ثنائية السحر والجنس.. الجنس والنظام الاجتماعي -15

الفصل الخامس -1-

تتبع عالمي السحر والجنس لا بد أن يقود إلى ارتباطهما الوثيق بالنظام الاجتماعي وبالتالي بسيرة الانسان في الأديان، وكانت الفصول السابقة تبحث في قضيتي السحر والجنس داخل إطارها التجريدي وإن لامست بشكل بسيط تداخلاتهما بين بعضهما وتفاعلاتهما داخل انساق اجتماعية أفقياً ورأسياً وربما بعض الملامح عن تأثيرهما في النظام الاجتماعي عموماً.

الصورة: مواقع إلكترونية

وطالما انطلقت هذه القراءة من منصة الأنثروبولوجيا فلابد أن تتوغل بشكل أعمق عبر بوابة الأنثروبولوجيا الاجتماعية وكذلك الانثروبولوجيا الثقافية باعتبارهما فرعين من العلم الأم ولأنهما الأكثر التصاقاً بهاتين القضيتين في تمظهراتهما الاجتماعية والثقافية.

مثل الجنس ظاهرة تكتنفها التعقيدات التي صاحبت التطور البشري، فهو متنازع بين الدنيوي والديني بين الحرام والمقدس، وأسست تلك التعقيدات لقوانينها في كل حالة باعتبارات الزمان والمكان. 

بحسب تفسير ابن كثير للآية الأولى من سورة النساء "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا" (1)، يقول عن خلق الزوجة ما ذهب إليه الكتاب المقدس، إذ جاء في تفسيره "يقول تعالى آمرًا خلقه بتقواه، وهي عبادته وحده لا شريك له، ومُنَبّهًا لهم على قدرته التي خلقهم بها من نفس واحدة، وهي آدم، عليه السلام (وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا) وهي حواء عليها السلام، خلقت من ضِلعه الأيسر من خلفه وهو نائم، فاستيقظ فرآها فأعجبته، فأنس إليها وأنست إليه وروى ابن أبي حاتم حدثنا أبي، حدثنا محمد بن مقاتل، حدثنا وكيع، عن أبي هلال، عن قتادة عن ابن عباس قال: خُلقَت المرأة من الرجل "من تفسير ابن كثير" (2/2069).

عندما تفجرت تلك الغريزة في لحظتها الأولى، واجهها أبو البشر وأمنا حواء، بحسب ما جاء في الكتب السماوية، بقانون العيب مباشرة وهما يحاولان سترة العورة بخصف ورق الجنة على مكانها ليواريا "سوآتهما". واختار آدم الشقاء رغم التحذيرات الربانية، والشقاء يتجلى في الجوع والعري والعطش والضحى، وهو الرغبة في إشباع تلك الحاجات والصراع الذي سيدور من أجل تحقيق هذا الإشباع، كما أورد القرآن الكريم في سورة طه "فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَٰذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَىٰ (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَىٰ (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَىٰ" (119).

الزواج.. مشروعية الجنس

هبط آدم وحواء من الجنة إلى الأرض، وثالثهما الشيطان، وهما بكامل حواسهما وغرائزهما التي تحتاج إلى الإشباع، وأعضائهما الجسدية التي بواسطتها يتحقق ذلك. هبطا وهما زوجان بأمر الله منذ أن خلقهما، "وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) سورة البقرة. ويبدو التأسيس لقواعد المؤسسة الاجتماعية المستقبلية بالغة الوضوح في مفردة "اسكن أنت وزوجك الجنة"، فالسكن غير معناه المادي المتمثل في المكان يتجاوز ذلك إلى العلاقات الحسية والمعنوية، وهو ما سيلازم سيرة الإنسان في الأرض. 

وإذا كان الفيلسوف اليوناني أرسطو قال باجتماعية الإنسان، وهو ما يقول به العلامة ابن خلدون في مقدمته الشهيرة في بابها الأول العمران البشري، بأن الإنسان كائن مدني ولا يمكن له في قضاء حاجياته إلا بالاستعانة بالآخر، فإن هذا ما ثبتته الكتب السماوية التي تحدثت عن خلق الإنسان في مرحلة ما بعد نفخ الروح فيه، بأنه "الإنسان" مخلوق على فطرة الاجتماع، والفكرة من خلقه تقوم على هذه الحقيقة، لذلك تكرر ذكر خلق النفس وزوجها في مرحلة ما بعد الهبوط إلى الأرض. والزواج هو بوابة المؤسسة الاجتماعية ومفتاحها هو الجنس، فبدونه لا يستقيم الناموس الكوني ولا يتحقق الغرض من خلافته في الأرض. لذلك جاءت التعاليم الدينية واضحة في أمر الزواج وتأطيره وإحاطته بقوانين لتنظيم الحياة الجنسية بين الناس وتوجيهها في قنواتها الإيجابية. 

جاء في القرآن الكريم، وهو يخاطب الناس جميعاً دون تخصيص في سورة النساء "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا" (1)، والغريزة الجنسية لدى الإنسان قائمة على قاعدتين حسية ومعنوية، لا تستقيم الحياة الزوجية إلا بهما. حسية تتبدى في الجسد وأعضائه كآلية لإشباع هذه الغريزة، ومعنوية تتمثل في المشاعر التي تبقي هذه الغريزة متقدة وجاء في سورة الروم "وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ" (21)، ولا يكتمل الجنس إلا بالفعل، أي أن يمارس الجسد ما يتوجب عليه فعله في هذه الحالة لإشباع الغريزة، وهو بالضرورة ما سيفضي إلى تحقيق قانون استمرار الحياة "وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً"، ويفتح الباب للدخول إلى المؤسسة الاجتماعية. ويتحقق ذلك بقيام كل عضو في الجسد بدوره، لضمان استمرارية عملية الخلق، يسكن الزوج إلى زوجه، يمارس معها الجنس بالطريقة المتعارف عليها، كما جاء في سورة الأعراف "هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا ۖ فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ ۖ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ" (189)، وينتج عن ذلك الحمل خلق جديد كما هو واضح في سورة المؤمنون " وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ"  (14).

وتتجلى صورة الأسرة النووية والأسرة الممتدة بوضوح كنواة للمجتمع في القرآن الكريم في سورة النحل، ويعرف علم الاجتماع الأسرة بأنها "الخلية الأساسية في المجتمع وأهم جماعاته الأولية، تتكون الأسرة من أفراد تربط بينهم صلة القرابة والرحم، وتساهم الأسرة في النشاط الاجتماعي في كل جوانبه المادية والروحية والعقائدية والاقتصادية". وجاء في سورة النحل "وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُون" (72).

ويضع القرآن الضوابط الشرعية للممارسة الجنسية التي ستفضي إلى تكوين الأسرة المنشودة، والتي تسهم في بناء المجتمع، ويحدد العلاقات الزوجية وفقاً لما ستفضي إليه الممارسة الجنسية من نتائج وهي البنين والحفدة والتي بدونها لن يتكون المجتمع. ومنعاً لتداخل الأنساب واختلاطها وما يمكن أن تفضي إليه من تعقيدات اجتماعية، وتنظيماً لتلك الممارسة، حدد ما هو محرم على الرجل من النساء وما هو حلال، كما جاء في سورة النساء "وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23) وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24) وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25) يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا " (28).

ومن قصص القرآن الكريم الموحية، ما قاله نبي الله لوط عندما جاءته رسل ربه في سورة هود "وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79)". وجوهر الإيحاء فيها هو الفطرة السليمة في التعامل مع الغريزة الجنسية، وقرر في تلك اللحظة العصيبة أن يفدي رسل ربه، وهو لا يعلم من هم، ببناته عندما رأى قومه وخبر نيتهم وهم قوم يأتون الذكران بدلاً عن النساء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق