فوضى الإصلاح أم إصلاح الفوضى؟

في الإصلاح الأمني والعسكري مرة أخرى

محمد فاروق سلمان

تقوم دعاوي الإصلاح الأمني والعسكري على التسليم بوجود خلل ما في هذه الأجهزة، وعادة تتجاوز هذه الدعوات تعريف هذا الخلل وتقفز لمعالجات إجرائية، كالحديث عن الدمج مباشرة مثلا، وكأنما هذه المؤسسات منفردة خالية من العطب وكاملة الأهلية لا يحول دون القيام بواجباتها غير تعددها والذي بالتاكيد سيقود لخلط في تحديد مسؤولياتها واختصاصاتها، وتداخل سلطاتها وتعارضها، ولكن ليس بالضرورة تكامل دورها في تعزيز الأمن وبسط هيبة الدولة كما يقولون، وخضوعها لسلطة ذات سيادة ولحكم القانون متى ما وجدت سلطة شرعية في الدولة تعبر عن هذه السيادة وقبول الجميع كمؤسسات ومجتمعات، وأفراد أيضا، في الدولة، وليست المؤسسات العسكرية وحدها بحكم القانون.

الصورة: ورشة الإصلاح الأمني والعسكري

ووفق هذه النظرة الكلية قد تصبح عملية الدمج  نفسها غير ذات أهمية في الإصلاح، أو ليست عصبه، مع ترديد الجميع على ضرورة خضوع العسكر للسلطة المدنية، وفق ابتسار مخل لمفهوم سلطة الدولة ذات السيادة، والتي تتكون من مستويات متعددة للحكم، لا تتمتع فيه السلطة السياسية المدنية، حتى لو منتخبة، بهذه السيطرة المطلقة على أي من أجهزة الدولة، بل على العكس يجب أن يتم تعزيز استقلالية الجهاز البيروقراطي للدولة، بما فيه الأجهزة الأمنية والعسكرية، عن السلطة السياسية. وتأكيد ذلك بخضوع الجميع، بما في ذلك السلطة السياسية المدنية بشقيها التنفيذي والتشريعي، لحكم القانون وضمان إنفاذ ذلك عبر سلطة القضاء كسلطة مستقلة لتحقيق العدالة، من خلال مبدأ استقلال السلطات الذي يحكم الأنظمة السياسية وفق المفهوم المعاصر لسلطة الدولة نفسها. 

بالنظر لتشوهات القطاع الأمني يجب الوعي كون ما حدث داخل القوات النظامية في جزء منها هو تخريب متعمد بلغ ذروته في سنوات الإنقاذ، ومن خلال عملية تمكين ممنهج تراجعت كثير من الشروط المهنية التي حكمت الجيش والقوى الأمنية، وتجربة الإنقاذ في الحكم قد تكون التوظيف الأمثل في ذهن الحركة المدنية السياسية للجيش، ولا أظن أن هناك حركة سياسية لم تسع سعيها هذا، وإن لم تتوقف فعن قلة حيلة وليس عن التزام بمبدأ أو علو همة، ولا فضيلة هنا لمن تركته المعصية فظن أنه من تركها.

وفق هذا الجزء يتحمل اجتماعنا السياسي وحراكنا المدني حتى، النصيب الأكبر في تخريب جهاز الدولة وفي مقدمته الجيش والأمن، وإن كان لسنوات الإنقاذ النصيب الأكبر، إلا أنها كانت التعبير الأكمل عن تشوهات نظامنا السياسي والخطاب الأكثر صراحة واتساقا مع نسق الممارسة السياسية: فانتهينا إلى جيوش "الفوضى" وهو موضوع ستكون لنا عودة إليه بتفصيل أكثر.

ووفق جزء آخر، خلاف السياق السياسي المدني، لم يسلم الجيش نفسه من "فوضى"، لم تحصنه من الانحراف والتشوه؛ وفق سياق الدولة الوطنية نفسه عندنا، كدولة مركبة حشرت فيها الحداثة ومؤسساتها وفق فالق الاستعمار، وليس الفارق الذي تصنعه النخب الوطنية من خلال وعيها السياسي بحركة التاريخ، وقدرتها على الإلهام والعمل الخلاق في تحديث مجتمعاتها وتنميتها؛ فاتت تعبيرا عن استعمار وطني من خلال متلازمتي الهيمنة والاختلال لحكم نخب استعمارية بامتياز.

لم يكن الجيش باستثناء عن هذه النخب لا في تكوينه، أو من خلال تاريخه العسكري في مواجهة شعبه، في حرب ضرار، والتي ربما فرضت عليه بأكثر مما هو اختارها، لكنها قطعا، حتى، وإن لم تحكم وجوده وفق العقيدة القتالية للدولة الحديثة، قد حكمت شروط بقاءه واستمراره. ولن يستقيم الحديث هنا عن الاصلاح الأمني بالقفز على طبيعة التشوهات في مؤسسات الدولة كلها، وتناول ماهية "فوضى" الجيش، و"جيوش" الفوضى وفق هذا الحديث الكسول عن دمج الجيوش، لاختزال عملية الإصلاح الأمني بشكل مخل في دمج الفوضى، كأنما علينا البداية بخوض شروط تاريخية سياسية واجتماعية تجاوزتها البشرية، وتركتها خلفها، وفق مفهوم الدولة المعاصر، لتكوين جيش وطني من جديد!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق