الفصل الأول -1- قصة الخلق
علاقة الإنسان بالأديان أزلية؛ بدأت منذ بداية امتلاك الإنسان رؤية للعالم الذي يعيش فيه، وتطور علاقته بما حوله ومن حوله. ففي سياق التطور الإنساني ازدادت حاجة الإنسان لمن يجيبه على كثير من الأسئلة، ومن يفسر له العديد من الظواهر التي وقف عاجزاً أمامها دون أن يتمكن من فك طلاسمها، فكان لابد له أن يحيلها إلى قوة أعظم شأناً لا يدركها بحواسه ولا يطالها عقله. وربما كان سؤال الميلاد وأسراره عابراً، وهو يجابه أهوال الطبيعة وأسرارها وظواهرها.
في القرآن يعلم آدم (أبو البشر) من خلقه وكيف خلقه ولماذا خلقه، يعلم الأسماء كلها ويسير بمشيئة الله في الطريق إلى الأرض " وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِين". منذ تلك اللحظة (هبوطه إلى الأرض) تنقطع سيرة آدم لتبدأ مسيرة الإنسان وعلاقته بالكون، بالسماء والأرض وما بينهما. في العهد القديم من الكتاب المقدس، في سفر التكوين الاصحاح الرابع، ترد قصة آدم وحواء بعد هبوطهما الأرض ليلدا "وعرف آدم امرأته فحبلت منه وولدت قايين. وقالت "اقتنيت رجلاً من عند الرب". ثم عادت فولدت أخاه هابيل"، وبعدها يختفي آدم وحواء من سيرة الإنسان لتتواصل المسيرة.
انقطعت سيرة الإنسان في القرآن الكريم بعد قصة هابيل وقابيل، وقتل قابيل لأخيه هابيل وندمه بعد ذلك وانتظاره حتى اكتشف من الغراب كيف يواري جثمان أخيه، وتلك القصة سنعود إليها في موضعها. لم تظهر سيرة الإنسان في القرآن إلا بعد سنوات طويلة بإيراد قصة سيدنا نوح عليه السلام والطوفان، ولم يطلعنا القرآن الكريم على مجريات تلك السيرة في الفترة من اختفاء آدم وإبنيه إلى ظهور نوح. العهد القديم كان أكثر تفصيلاً، على الأقل بحساب السنين، فقد جاءت شجرة النسب في سفر التكوين الإصحاح الخامس لتبدأ من آدم إلى أن ينتهي الإصحاح بنوح وولادته لسام وحام ويافث.
إذاً لا مناص من التطرق إلى قصة خلق الإنسان قبل أن يضله الشيطان فيهبط إلى الأرض بصحبته، لتبدأ السيرة والمسيرة التي ستظل هي شاغلنا الأساسي في هذه القراءة. وتختلف قصة خلق سيدنا آدم عليه السلام وحواء في تفاصيلها الواردة في الكتب السماوية وحتى في كثير من الديانات الوضعية، لكنها تتفق حول أن الله هو الذي خلق آدم وحواء كما جاء في الأديان السماوية وأن الآلهة هي التي خلقت آدم وحواء كما جاء في أساطير الديانات الوضعية.
في الديانة الهندوسية تبدأ قصة الخلق عندما يقول (الإله) (براهما) عملاق السماء "أنا أقوى من السماء وأعظم من الأرض وأرفع من كل هذه الأجرام والكواكب حولي. أحتوي كل شيء وأكمن في كل شيء، لا تدركني الحواس، لأني أنا حقيقة الحقيقة. أنا براهما". لكن إحساس (براهما) بالوحدة دفعه إلى صنع عملاق وعملاقة متعانقين وتناسل منهما البشر، ثم تتطور الأسطورة الهندوسية بتحول المرأة إلى بقرة بعد أن قالت وهي تنظر إلى رجلها " كيف استطاع ذلك العملاق أن يخرج مني كل هذه الكائنات. إنه لشيء رهيب، خارق، شيء يجعلني أبتعد عنه وأختفي عن ناظريه". ولكن الرجل يتحول إلى ثور وتتناسل منهما الماشية، وهكذا كلما تهرب المرأة وتتحول إلى حيوان آخر يتبعها الرجل إلى أن وصلوا مرحلة تناسل النمل.
أما الأساطير الصينية فقد قال علي الشوك في كتابه - جولة في أقاليم اللغة والأسطورة: "وفي الأسطورة الصينية إن الأب السماوي جبل البشر من طين، ثم تركهم ليجفوا في حرارة الشمس، ولكن حالة الطقس ساءت وهطلت مزنة، فخف الأب السماوي ليجمع تماثيله الصغيرة ويضعها في حرز، بيد أن البعض أصابه التلف، فكان هذا سبب وجود المرضي والعجزة والمعوقين علي وجه الارض." (عبد المنعم عجب الفيا – قصة الخلق في معتقدات الشعوب القديمة – موقع سودانيز أون لاين).
لكن أساطير الشرق الأدنى أكثر ثراء فالميثولوجيا السومرية هي أول من عالج قصة خلق الإنسان كتابة في النص الذي يعود إلى النصف الثاني من الألف الثالث قبل الميلاد. "فقبل أن يظهر الإنسان على مسرح الأرض ويقدم لآلهته القرابين التي تقيم أَودَهُم، كان الآلهة يعملون ويكدون في الأرض من أجل تحصيل معاشهم. ثم جاء يوم تعبوا فيه من العمل فمضوا إلى إله الحكمة (إنكي) ليجد لهم حلاً، ولكن إنكي لم يعط أذناً صاغية لشكواهم، فمضوا إلى أمه (نمو) لتكون واسطتهم إليه. فخاطبته قائلة: "أي بني، انهض من مضجعك واصنع أمراً حكيماً. اجعل للآلهة خدماً يقدمون لهم معاشهم". نزل إنكي عند مشيئة أمه وأعطى تعليماته بخصوص عملية صنع الإنسان التي شارك بها كل من الإلهة نمو والإلهة ننماخ (الأم الأرض) وآلهة الصناعة وربات الولادة، وجرى صنع الإنسان من الطين على صورة الآلهة. وعند هذه النقطة ينكسر الرقيم الفخاري وتضيع بقية القصة". (دراسات في علم الأديان المقارن: قصة خلق الإنسان بين التوراة و القرآن - فراس السواح).
الأسطورة السومرية مثل غيرها من أساطير الديانات الوضعية في الشرق الأقصى تقوم على إله أكبر له القدرة على الخلق أو الصنع، يليه مجموعة من الآلهة كل منهم أو منهن مختص بشأن، ولا يختلف المشهد الديني كثيراً عن المثيولوجيا اليونانية في أوروبا. وقصة خلق الإنسان في الأسطورة السومرية مرتبط بخدمة الآلهة التي تعبت من خدمة ذواتهم، وتتفق في خلق الإنسان من طين بشكله الأول عارياً وتركته الآلهة يعيش وسط الحيوانات في الجنة الواقعة في منطقة حوض الرافدين، وتمضي بعض الأساطير المتناسلة إلى أن الانسان المخلوق من صلصال كان يتجول وحيداً مع الحيوانات في حديقة عدن عندما انتزعته الالهة من حديقته الى حديقتها ليقوم بخدمة الحديقة الإلهية والإشراف على المحاصيل وتقديمها في معابد الالهة.
في الميثولوجيا البابلية حدثت ثورة على إثرها خلق الإنسان، وذلك عندما أعلن الآلهة الثورة على وضعهم حيث كانوا مكلفين من قبل الإله أنابيل بالعمل الشاق وحرث الأرض من أجل دوام الجنة التي يعيشون فيها. كانت نتيجة ثورة الآلهة التي حرقوا فيها أدوات عملهم ومطالبتهم للإله أنابيل بإنصافهم.
التقطت الميثولوجيا البابلية اللاحقة العناصر الرئيسة لهذه القصة، وصاغت منها تصورات مشابهة فيما يتعلق بخلق الإنسان. ففي ملحمة أتراحاسيس نجد الآلهة المكلفين بالعمل والكد في الأرض يعلنون الثورة على وضعهم ويحرقون أدوات عملهم ثم يمضون إلى الإله إنليل طالبين إنصافهم، فيوكل إنليل إلى الإلهة مامي (ننماخ أو ننتو) مهمة خلق الإنسان التي تنفذها بالتعاون مع الإله إنكي، حيث يتم قتل أحد الآلهة ويعجن دمه ولحمه بالطين الذي يُصنع منه جسد الإنسان. وبذلك يتحد الإله والإنسان في عجينة واحدة.
تلك كانت بعض ملامح من رؤية الأديان الوضعية ونظرتها للكون وقصة الخلق، وهي رؤية نابعة من الإيمان بقوة أعلى من قدرات البشر تتحكم في مسار الخلق وتسيطر على مفاتيح الحياة. وقد تبدو تلك الرؤية غير موحِّدة في مظهرها بقراءتنا لها وفقاً لمعطيات الأديان السماوية والكتب المنزلة من الله سبحانه وتعالى على رسله في انساقها التوحيدية، لكنها في جوهرها تنزع نحو التوحيد في الإيمان بقدرات إله أكبر يتحكم ليس في البشر فحسب بل في آلهة يؤمنون بقدراتها ولكنها ذات مرتبة أقل من الإله الأعلى.
في الكتب السماوية، وأكثر تحديداً في التوراة والقرآن، هناك اتفاق عام وتشابه في الخطوط العريضة حول قصة الخلق، مع الوضع في الاعتبار مسألة التحريف التي لازمت مسيرة التوراة في مجملها، وإن اختلفتا في الدلالات والصياغة. "وما سفر التكوين، وهو السفر الأول في التوراة، إلا مجموعة من الأساطير التي تعدى قدمها قدم اليهودية ونصوصها المكتوبة بأجيال وأجيال. ومن هذه الأساطير، ولا شك، ما طرأ عليه تغير قليل أو كثير على مر الزمن عن طريق الرواية الشفوية من جيل إلى جيل، وذلك إما بإدخال تفاصيل إضافية عليها من قبل القصاصين والرواة، أو بتغيير بعض معالمها عن قصد أو من غير قصد" خفايا التوراة وأسرار شعب إسرائيل – كمال الصليبي – دار الساقي الطبعة السادسة 2006.
ولست هنا بصدد الوقوف على الخطوط العريضة والتشابه بين قصص التوراة ورواية القرآن أو تلك الإختلافات بينهما، وإنما سأستعرض ما جاء في النصوص التوراتية والآيات القرآنية التي تناولت قصة الخلق بما يحقق القصد من تلك القراءة، مستصحباً سيرة الإنسان فيما سبق من ذكر للأديان الوضعية.
الإبحار في عالم نصوص التوراة معقد وشائك، وقد اختلف المختصون في الشأن التوراتي في إحالة بعض تلك النصوص إلى ما هو تاريخي أو إلى ما أنتجته المخيلة الشعبية لتحيله إلى موقع الأسطورة. الاعتقاد الراسخ أن التوراة بأسفارها الخمسة، وبالأخص الثلاثة الأول منها "التكوين"، "الخروج" و"العدد" إنما هي أسفار مركبة من عناصر مختلفة، منها ما هو قصصي، ومنها ما هو غير قصصي. ويذهب كمال الصليبي في المرجع السابق إلى أنه "قد جمعت تلك العناصر في وقت ما من مصادر مختلفة ومختلفة عن بعضها البعض، سواء كانت تلك العناصر تقاليد شفوية أو نصوص مدونة".
ترد قصة خلق سيدنا آدم في متن أول سفر من التوراة وهو "التكوين"، وتأتي قصة الخلق في الإصحاح الأول والإصحاح الثاني بروايتين مختلفتين في تفاصيلهما.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق