقف يوماً. ولكن ماذا نفعل مع تلك الضلالات الكبرى؟ طرائق تفكيرنا السياسي التي أوردتنا موارد التهلكة. هل هناك أكثر من تمزق الوطن الذي يطل في آخر النفق بدلاً من الضوء؟ كل هذا بسبب إنشغالهم بصغائر الأمور وعدم إلتفاتهم لقضية كبرى مثل أمن الوطن. إن جوهر أمن الوطن هو في وحدته لا في تمزيقه، ومسؤوليتهم أمامه هو في الحفاظ على وحدته. كنا نتحاور حول كيفية الحفاظ على وحدته في ظل الغفلة السياسية التي لازمتنا طويلاً. عدم اعترافنا بفشلنا أو اعترافنا به على استحياء دون إبداء رغبة حقيقية في عمل جدي لتجاوزه، بل على العكس من ذلك إصرارنا على المضي في ذات الدرب وبنفس المنهج هو من الضلالات الكبرى، ومن عينات فساد التفكير وفساد السياسة.
ألم أقل لك إنهم مشغولون بصغائر الأمور دون كبائرها، ومن صغائر الأمور أن يدخلونك وزملائك في غيابت الجب فقط لأنكم تطالبون بتحسين ظروفكم المعيشية، وإلا كيف نفسر فقداننا الطمأنينة لإقتصادنا ولحياتنا الاجتماعية ولممارستنا السياسية أو حتى حياتنا الشخصية. أما أمننا الثقافي والصحي وتأمين تعليم أبنائنا فهو في عداد الترف ويدخل ضمن بنود الصرف البذخي.
لعل الحاجة خديجة تدعو لك في عليائها وهي مدركة أنها أنجبت إنساناً نبيلاً لا يدخر وسعاً في سبيل تنزيل القيم النبيلة على كل ممارساته. أما أمي فتدعو الله أن يفك أسرك ومن معك وأن تنالوا حقوقكم لتواصلوا العطاء، وتدعو أن ينعم الوطن بالأمن السياسي والاقتصادي والاجتماعي وان ينام أهل السودان دون ان يقض مضجعهم هم يوم الغد، ويستيقظوا وهم أكثر رغبة في العطاء لأن هناك راعي يهتم برعيته.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق