خروج جماعة المؤتمر الوطني.. حالة اللا دولة

أمير بابكر عبدالله

طرفان احتفيا بخروج جملة من قيادات نظام المؤتمر الوطني، الذي سقط بأمر الشعب، من السجن الذي كانوا ينتظرون فيه لاتهامهم بعدة قضايا، وبالتصريحات التي أدلى بها مطلوب الجنائية الدولية أحمد هارون. وضجت الأسافير بالخبر المتوقع منذ إندلاع حرب الأغبياء واستمرارها، والكل يدلي بدلوه متكهناً بذلك معززاً تكهناته حسب الموقع الذي يقف فيه.

الصورة: أحمد هارون- مواقع إلكترونية

الطرف الأول هم أنصار وقيادات نظام البشير الإسلاموي، الذين ظلوا يستعرضون قوتهم بعد أن نجحوا في زعزعة مرحلة الانتقال ويهددون علناً بإشعال الحرب على الكل منذ وقت مبكر، ويحرضون الجيش على الاستيلاء على السلطة على أمل إستعادة نفوذهم الضائع والانتقام ممن تسببوا في ضياعه. الطرف الثاني احتفى بعد أن أثبتت مجريات الأحداث توقعاته بهروب البشير وجماعته من السجن بعد إندلاع المعارك، ويجيء ذلك الاحتفاء في سياق "مش قلنا ليكم الحرب دي أشعلها الإسلاميون!". 

لا شك لدي، كما لدى قطاعات واسعة، في أن أنصار النظام البائد هم من خطط لهذه الحرب وأقحم فيها المؤسسة العسكرية بواسطة عناصره في الجيش إقحاماً وفرضها واقعاً يسير بقدميه وناقلاته وصواريخه بين طرقات العاصمة الخرطوم وبعض الولايات الأخرى، ويطير به محلقاً في الجو ليصيب البلاد بأكبر أذى ممكن. وهذا اليقين "عدم الشك" يعضده عندي ما شاهدته بأم عيني وأنا أعبر جسر سوبا في يوم الجمعة 7 أبريل لتناول إفطار رمضان مع والدي كما اعتدت أن أفعل في بقية الشهور الأخرى. وأنا أعبر الجسر على يميني ناقلة مدرعات وعلى ظهرها دبابة وخلفها عدة مركبات تابعة للقوات المسلحة تحمل أطقم الدوشكا.

أثار الأمر انتباهي قليلاً في تلك اللحظة، ما قبل إفطار رمضان، وقلت في نفسي إنها ربما قافلة عسكرية عابرة للجهة الأخرى من الجسر تقصد موقعها. واستبعدت ان تكون ضمن ترتيبات محاصرة التظاهرة التي أعلنتها لجان المقاومة في اليوم التالي السبت 8 أبريل، والشاهد أن جسري سوبا والحلفايا ظلا طوال مواجهة الآلة القمعية للإنقلاب للجماهير الثائرة الرافضة لحكم العسكر، خارج دائرة فعل الإغلاق الذي يطبق على بقية جسور العاصمة.

عند عودتي مساء بنفس الطريق وجدت الآليات العسكرية متوقفة في الطرف الآخر من الجسر والجنود يفترشون الأرض في مشهد لافت لانتباه المارة. هنا "الفار لعب في عبي" فالجسر، كما قلت، ليس من بين الجسور التي يتم إغلاقها بسبب التظاهرات،. ومع حركة إعادة الانتشار للمدرعات في محيط القصر الجمهوري ووسط الخرطوم التي سبقت ذلك اليوم، ومظاهر حركة الآليات العسكرية داخل شوارع العاصمة، وتصاعد حدة الخلافات بين الجنرالين وأخبار تعزيز حميدتي لقواته في الخرطوم، راودني الشك بان أمراً ما في طريقه للحدوث، قطع الشك بيان القوات المسلحة بعد وصول قوات حميدتي لمنطقة مروي وشروعها في إقامة قاعدة لها قرب المطار. وقبل ذلك، أي قبل السبت 15 أبريل، عبرت جسر سوبا وكانت القوة العسكرية لا تزال مرابطة في موقعها، دون مبرر منطقي كإغلاق الكبري بسبب توقع تظاهرات معلنة، إلى أن جاء صباح السبت وانتشر خبر القتال في المدينة الرياضية وأرض المعسكرات بسوبا وهي المناطق التي تتمركز فيها قوات حميدتي. 

وكما يحدث في كل الانقلابات وجدت المؤسسة نفسها مختطفة وفي مواجهة قوات حميدتي وأن بؤر الإسلاميين داخلها قد نزعت فتيل المعركة عندما اقتربت العملية السياسية من الدخول إلى عش "الدبابير"، وكان لا بد لها من التعامل مع الأمر الواقع في التصدي لرد فعل قوات حميدتي، وهذا رأي غالب المراقبين والمتابعين وقطاع واسع من المواطنين. في المقابل كان حميدتي وقواته يعدون العدة منذ وقت مبكر، حتى قبل ثورة ديسمبر، لاستغلال أي فرصة لتسيد المشهد العسكري وتفكيك المؤسسة العسكرية وجاءتهم الفرصة في طبق من ذهب وهم العالمون بباطن وظاهر القوات المسلحة فعناصرهم القيادية الأساسية هم من أبنائها، ومن دربهم ومنحهم السلاح هي ذات المؤسسة.

هل كل هذا المخطط المعلن الذي نرى نتائجه الكارثية والتي لا تزال مستمرة، وستلقي بتداعياتها على المشهد العام طويلاً حتى بعد توقف القتال، من أجل إخراج رئيس النظام البائد وقياداته من السجون وعودة المؤتمر الوطني إلى السلطة مرة أخرى؟ قبل تفصيل الإجابة على هذا السؤال لابد من الإشارة إلى أن خروج كل المحكومين والموقوفين والمتتظرين لأحكام قضائية في السجون شيء طبيعي في ظل ظروف لا تتوفر فيها مقومات الدولة. فالسودان ومنذ سيطرة المجلس العسكري على السلطة في 11 أبريل 2019، وبعد تشكيل مؤسسات سلطة الشراكة بين المجلس وقوى الحرية والتغيير، لم تتوقف محاولات عرقلة مرحلة الانتقال المفروض أنها ستعيد بناء مؤسسات الدولة تمهيداً للدخول في مرحلة ما بعد الانتقال بإجراء انتخابات عامة. وتوج إنقلاب 25 أكتوبر 2021 محاولات العرقلة بتقويض المرحلة الانتقالية على علاتها، وخلق حالة اللا دولة التي تعيشها البلاد بتغييب كل المؤسسات الدستورية.

حالة اللا دولة تمثلت في كثير من المظاهر، لعل أبرزها هو عدم قدرة البرهان كـ"رئيس لمجلس السيادة" وكقائد عام للجيش على اتخاذ قرار للتعامل مع إعادة قوات حميدتي انتشارها قبيل اندلاع الحرب، وكذلك عدم قدرته في السيطرة على قواته بحيث يضبط ويربط حركتها وفقاً لخطة عملياتية واضحة وهذا يفسر تحرك الآليات العسكرية في شوراع الخرطوم وانتقالها من موقع إلى آخر، هذا إذا لم يكن هو الآمر فعلاً بهذه التحركات، قبيل انفجار الأزمة.

حالة اللا دولة هي ما أفضت إلى غياب كامل للمؤسسات وعلى رأسها أجهزة إنفاذ القانون، حيث غاب جهاز الشرطة عن المشهد وغابت وزارة الإعلام والمالية وغابت السلطة القضائية بمجرد تفجر الأحداث. بالتالي هذا الغياب هو ما يفسر خروج قيادات المؤتمر الوطني المحلول من السجون، وليس لبطولات أو قدرات خارقة لتنظيم الإسلاميين كما حاول أحمد هارون أن يوصله عبر رسالته الصوتية بأنهم قادرون على حماية أنفسهم.

أن يقول بيان للقوات المسلحة أن رئيس النظام البائد عمر البشير وآخرين سمتهم موجودون في المستشفى لتلقي العناية الطبية، وهو أمر طبيعي أن يتلقى المحكومون او المنتظرون العناية الطبية، فهو مجرد صدفة شاءتها الأقدار وإلا كانوا خرجوا مع الخارجين من السجون، الصدفة هي من جعلتهم تحت حماية منطقة تسيطر عليها القوات المسلحة.

حالة اللا دولة هي ما جعلت البرهان غير قادر على السيطرة على مناطق واسعة في العاصمة الخرطوم، وهو ما تسبب في عدم قدرته على استصدار قرار بإعلان حالة الطوارئ في البلاد وجعل المشهد فوضوياً بامتياز. ومعروف أن حالة الحرب تستوجب إعلان حالة الطوارئ وإصدار مراسيم دستورية وإلغاء مؤقت لمواد في الدستور، وأصلا البرهان لم يكن يعمل بدستور منذ الانقلاب ليعمل على إلغاء بعض بنوده.

حالة اللا دولة هي ما جعلت قطاعات واسعة من المواطنين تقف متفرجة على هذا القتال العبثي، وأن تنجو بنفسها من جحيم النيران التي تتساقط على رؤوسها إذ لا دولة تحميها أو توفر لها أقل المعينات، ولا ترى مسؤولاً ولا وزيراً يخاطبها وتعتمد في حصولها على الأخبار على وسائط التواصل الاجتماعي ونشرات الأخبار لمن توفرت لديهم خدمات الانترنت والكهرباء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق