ليس هناك حرب جيدة كفاية لخوضها

 محمد فاروق سلمان

"في المانيا رفضت روزا لوكسمبرغ الحرب، الموقف الذي قاد لاغتيالها بواسطة خياله الجيش الالماني في ١٩١٩، بينما دعا لينين الاحزاب الشيوعيه لتحويل الحرب في اوروبا لحرب اهلية ضد الانظمة الراسمالية، لينجح بذلك في روسيا وحدها اذ تتحول الحرب هناك لحرب اهلية انتهت بخروج روسيا من الحرب الاولى، وصعود البلاشفة للسلطة، ومن خلف شعار لا للحرب تم شرعنة اكثر حروب العالم دموية ضراوة ودموية!"

نحن نعيش في هذا الجزء المغضوب عليه من العالم، وكانما لا يكفينا هذا الكفاف في العقل لكل من قادتنا السياسيين والعسكريين الذي وضع بلادنا في هذا الشظف والاستباحة للحق في الحياة، طوال تاريخ دولتنا الوطنية، لتشتعل الان هذه الحرب بين ابناء وطن واحد وعقيدة عسكرية واحدة لعقد من الزمان.

لا تكفي هذه النظرة من قبل الجمهور للحرب كشيء لعين علناً، او كحرب مباركة سراً، وليس انقسامنا هذا حولها الان بالامر اليسير، كما لا يكون انهاءها بالتمني كونها ستكون حرب خاطفة، يحول حسمها دون انتقالها لمناطق اخرى، كما هو يحدث الان،  او تجدد حرب اهلية شاملة على انقاض السلام الهش حالياً، ولكن شعار لا للحرب يجب ان يعبر عن موقف سياسي متكامل يضع اولا الحق في الحياة كحق مقدس، ويتجاوز كفاف عقلنا السياسي من خلال تفاهمات واضحة بين السودانيين؛ تضع اولا مسالة استعادة ارادتنا الوطنية، ووحدة التراب السوداني على اساس التراضي بيننا كسودانيين، وليس غصباً من خلال الوعي بمصالحنا معاً، والانتباه لمهدداتنا جميعاً، والتي يجب اولا ان نحذف هذا التهديد الذي نحمله لبعضنا الان.

قوات الدعم السريع ليس قوة أتت من خارج القانون (قانون الدولة بحكم الواقع)، ولكنها صناعة نظامنا السياسي القديم، والمستمر رغم ثورتنا عليه، وفي اطاره الرسمي وليس من خلال الاحتجاج على هذا النظام، بل ولدت لقمع هذا الاحتجاج في ايام تهديد الانقاذ للدولة وكينونتها الحديثة التي تقوم على احتكارها للعنف وقدرتها على انفاذ القانون، من خلال مؤسسات خاضعة لحكم الدولة وتفويضها القانوني الشرعي، الذي يحكم احتكارها للعنف الحد من بطشه وغشامة مالاته وليس الاستثمار فيه، وفق تعاقد اجتماعي يحفظ الحقوق ويصون الحريات، شان هذه القوات شان قوات الدفاع الشعبي، وجهاز الامن الشعبي في ظل قانون وحيد للدولة ايام حكم الاسلاميين: هو البقاء في السلطة حتى ولو كان الثمن تهديد وجود الدولة نفسها، وفض سامر وحدتها الوطنية.

طوال شهور الحراك في ثورة ديسمبر، وقفت هذه القوات، اي الدعم السريع، موقف مغايرا لموقفها ايام هبة سبتمبر ٢٠١٣، ومن خلال وجودها في اللجنة الامنية كانت جزء من انحياز القوات المسلحة والاجهزة الامنية الرسمية لمطالب الجماهير، وربما بشكل مرجح، وحاسم، الامر الذي انتهى بعزل البشير واعلان القائد العام للقوات المسلحة ووزير الدفاع وقتها الفريق عوض بن عوف انتهاء نظام الانقاذ، ليقود التخبط داخل الحركة المدنية التي عانت طوال ثلاثين عاما من ضربات متلاحقة وانهاك مقصود فعدمت الرؤية والقدرة على القيادة للانتقال بالثورة لرحاب الدولة، فدفعها تكالبها الرخيص للسلطة للدفع بحركة الجماهير لفصول جديدة من اجل التغيير، وكلفة اضافية يتضح من كلفة هذه الحرب الان، ان فض اعتصام القيادة في ليلة الغدر ليس اعلاها، وان كان اساسها!   

ليس هناك تجني اذا قلنا بوجود طموح سياسي عند قائد الدعم السريع  يختفي خلف مواقفه من الثورة منذ اندلاعها، الامر الذي حكم اخطاءه وصوابه طوال  تصدره المشهد كنائب لرئيس المجلس العسكري الانتقالي بدءا ولاحقا نائبا لرئيس مجلس السيادة في اول اختراق للوثيقة الدستورية نفسها! وهو ذات الامر الذي انتبه اليه الامام الراحل الصادق المهدي مبكرا، ونصحه صادقا، اذا كان يريد حكم السودان فعليه تكوين حزبا سياسياً وترك مسالة قوات الدعم السريع لتدمج في الجيش وينافس في الانتخابات. 

اذا كان ابن البادية الذي خلقت منه دولة الانقاذ فراغة عندما انتبهت اليه، وشريكا في انتهاكاتها، قد غلب سلمية هذه الثورة، فالاحرى ومن منطق هذه السلمية ان لا تحول منه الثورة ضحية لانتهاكات دولة متصلة منذ استقلالها، نبغت في استغلال ابن الهامش ضد الهامش، كما برعت في توظيف اجهزة الدولة ضد الدولة، فصرنا لهذا التهديد لوجودنا، والذي نشهد الان فيه فصلا جديد وقد لا يكون اخيرا كما يشتهي بعضنا، في غفلة كغفلة فلول النظام السابق، وهم خلاف جمهور النظام السابق وسدنته جميعهم، والذي لا يشاركهم كله هذا الاحتفاء بفصول الموت هذه، والتهليل لجيش عمل نظامهم على اذلاله والحط من قدره، رغم تاريخه المهني الكفؤ بغض النظر عن تاريخه القتالي الذي فرضه عليه نظامنا السياسي والتي كانت حروب الانقاذ اواخرها!

على القوات المسلحة انفاذ سلطة القانون والاحتكام اليه، ووفق هذا الصراع الدائر الان لا معنى للحياد اتجاه دورها هذا، ولكن لا قيمة لدعمها اذا لم يكن مشروطا بالامتثال التام لحكم القانون ومقاصده، وضرورة تجنيب المدن هذه الحرب الان، والبلاد تفجر صراع اهلي مستقبلا، وذلك من خلال طرح شروط واجبة وممكنة لوقف الاقتتال فورا، وليس العودة لما قبله، واذا كنا نردد "مافي مليشيا بتحكم دولة"، فلا جيش يحكم أصلًا، ومنذ اعتصام الجماهير السودانية امام القيادة المسلحة ارادت هذه الجماهير ان تستعيد اول ما تستعيد هذا الجيش، وتعيد له كرامته التي اهدرتها سنوات الانقاذ،  

على الحركة السياسية المدنية الان الصحيان من غفلتها هذه ودنو الهمة وهوان مطالبها، فبلادنا الان على محك لم تقدر عليه وان دفعتنا اليه، وكما لم يُقَدِر "فلول" النظام السابق شعبنا حق قدره، وحسبو نبله هوانا، كانهم البوربون: لم يتعلموا شيئا ولم ينسوا شيئاً، وفي تهديدهم لهذه السلمية يتربص بهم مصير البوربون انفسهم، فهذه الحرب لن يكون وقودها البسطاء من جنود بلادي في الطرفين ولكنها ستطال اول من تطال مدنيي الزي من كل الاطراف الذين ادمنوا هندسة امتيازاتهم من دماء هذا الشعب حتى ولو كان هذا طريق شاق ومضني، فحوشوا بلادكم عنه باعتزال امر الناس بهذا الطريق قد تسلموا.

الدعوات لضرورة وقف الاقتتال وضرورة الوصول لحل عبر التفاوض لا يجب ان تاتي خاوية من قبل العناصر الوطنية كانما نحن مراقبين دوليين لشأننا، والشروط الواجبة لوقف الاقتتال لا يجب ان تاتي منفصلة عن تسوية تاريخية في مقدمتها تقنين احتكار الدولة للعنف عبر اصلاح المؤسسة العسكرية واجهزة الدولة التي تقوم على هذا الاحتكار وفي مقدمتها الاصلاح العدلي لمؤسسات القضاء والنيابة وقوانين البلاد، ولا يجب ان تنسينا اصوات المعركة واجبات الانتقال الذي تعثرنا به، كما لا يجب ان ننسى ارث دولتنا الذي يهدد وجودها الان، وتاريخ طويل الانتهاكات ما يجري الان ليس استثناءا، ولكنه ثمن الفصول المغفلة في تاريخنا والواجبات المؤجلة بخمول لتفكيك بنية نظام سياسي فاسد، وتحقيق العدالة في انتهاكات لم تكن حصرا على سنوات الانقاذ في التاريخ، كما لم تخلو منها لحظات الحاضر  المعاصر. عندها ستكون لا للحرب فعلا وليس قولا فحسب.  والا ستطل دولتنا القديمة في دورتها المفزعة المهلكة هذه المرة..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق