ثنائية السحر والجنس.. الكتاب المقدس والإنسان الاجتماعي -16

الفصل الخامس -2- الجنس والنظام الاجتماعي

سبق الكتاب المقدس بجزئيه العهد القديم "التوراة" والعهد الجديد "الإنجيل"، سبق القرآن، زمنياً، في النزول بآيات تنظم العلاقة بين الرجل والمرأة أو الزوج وزوجه، ولا تخرج الكتب السماوية عن سياق يكشف عن رؤية موحدة وفكرة مركزية دالة على وحدانية المصدر. وقد تختلف عبارة هنا وهناك ولكن جوهر الأمر واحد، وكثيراً ما لجأ المفسرون إلى روايات وتفسيرات الكتاب المقدس في تأويل النصوص القرآنية.

الصورة: الأديان والزواج المقدس

وبدءًا من سفر التكوين الاصحاح الثاني في العهد القديم، تتشكل فكرة الإنسان الاجتماعي "ليْسَ جَيِّدا انْ يَكُونَ ادَمُ وَحْدَهُ". وإذا كانت قصة خلق زوج آدم غائبة في القرآن الكريم وكذلك عدم التصريح باسمها، فإنها بينة في العهد القديم، وهي الرواية التي أخذ بها المفسرون للقرآن. فبعد أن خلق الله آدم، بحسب النص التوراتي، أوصاه أن يأكل من جميع شجر الجنة عدا شجرة معرفة الخير والشر، لم ينتظر كما في القرآن خلق زوجه ليخاطبهما معاً "ولا تقربا هذه الشجرة"، ثم جاءت مرحلة خلق حواء "لَيْسَ جَيِّدًا أَنْ يَكُونَ آدَمُ وَحْدَهُ، فَأَصْنَعَ لَهُ مُعِينًا نَظِيرَهُ" (تكوين 2: 18). وفي ذات الاصحاح من سفر التكوين تتكشف قصة خلق الزوجة "فَأَوْقَعَ الرَّبُّ الإِلهُ سُبَاتًا عَلَى آدَمَ فَنَامَ، فَأَخَذَ وَاحِدَةً مِنْ أَضْلاَعِهِ وَمَلأَ مَكَانَهَا لَحْمًا. وَبَنَى الرَّبُّ الإِلهُ الضِّلْعَ الَّتِي أَخَذَهَا مِنْ آدَمَ امْرَأَةً وَأَحْضَرَهَا إِلَى آدَمَ. فَقَالَ آدَمُ: «هذِهِ الآنَ عَظْمٌ مِنْ عِظَامِي وَلَحْمٌ مِنْ لَحْمِي. هذِهِ تُدْعَى امْرَأَةً لأَنَّهَا مِنِ امْرِءٍ أُخِذَتْ». لِذلِكَ يَتْرُكُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِامْرَأَتِهِ وَيَكُونَانِ جَسَدًا وَاحِدًا. وَكَانَا كِلاَهُمَا عُرْيَانَيْنِ، آدَمُ وَامْرَأَتُهُ، وَهُمَا لاَ يَخْجَلاَنِ." (تكوين 21: 25)، ثم أطلق آدم اسم حواء على امرأته لأنها أم كل حي "وَدَعَا آدَمُ اسْمَ امْرَأَتِهِ «حَوَّاءَ» لأَنَّهَا أُمُّ كُلِّ حَيٍّ." كما جاء في الإصحاح الثالث من سفر التكوين.

من هذا المنطلق يمثل الزواج بالنسبة لليهود أمراً مهماً وواجباً لا بد منه، وينظر إلى الأعزب باستحقار ويعتبر شخصاً غير كامل، وهو ما سارت عليه المسيحية ويسهب العهد الجديد "الانجيل" في تناول علاقة الرجل والمرأة في مختلف نواحيها، ويرد ذلك في مختلف أناجيل المسيحية "إِذاً لَيْسَا بَعْدُ اثْنَيْنِ بَلْ جَسَدٌ وَاحِدٌ. فَالَّذِي جَمَعَهُ اللَّهُ لاَ يُفَرِّقُهُ إِنْسَانٌ" (متى 19: 6).

"أَيُّهَا النِّسَاءُ اخْضَعْنَ لِرِجَالِكُنَّ كَمَا لِلرَّبِّ، لأَنَّ الرَّجُلَ هُوَ رَأْسُ الْمَرْأَةِ كَمَا أَنَّ الْمَسِيحَ أَيْضاً رَأْسُ الْكَنِيسَةِ، وَهُوَ مُخَلِّصُ الْجَسَدِ" (أفسس 5: 22-23). "أَيُّهَا الرِّجَالُ، أَحِبُّوا نِسَاءَكُمْ كَمَا أَحَبَّ الْمَسِيحُ أَيْضاً الْكَنِيسَةَ وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِهَا" "أفسس 5: 25). "كَذَلِكَ يَجِبُ عَلَى الرِّجَالِ أَنْ يُحِبُّوا نِسَاءَهُمْ كَأَجْسَادِهِمْ. مَنْ يُحِبُّ امْرَأَتَهُ يُحِبُّ نَفْسَهُ. فَإِنَّهُ لَمْ يُبْغِضْ أَحَدٌ جَسَدَهُ قَطُّ بَلْ يَقُوتُهُ وَيُرَبِّيهِ، كَمَا الرَّبُّ أَيْضاً لِلْكَنِيسَةِ" (أفسس 5: 28-29).

"لِيَكُنْ يَنْبُوعُكَ مُبَارَكًا، وَافْرَحْ بِامْرَأَةِ شَبَابِكَ، الظَّبْيَةِ الْمَحْبُوبَةِ وَالْوَعْلَةِ الزَّهِيَّةِ. لِيُرْوِكَ ثَدْيَاهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَبِمَحَبَّتِهَا اسْكَرْ دَائِمًا. فَلِمَ تُفْتَنُ يَا ابْنِي بِأَجْنَبِيَّةٍ، وَتَحْتَضِنُ غَرِيبَةً؟" الأمثال ٥: ١٨- ٢٠

"لِيُوفِ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ حَقَّهَا الْوَاجِبَ، وَكَذلِكَ الْمَرْأَةُ أَيْضًا الرَّجُلَ". كورنثوس ٧: ٣

"لِيَكُنِ ٱلزَّوَاجُ مُكَرَّمًا عِنْدَ ٱلْجَمِيعِ،‏ وَٱلْفِرَاشُ ٱلزَّوْجِيُّ بِلَا دَنَسٍ،‏ لِأَنَّ ٱللهَ سَيَدِينُ ٱلْعَاهِرِينَ وَٱلزُّنَاةَ".‏ العبرانيين ١٣‏‏:‏٤

في الديانات الوضعية، ومثالا لها ما كان سائداً إبان الحضارة السومرية في بلاد ما بين الرافدين، كان يعرف بالزواج المقدس. وهو الزواج الذي حدث بين الآلهة، أي بين إله الشمس "تموز" والإلهة الأم أو "عشتار" التي كانت تعبد في تلك المنطقة. والزواج المقدس عند السومريين هو بمثابة ملحمة شعرية.

يقول مثنى الشلال في مقال "الزواج المقدس عند السومريين" نشره موقع الحوار المتمدن "يعتبر هذا الزواج محلمة شعرية قائمه بحد ذاتها تضاف الى ملحمة كلكامش الخالدة والتي سبقها بالفي سنة تقريباً ... ويتكون من ستة قصائد مكتوبة على ارقم طينية حيث تعرض لنا خمس رويات مختلفة للقصة". وبحسب الترجمة التي اوردها في المقال لبعض القصائد تغازل عشتار حبيبها تموز:

ألقيت عيني على جميع الناس 

دعوت دموزي لكي يتقلد ألوهية البلاد 

دموزي .. المحبوب من انليل 

الغالي ابداً من امي 

المحمود ابداً من ابي"

إلى أن تصل الملحمة إلى نهاياتها

"الملك يذهب رافع الرأس الى حضن أيناّنا المقدس 

يذهب رافع الرأس الى حضن أيناّنا المقدس 

الملك الآتي ورأسه مرفوع 

آت الى مليكتي ورأسه مرفوع 

يضم بغّي الاله آن المقدس"

"هذه المقتطفات توحي لنا بأن دموزي "تموز" كان في عين عشتار محل ثقة واختيارها الوحيد لكي يكون زوجاً لها بعد ان احببته حباً عظيماً". مثنى الشلال – الزواج المقدس عند السومريين – مقال – الحوار المتمدن.

وارتبط الزواج المقدس في الحضارة البابلية بعيد "الأكيتو" الذي يستمر لأحد عشر يوماً، فيما يعرف بأعياد الربيع التي تبدأ من نهاية شهر مارس وأول أبريل بحسب التقويم البابلي. وتمثل تلك الاحتفالات مظهراً اجتماعياً سنوياً تتجدد فيه الحياة بالنسبة للبابليين، وتبدأ الاحتفالات الشعبية في اليوم الرابع بعد انقضاء الأيام الثلاثة الأولى في التطهر والنظافة لإخراج العفاريت الشريرة. بعدها تستمر الطقوس الملوكية داخل المعابد بين الملك والكاهن الأكبر، ويتحول الاحتفال إلى مهرجان كبير يأتيه الناس من كل المناطق عن طريق البر أو المراكب والسفن في نهر الفرات، إلى جانب الطقوس الدينية يتبادل الناس المنافع والتجارة.

هذه الطقوس تهدف إلى إعادة الحياة إلى أو "قيامة" الإله مردوخ عبر طقوس عديدة ويعتبر اليوم الثامن هو يوم القيامة. "بعد أن يسقيهِ الكهنة الماء العجائبي المقدس تعود له الروح والحياة، ويخرج تمثاله من القبر إلى حيث ينتظره الكهنة والآلهة الأخرى الذين يقومون باستقباله وتهنئتهِ بمناسبة قيامته المجيدة من بين الأموات، ويأخذ مكانه في غرفة الأقدار (دوكو) وتتزاحم الآلهة لتجديد ولائها له ومنحهِ السلطة المطلقة وترديد أسماءهِ الخمسين، وأثناء ذلك يقوم الملك تواضعاً بوظيفة رئيس الحجاب، وكعادة مردوخ كل سنة يملي شروطه على مجمع الآلهة، بينما جموع الشعب الصارخة خارج المبنى ترعد إحتفالاً بعيد قيامة مردوخ.

وتبدأ تماثيل الآلهة مع جموع الشعب مسيرتها في شوارع المدينة، وتبلغ ذروة الإحتفال والصخب والبهجة قمتها حين يصل تمثال "صاربنيتوم" زوجة مردوخ وهي تتقدم موكبها العظيم حاملة بين ذراعيها تمثالاً لطفل صغير، ومحاطة بمجموعة من الكهنة والكاهنات المقدسات، والكل يُنشد ويرقص ويشرب، ومن الجهة المقابلة يتقدم موكب "عشتار" إلهة الحب والجنس والحرب والشبق والمعارك والبطولات، واقفة على جسد أسد كبير وعلى رأسها تاج الذهب والجواهر، وهي تتقلد سلاح القوس والكنانة والسهام". الحكيم البابلي – أكيتو، عيد الربيع البابلي، جذوره، أيامه عائديته – الحوار المتمدن.

في اليوم العاشر كان يتم الاقتران بين الإله "مردوخ" وعروسه "صاربنيتوم"، إذ كان الجنس من اهم الطقوس في هذا العيد الكبير للزواج المقدس. وكان الملك هو من يقوم بالممارسة الفعلية للجنس مع إحدى كاهنات المعبد لضمان استمرارية الحياة.

في الديانة الهندوسية القديمة تراوحت الحياة بين الرهبنة والعزلة والانقطاع للعبادة من جهة والانشغال الطبيعي بالعلاقات الاجتماعية والزواج والممارسة الجنسية وفقاً لما تحدده الآلهة على تعددها في تلك الديانة. وتمتزج الحياة الروحية بالجنسية في كثير من الممارسات في محاولة للوصول بهذا المزيج إلى غايات للوحدة، ويمكن قراءة ذلك بوضوح فيما يعرف في الهندوسية باسم "التانترا" وهو طقس مرتبط بالجنس والارتقاء به إلى وحدة الروح والجسد، وتحقق ممارسة هذا الطقس من خلال تمارين محددة إلى إطلاق الرغبة الجنسية في كل أعضاء الجسد بدلاً من حصرها في الأعضاء الجنسية، وهو ما يجعل الشريكين يبلغان اللذة في كامل الجسد.

وتقول أميرة حسن، في مقال نشرته على موقع ساسة بوست "من الكتب المُهمة في هذا الشأن والذي قدمته الهند القديمة عن العالم الـ«كاماسوترا» وهو ليس مجرد كتاب للتثقيف الجنسي، والعلاقات الحميمية والعاطفية، والأوضاع الجنسية المختلفة؛ بل هو يعتبر دليلًا مكتوبًا باللغة السنسكريتية يبحر في فن حب الحياة والاستمتاع بها، وكيفية الحصول على شريك حياة مناسب للمرء، والمتعة البشرية بشكل عام، ووجد هذا الكتاب أن الجنس جزء مُهم في حياة الإنسان ووصوله إلى التوازن العقلي والنفسي"..

على عكس الهندوسية، تنطلق الديانة البوذية من منصة العزلة والرهبنة في تأملاتها، وبحسب ويكيبيديا فإن تعاليم بوذا تتلخص في أربع حقائق وهي أن الحياة معاناة حيث يقول بوذا بحسب النصوص المتداولة كما ورد في موقع وكيبيديا الإلكتروني "ان سر هذه المتاعب هو رغبتنا في الحياة وسر الراحة هو قتل تلك الرغبة". والحقيقة الثانية هي أن منبع هذه المعاناة وأصلها هو الأنانية الإنسانية وحب الشهوات والرغبات، إذ يقول في ذات الموقع "ان منشأ هذه المعاناة الحتمية يرجع إلى الرغبات التي تمتلئ بها نفوسنا للحصول على أشياء خاصة لنا أننا نرغب دائما في شيء ما مثل: السعادة أو الأمان أو القوة أوالجمال أو الثراء....". والحقيقة الثالثة هي أهمية التخلص من تلك المعانة بالكف عن التعلق بالحياة والتخلص من الأنانية والشهوات ومتاع الدنيا لبلوغ الصفاء الروحي. والحقيقة الرابعة هي آليات التخلص من كل ما يؤدي لتلك المعاناة والتي لخصها في التفكير السليم والفعل السليم والكلام السليم والمعيشة السليمة والعلم السليم والسلوك السليم والملاحظة السليمة والتركيز السليم، وكلها تقود إلى التخلص من الشهوة والاضطراب الروحي وبلوغ التسامي الروحي بعيداً عن سيطرة الجسد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق