ثنائية السحر والجنس .. من الغواية إلى السحر - 9

الفصل الثالث -1- 

وردت الغواية مرات عديدة في آي القرآن الكريم وارتبطت بالشيطان، ورغم أنها تأتي بمعنى الضلال والتضليل أو الفساد والإفساد عن الطريق القويم الذي رسمه الله سبحانه وتعالى لعباده المخلصين، فإنها بدأت في السماء مع أول قصة خلق أبو البشر، سيدنا آدم عليه السلام، حين رفض الشيطان الاعتراف به كمخلوق يتميز عليه. فهي إذاً لا بد لها من طرفين، أحدهما يمتلك القدرة على التأثير على الآخر وتصوير الأشياء على نقيض ما هي عليه فيقع الآخر في حبائل ذلك التصوير وما يترتب على ذلك من انحراف النظر والتفكير في الأصل ورؤيته من منظور الحالة الأخرى، حالة الوقع تحت تأثير الغواية.

الصورة: موقع الموسوعة العربية الشاملة

وكما جاء في قصة الخلق في الفصل الأول فإن الشيطان رفض السجود لآدم، على عكس الملائكة، لأنه يراه أقل شأناً فقد خلقه الله من نار فيما خلق آدم من طين. وإمعاناً في حالة التشفي والغيرة ترصد الشيطان آدم وزوجه اللذين أمرهما الله بدخول الجنة، مقرراً إخراجهما منها ليرتبط مصيرهما به، فأغواهما بتصوير الشجرة التي منعهما الله سبحانه وتعالى عدم الأكل منها بأنها شجرة الخلد وأنها ستدخلهما في عداد الملائكة، رغم التحذير الرباني منه بأنه "عدو مبين". "فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآَتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) – الأعراف.

تمثل الغواية في معناها المحدود مدخلاً إلى عالم معقد واكثر اتساعاً هو السحر؛ فالسحر في اللغة يشمل عدة معانٍ، من بينها صرف الشيء عن حقيقته إلى غيره، ويندرج تحته ما يعتبر خداعاً وكذلك تصوير الباطل في صورة الحق. فإن جاءت الغواية بالوسوسة الشيطانية لآدم وزوجه لتصور لهما الباطل في صورة الحق، فهي أولى عتبات السحر، لذلك اعتبر أن اللحظة الفارقة هي تلك التي وقع فيها آدم تحت سحر الشيطان وتأثيره. والسحر في الاصطلاح له تعريفات كثيرة لكثرة أنواعه وطرائقه، وكما جاء في "معجم المعاني الجامع فإن "السِّحْرُ : كلّ أمر يخفى سببُه، ويُتخيّل على غير حقيقته، ويجري مجرى التمويه والخداع، إخراج الباطل في صورة الحقّ، استخدام القوى الخارقة بواسطة الأرواح". وقيل أنه "عزائمُ ورقىً وعُقدٌ تؤثر في الأبدان والقلوب، فيمرض، ويقتل، ويُفَرِّق بين المرء وزوجه، ويأخذ أحد الزوجين عن صاحبه"، وعرفه بن خلدون بأنه "علمٌ بكيفيةِ استعداداتٍ تَقْتَدِرُ النفوسُ البشريةُ بها على التأثيرات في عالم العناصر إما بغير مُعِينٍ، أو بمعين من الأمور السماوية". 

الأديان السماوية تعترف بالسحر كحقيقة موجودة منذ الأزل، ارتبطت بتطور مسيرة الإنسان وساهمت في تشكيل والتأثير على كثير من الحقب التاريخية ونظمها الاجتماعية السائدة حينها. بل ويمثل السحر فكرة مركزية في تلك الأديان، ويمثل الضفة الأخرى في مسيرة حياة الإنسان التي تواجه ضفة التقوى والإخلاص والإيمان الغيبي بالله ووحدانيته والتأمل في آياته التي يبسطها على مر الأزمان لتأكيد ربوبيته. وإن أجاز الله سبحانه وتعالى، كما جاء في القرآن الكريم، للشيطان أن ينظره إلى يوم يبعثون، وأن يقعدن لهم الصراط المستقيم، ثم ليأتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ليحرفهم عن سبب خلقهم "وما خلقت الإنس والجن إلا ليعبدون"، إلا عباد الله المخلصين.

والله، سبحانه وتعالى، هو خالق كل شيء بما في ذلك الشيطان وغوايته وقدراته على السحر وهو كذلك قادر على التحكم فيها متى شاء، لذلك نجده، سبحانه وتعالى وكما جاء في القرآن الكريم، سخر الشياطين لواحد من أنبيائه وهو سيدنا سليمان الذي آتاه ملكاً وحكماً ما ينبغي لأحد من بعده" رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب"، فاستجاب له ربه كما جاء في سورة ص "فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآَخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38)". وقدرات الله سبحانه، وآياته لا تندرج تحت مفهوم السحر وتعالى الله خالق كل شيء عن ذلك، لتجيء الآيات القرآنية المفسرة لاستجابته لدعاء سليمان عليه السلام متسقة مع كمال قدرته وواضحة في سورة البقرة "وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)".

السحر بين العلم والدين

يذهب الفيلسوف الفرنسي، ومؤسس الفلسفة الوضعية ومجترح مصطلح "سوسيولوجيا" الذي حدد اسم علم الاجتماع، أوغست كونت في كتابه "محاضرات في الفلسفة الوضعية" إلى أن الفكر البشري قد مر خلال تطوره التاريخي بثلاث مراحل، هي المرحلة اللاهوتية التي تعلل الأشياء والظواهر بكائنات وقوى غيبية، والمرحلة الميتافيزيقية التي تعتمد على الإدراك المجرد، والمرحلة الوضعية التي يتوقف فيها الفكر عن تعليل الظواهر بالرجوع إلى المبادئ الأولى ويكتفي باكتشاف قوانين علاقات الأشياء عن طريق الملاحظة والتجربة الحسية. "ويكيبيديا".  

فيما يربط عالم الاجتماع ماكس فيبر، بين الدين والسحر. ويرى أن الأشكال الأولى من التصرف الذي تدفعه عوامل دينية أو سحرية موجهة نحو العالم الدنيوي. فينبغي تحقيق الأعمال التي يوصي بها الدين أو السحر بهدف تحقيق السعادة والعمر المديد على الأرض. ويرفض فيبر تعريف الدين باللا معقول، قائلاً إن الأعمال التي يشكل الدين أو السحر حافزاً لها هي أعمال منطقية أو منطقية نسبية. "كتاب تثنية الاشتراع".

وبغض النظر عن الاتفاق مع كونت أو فيبر من عدمه، فإن المرحلة الأولى للجنس البشري كانت في مواجهة مع الطبيعة وقواها الخارجة عن إرادته وظواهرها التي لا يجد لها تفسيرا، ووجد نفسه عاجزاً عن التعامل معها ما أسس للـ "ما وراء الطبيعيات أو الغيبيات"، وهي المرحلة التي بدأ فيها الإنسان اللجوء إلى قوى خارج نطاق قدراته العقلية لتفسير الظواهر التي يراها ومنها انطلق العقل في البحث عن الله. وسبق القرآن الكريم أوغست كونت وهو يفسر لنا هذا الأمر في سيرة إبراهيم، عليه السلام، وكيف هداه عقله إلى الله تعالى وهو يرى آياته في الكون "وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ - الأنعام: 75-83.

وعلى النقيض من المتأمل في آيات الكون، كما في حال إبراهيم عليه السلام والذين هداهم الله تعالى من أمثاله، وجد آخرون كثر في اللجوء إلى نسبة تلك الظواهر لقوى خارقة ومنها السحر ملاذاً يطمئنون إليه ويتمسكون به. ذلك ما انطلقت منه "ويكيبيديا" في التعريف بتاريخ السحر "مارس إنسان العصر الحجري الطقوس والتعاويذ السحرية فالرسوم والرموز التي نقشت على جدران الكهوف والمغارات والكتب والأساطير القديمة تدل على ذلك، فقبائل (النياندرتال) و(الكرومانيين) الذين عاشوا على هذه الأرض منذ ما يزيد عن 80 ألف سنة أحسوا أنهم يواجهون شراسة الطبيعة وجها لوجه، إضافة إلى الحيوانات الضارية والأفاعي الشرسة والوحوش الكاسرة. فاستعانوا على ذلك كله بالسحر حيث كان لكل قبيلة ساحر يستعينون به على مواجهة تلك الصعاب، فيرسم لهم صورة دب مثلا على الأرض، ثم يقوم بالدوران حولها عدة مرات وهو يترنم ببعض الكلمات التي لها مدلول سحري مع تأدية بعض الرقصات، ثم يغرس بعصاه الحجرية في عنق الدب المرسوم، وبعدها ينطلق الصيادون يتعقبون آثار الدببة ليعودوا بها صريعة."

اشتغل علماء الاجتماع بصفة عامة والأنثروبولوجيون بصفة خاصة بالسحر كمادة خصبة يمكن الوقوف على كنهها وجوهرها من خلال الدراسات الامبيريقية، والملاحظات المباشرة. واختلفت رؤى الانثروبولوجيين للسحر، وتوزعت نظرياتهم بين نسبته إلى الدين أو إلى العلم. يقول فردريك كيك في دراسته "نظريات السحر في التقليدين الأنثروبولوجيين الإنجليزي والفرنسي"  ترجمة: م. أسليـم، " للوهلة الأولى، يبدو السحر أقرب إلى العلم منه إلى الدين لسببين: الأول أنه يفترض وحدة قوانين الطبيعة ويزعمُ التأثير فيها بفضل معرفة هذه القوانين، ما يجعله أقرب إلى العلوم التطبيقية والتقنية؛ والثاني لأنه يُزاول من لدن أشخاص هامشيين يُنظر إليهم بوصفهم عباقرة أو أشرارا وليس من قبل جماعات تلتئم حول عبادة ما، ولهذا السبب كانت صورة الساحر المتدرِّب أقرب إلى عالم البدايات منها إلى الكاهن. ولكن السحر قريب من الدين لكونه يعتمد على كيانات غير مرئية يتم التسليم بتدخلها الفعال في العالم المحسوس؛ وفي هذا الجانب يشارك السحرُ أيضا في طريقة التفكير الدينية، ويستخدم معتقدات دينية للتأثير على العالم. وبذلك، قد يكونُ السحرُ بداية للعلم في المجتمعات الدينية واستمرارا للدين في المجتمعات العلمية."

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق