الفصل الثاني -3 - العري في الديانات والأساطير القديمة
الباحث في الديانات والأساطير القديمة لن يجد صعوبة في تتبع أثر العري بين ثناياها، وعلاقته بكثير من الممارسات الطقسية والدينية، وصلتها بالعديد من الممارسات في عصور قريبة وربما في عصرنا الحديث.
"ويذهب نفر من علماء الميثولوجيا إلى أن
أول الأعمال الأدبية والأسطورية ولدت في المعابد وهياكل الآلهة، ويعتقد (روبرتسون سميث W.R
Smith) أن الأساطير القديمة كانت بمثابة
الاعتقاد الديني، لأن التراث المقدس كان يتخذ شكلا قصصيا يدور حول الآلهة، ويقوم
في الوقت ذاته بتفسير الأفكار الدينية وتوضيحها بشكل أبسط، بحيث كانت الأسطورة جزءا
من بنية الدين وطقوس العبادة، لكنها لم تتخذ صفة الإلزام، فخضعت لحرية الإنسان مما
جعلها عرضة دائمة للتغير من قبل كافة القوى التي يمكنها الاستفادة منها، كذلك
(مالينوفسكي) إلى أن الأسطورة كانت بمثابة الدستور الاعتقادي الذي يفسر الحاضر
ويؤمن المستقبل، وأنها كانت ذات غايات عملية، تهدف إلى ترسيخ عادات اجتماعية، أو
تدعيم سلطة عشيرة بذاتها، أو إقامة نظام اجتماعي بالذات .. الخ." الأسطورة
والتراث – سيد القمني
ولعل أحد المعتقدات الخرافية التي كانت شائعة
في أوربا حتى تاريخ قريب قبل عدة قرون فيما يعرف بالقرون الوسطى، تقترب من البؤرة
الساطعة للفكرة، والتي عرفت بـ"سبت الساحرات". وهي طقوس تعود إلى
الوثنية القديمة قبل انتشار الديانة
المسيحية في أوربا، وكثير من الروايات والقصص والسيناريوهات الدرامية السينمائية
والتلفزيونية قامت على أكتافها، بل وأعاد البعض بعثها في عصرنا الراهن بصور مختلفة
سنتطرق إليها في حينها.
"اعتقد الناس بأن الساحرات يجتمعن في
بعض ليالي السبت في أماكن نائية ومنعزلة كالغابات والجبال من اجل ممارسة شعائر
وطقوس تكرس لتبجيل الشيطان وخدمته، وكانت هؤلاء الساحرات فتيات شابات جميلات
يمتلكن القدرة على الطيران عن طريق امتطائهن لمخلوقات سحرية كالجن والعفاريت أو
يحلقن بواسطة مكانسهن القشية وكن يستعملن هذه القدرة للانتقال إلى الأماكن البعيدة
والنائية التي تقام فيها شعائر السبت، وما أن يصلن إلى هناك حتى يقمن بسحق الصليب
تحت أقدامهن ثم يعمدن أنفسهن من جديد باسم الشيطان ويقمن بخلع ملابسهن ويتقدمن
واحدة بعد الأخرى لتقبيل مؤخرته ويبدأن بالرقص حوله على شكل حلقة يشاركهن في ذلك
الجن والعفاريت الذين كانوا يتقمصون أشكالا بشرية وحيوانية وأحيانا يتقمصون أجساد
الساحرات أنفسهن." *سبت الساحرات .. أساطير وخرافات أدت إلى موت مئة ألف إنسان
– أياد العطار – مقال.
الأسطورة السومرية تقول ان الآلهة صنعت "
الرجل" من طين وتركته بشكله الاول عاريا يتجول برفقة الحيوانات في الجنة التي
كانت. وهناك اسطورة اخرى لها قصة بطريقة مخالفة، حيث تقوم الالهة بصنع الانسان
بالذات من اجل ان يخدمها في حدائقها المحيطة بمدن الالهة. هنا يذكرون ان الالهة
تعلم الانسان انه من الخطأ ان يكون المرء عاريا وتدعوه لتغطية عورته.
وفي رأي معاكس لهذا، يذهب علماء أنثروبولوجيون
إلى أن الإنسان البابلي، لم يكن يخجل من كونه عارياً ولا هو بالأمر الذي يستحق
الحياء منه، ويضيف البعض إنه أصلاً لا يعي سوءته بمفهومها المقدس. واستدعته الظروف
المحيطة به إلى أن يتخذ لباساً لحماية نفسه والتخفيف من وطأة تلك الظروف، ومنها ما
يتعلق بطبيعة المناخ مثل حرارة الشمس المرتفعة وأجواء الصقيع والبرد ومواسم المطر،
إضافة إلى طبيعة الأعمال التي يمارسها والتي تتطلب بعض الحماية التي توفرها
الملابس. فالمسألة هنا لا علاقة لها بالأخلاق ولا خاضعة لمعايير القدسية والحياء
ولا الخطيئة.
الديانات الهندية غنية بالأسطورة وهي كغيرها من
الديانات ذات ارتباط وثيق بالنظام الاجتماعي السائد، بل شكلت الديانات عنصراً
هاماً في صياغة القيم الحاكمة للنظام الاجتماعي. ومن الديانات التي ترتبط طقوسها
بالعري الهندوسية، وهي الديانة السائدة في منطقة الهند، وعندما نقول منطقة الهند
نعني تاريخها الجغرافي القديم الذي يتجاوز الحدود القطرية الحديثة. وهي ديانة
تتكون من عدة طوائف، من بينها طائفة
"ناجا سادو" أو الرجال المقدسون العراة، وهي المجموعة الوحيدة
التي يمكن رؤيتها عارية، ويعيشون في عزلة تامة لا يخرجون منها إلى الأماكن العامة
إلا مرة واحدة كل أربعة أعوام.
من أشهر الطقوس الدينية المرتبطة بالعري عند
تلك الطائفة هي الحج إلى موقع "ماهاكومب" مدينة الله آباد بالهند، حيث
يشارك عشرات الملايين من الهندوس في هذه الشعائر التي تقام على ضفتي نهر سانجام
الذي تتجمع فيه روافد أنهار الجانج ويامونا مع ساراسواتي. ويغتسل فيه أنصار
الطائفة في نهر الجانج مع الرجال المقدسين أو الكهنة العراة ويغطون أجسادهم فقط
بالرماد، في مهرجان يطلقون عليه اسم "كومبه ميلا" ويقام كل اثنتي عشر
سنة ويستمر لـ 55 يوماً، فيما تنظم مهرجانات مشابهة أقل ضخامة كل ثلاث سنوات في
مدن هندية أخرى. ويعتقد الهندوس أن بضع نقاط من رحيق الخلود سقطت على المدن الأربع
التي تستضيف المهرجان وهي الله آباد وناسيك وأوجاين وهاريدوار.
وفي ضفة أخرى، ارتبطت فيها ممارسة الطقوس
الدينية بالعري، تقف "ديغامبارا" إحدى طوائف الديانة الجانية المنشقة عن
الهندوسية، حيث يمارس الرهبان والراهبات تلك الطقوس وهم عراة كما يبقون تماثيلهم
المقدسة عارية. والجانية أسسها "مهاويرا" أو البطل العظيم ويطلقون عليه
"جينا" – أي القاهر لشهواته ورغباته المادية. وهي ديانة مبنية على الخوف
من تكرار المولد وداعية إلى التحرر من كل قيود الحياة والعيش بعيداً عن الشعور
بالقيم كالعيب والإثم والخير والشر ويمارس معتنقوها رياضة بدنية وتأملات نفسية عميقة
لإخماد جذوة الحياة داخلهم.
ومن جملة قيم كثيرة تحكم النظام الاجتماعي
لمعتنقي الجانية، قيم العري. ويعتقدون أن قمة قتل العواطف هي الوصول إلى مرحلة
العري الذي يعتبر أبرز مظاهر الجانية حيث يمشي الشخص في الشوارع بدون كساء يستر
جسده من غير شعور بالحرج أو الحياء أو الخجل.
ويعيش الرهبان عراة، وذلك نابع من فكرة نسيان
العار أو الحياء مما يمكنه من اجتياز الحياة إلى مرحلة النجاة والخلود.
ويعتبرون أن الإحساس بالحياء شعور يتضمن تصور
الإثم والخطيئة، كذلك مقاربات التأمل في الحسن والقبح تعني أن الشخص لا يزال
متعلقاً بالدنيا وذلك يعيق تقدمه في طريق الفوز والنجاة. ويتصورون أن من يريد
الحياة البريئة البعيدة عن الشعور بالآلام فما عليه إلا أن يعيش عارياً متخذاً من
السماء والهواء كساء له.
مفهوم وعلاقة التعري بالدين يعيدنا إلى نقطتنا
الأولى ذات الصلة بالدنيوي والمقدس، تلك التي انطلقت منها لاستجلاء كل التصورات
المرتبطة به. فما بين المقدس المرتبط بممارسة الطقوس، حيث يعيش الرهبان والراهبات
حياة العزلة الكاملة ثم الخروج كل بضع سنوات وهم عراة لا يحملون في دواخلهم نزعات
مثل العار والحياء متحررين من كل أحاسيس الحرج منغمسين في حياة مجردة من العواطف،
وبين مفهوم العورة حيث يواري الإنسان سوأته بيديه ويسارع إلى ستر نفسه بأي من
أشكال الثياب خجلا وحياء، تتسلل نزعات الشهوة والجنس. ومثلما بدأ الأمر بالغواية
سينتهي الأمر إلى الغواية.
مراجع الفصل الثاني:
1. القرآن الكريم
2. الكتاب المقدس
3. تفسير القرآن الكريم للإمام الطبري
4. رياض الصالحين من كلام سيد المرسلين - الإمام يحيى بن شرف النووي
الدمشقي
5. لسان العرب
6. الأديان في علم الاجتماع، جان –بولي ويليم، ترجمة بسمة علي بدران
7. رجاء نعمة - جسد المرأة الغواية ومحنة الإنسان
8. سبت الساحرات... أساطير وخرافات أدت إلى موت مئة ألف إنسان – أياد العطار – مقال
9. الأسطورة والتراث – سيد القمني
10. كتاب عظات عن القديس مرقس" - القس مرقس ميلاد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق