جسر المك نمر- رواية- الفصل التاسع

 

مضت سنوات، منذ أن وطأت قدما عبد السيد صالة غردون أول مرة، ولكنها كانت كافية لتضعه على الطريق المرسوم بدقة. أدرك، وهو يشب عن الطق سنة بعد أخرى، أن الأمر لا يتعلق بلن عينيه فقط وإنما ذلك الدم الذي يسري في عروقه ويندفع في انسياب هاديء ليغذي عقله.

قذف بكل ترهات الزقاق التي كانت تؤرقه من حين لآخر رغماً عنه خلف ظهره. حتى الرَّضية ما عادت تؤرقه صورتها التي بدأت في التلاشي، مثل تلك الدموع التي استقرت على رأسه يوم أن غادرها ثم تبخرت وزال ملمسها وهو يحث الخطى بقديمه الصغيرتين وكل خطوة تتفتق تحتها ثقة كان قد افتقدها أثناء حصاره في الزقاق بإبن الحرام. هنا وجدته نفسه الضائعة لتتماهى مع ما حولها دون إحساس بالغرابة، وكأنها عاشت طوال حياتها بين تلك الأحياء وداخل جدران المدرسة وفي صالة غردون التي صار يعمل فيها في العطلات المدرسية.

 

إلى أن جاء اليوم الذي أعاد للأحداث سيرتها الأولى، عندما صاحت سعدية أزرق في نشوة نادراً ما تظهرها في العلن:

-        المنصور ود المكي جاء يا بنات.

 

أول مرة يلتقي بأبيه الحقيقي، الذي ظل إسمه يطرق أذنيه عندما ينادونه في الزقاق بـ"إبن الحرام"، وجهاً لوجه كانت داخل أروقة دار سعاد عندما جاء ومعه حاشية من الأصدقاء، مما دفع بسعدية لإعلان وجوده بتلك الطريقة الصاخبة. هي لحظة لم يتصور يوماً إمكانية حدوثها ولا خطر بباله أن يلتقيه يوماً. كان مروان أباه الذي يعرفه، ورغم علمه الحقيقة إلا أن شهادته في السجلات كانت تمنحه سكينة وطمأنينة لم يحاول الاجتهاد في مغادرة دائرتها. بل دفعه التمسك بذلك والحفاظ على هذا الوضع الاجتهاد في توطيد علاقته بالزاكي، أخوه في السجلات وهو ابن مروان من صلبه. كان كثيراً ما يقطع مسافة بعيدة عن دار سعاد ليتعمد لقاءه وهو يلعب مع أقرانه، أو يلتقيه في الطريق إلى مدرسته. والزاكي لا يعلم كل الحقيقة ما جعل الحياة تمضي كما يراد لها، فهو يعلم أن عبد السيد ليس بأخيه من أمه ولكنه لا يعلم إنه ليس بأخيه من أبيه أيضاً. أحياناً تفسد الحقيقة الكاملة تفسد الحياة فتحكم عليها نواميس الكون بالتغييب لكي لا تختل الموازين ولتمضي السنن كما هو مرسوم لها.

 

منذ خروجه من الزقاق يحاول عبد السيد محو كل خاطرة تذكره بالحقيقة الكاملة وجاهد كثيراً في محو كل الآثار التي ظلت عالقة به، وفي طمس كل معالم الانحناءات التي رسمت خطوطها في ثنايا روحه. كان خروجاً أراد له الكمال، مثلما يخلع الثعبان جلده ويلقي به على قارعة الطريق أو بين تلك الصخور البارزة جوار الشاطي في غير أوقات الفيضان كلما ازداد جسده بسطة وضاق عليه الرداء، لحظة أن أعطى ظهره لتلك البيوت التي تفوح منها رائحة الطين المخلوط بروث الحيوانات. لم يلتفت خلفه سوى مرة واحدة وقمع بكل قوته دمعة كادت أن تقفز من إحدى مقلتيه، وصورة الرَّضية تراوح مكانها أمام ناظريه وهي تحضنه بقوة. لم تنبس ببنت شفة في تلك اللحظة، وهي المعروفة بالثرثرة طوال حياتها وبضحكتها الفريدة التي تنثر الفرح في أرجاء الزقاق، ولا تقف عند حدود سور منزلها وإنما تتجاوزه إلى بقية جيرانها وربما يصل صداها إلى أطراف الشارع.

 

ها هو اليوم يرأى المنصور ود المكي بقامته الطويلة وبشرته السمراء الذي كان سبباً في وجوده في الحياة وفي وجوده في دار سعاد. "هي ليست صدفة وإنما قدر أن يلتقيه هنا وفي هذا الموقع بالتحديد"، هكذا جالت الفكرة في خاطر عبد السيد، نظر إلى نفسه من داخلها إلى خارجها فوجده مسكوناً فيه بخلاف عينيه البنيتين. كان المنصور يصغر مروان الذي لا يزال يحمل اسمه، بسنوات عديدة، يسبق خطواته غرور ظاهر بمكانته تشي به تلك النظرات والاهتمام بتعديل جلبابه من حين لآخر دون سبب ظاهر. سرعان ما خرج عبد السيد من سجن ذاكرته البعيدة وأثر الابتعاد عنه وعن محيطه، "حسناً انني لا أحمل في ذاكرتي صورة لأمي السارة" قالها عبد السيد تسيطر عليه رغبة بأن يقذفه بالسؤال عنها أثناء جلسات المجون التي كان يقيمها لأصحابه، بعد أن اعتاد ارتياد الدار بعيداً عن البيت الكبير، "ربما كان كان هذا الرعديد مغرماً بسعدية أزرق"، لكنه لم يكترث لذلك كثيراً متحاشياً الدائرة التي يتواجد فيها المنصور ورفقاءه.

 

سرعان ما اكتشف عبد السيد، بعد أن انزاحت دهشة اللحظة التي رآه فيها مع مرور الوقت، أن أباه يخفي كماً هائلاً من الضعف وسط تلك الهالة التي يحشدها حوله أثناء حضوره من فترة لأخرى، وكأنه يحاول الهروب من واقع يعيشه. لكن قراره بالابتعاد عن محيطه كان سبباً في عدم اهتمامه بالأمر مكتفياً بهذه الملاحظة، وواصل مسيرة حياته كأن المنصور لا يعني له شيئاً ولا سعى لأن يلفت انتباهه فقد كان مشغولاً بأثر عينيه على من يحطونه بالاهتمام ويفتحون أمام طريقه مسالك لحياة قادة.

 

هو ما ظل الضباط والجنود الانجليز طوال وجودهم يحيطونه به، خاصة حين يلتقونه في طريقهم داخل الدار أو عند عمله في الصالة بصحبة سعاد، حتى انطلق لسانه محاولاً الحديث بلغتهم في بعض الأحيان فأجاد لغتهم رغم صغر سنه. لكن جاءت اللحظة الفارقة التي وضعته عارياً أمام نفسه مكشوف الظهر. لن ينسى ذلك اليوم الذي كان متواجداً فيه وسط جمع كبير من الناس داخل أسوار محطة السكة الحديد وسط المدينة، كان يوما مشهوداً لم ير جمعاً كهذا من قبل ولا يفهم كثيراً ما كان يجري حوله، لكنه يهتف مثلما يهتفون ويردد تلك الشعارات دون أن يعي لها معنىً. وحين رأى تلويح الجنود الانجليز بأياديهم مع بدء مسير القطار المتجه شمالاً، علم أن فصلاً جديداً من حياته قد بدأ، فانهمرت عيناه بالدموع كما لم يفعل من قبل في كل لحظات تعاسته وسعادته. بكى بحرقة وانطفأ ذلك البريق في عينيه فصار باهتاً، شعر بذلك أثناء محاولاته اختراق الحشود ببصره. ذلك البكاء أثار الواقفين من حوله فصاروا يبكون انفعالاً بالحدث ويرددون هتافاتهم بالجلاء وتنطلق الأناشيد وترفرف الأعلام. يرى دموعهم تفيض من عيون غمرتها السعادة، فيما يشعر هو باليتم أكثر من ذي قبل، ولا يدري سبباً لذلك.

 

الآن عليه التمسك بعينيه الخضراوين بكل قوة، وأن يفتحهما عن آخرهما دون تردد فهما السر ومفتاح بوابة الحياة بالنسبة له، بعد الواقع الجديد الذي وجد نفسه خائضاً فيه بكلتا قدميه. لقد أدرك خلال سنواته التي مضت قوة وقعهما ومدى تأثيرهما السريع. وهو ما حدث، فالأمور في دار سعاد لم تتغير كثيراً، نعم غادر الانجليز بعيونهم التي تشبه عينيه مما خلق فراغاً كبيراً في وجدانه، لكن حقيقة لم يتغير شيء سوى لون العيون وهو يرى كبار رجالات الدولة الجدد وتجارها وموظفيها، يتسللون في العلن وخفية إلى الدار ويختفون داخل تلك الغرف الضيقة.

 

لم تشغله المدرسة عن البحث في دروب الحياة والتقرب إلى هذا العالم الذي انفتح له. أصبح الآن هو الوحيد صاحب العيون الخضر في هذا الوسط لتنفتح أمامه أبواب لا تفتح للآخرين. وكلما كبر في العمر توثقت صلته بتلك الأسماء الكبيرة من كبار ضباط الأجهزة الأمنية والجيش وكبار الموظفين والتجار. من هنا انطلقت حياته فالكل يستهين به ولا يخشاه، بل على العكس من ذلك جميعهم يأمنون جانبه ويستعينون به في جلسات أكثر صخباً وإثارة بعيداً عن العيون، كانت تلك بدايات صفقاته وتجارته الرابحة. دارت لعبة الحياة على طريقتها بانفتاح كبير وصار ممسكاً بقبضته على مفاصلها دون أن يترك أثراً يدل عليه ولا على المحيطين به، لكنه ظل متمسكاً بوجوده في محيط الدار رغم انتقاله إلى السكن خارجه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق