كان يوماً استثنائياً للبلدة، إذ لم يحدث أن تعالى صوت المولد الكهربائي قبل سقوط الشمس في برزخها وتلاشي تلك الحُمرة التي يتشربها الأفق حين يعتصر الزمن بقايا أشعتها. حينها فقط كانت الماظ تأمر بتشغيل المولد الكهربائي، ليضج المكان بالحياة من بين ثنايا ضوء بعض اللمبات خالقاً هالة فريدة وسط الظلام في تلك البقعة من الأرض.
أثناء ذلك تدير مفتاح التلفزيون لتتنقل بين الفضائيات بحثاً عن مسلسل تلفزيوني أو فيلم يحرك ساكن الحياة، وتبدأ حركة الجنود القادمين من مراكز ومعسكرات قريبة إضافة لعابري الطريق الذين يختارون هذا التوقيت للوصول إلى البلدة، مثلما يفعل آدم ورفاقه عادة أثناء حركتهم، ليقضوا بعض أو كل ليلتهم فيها هاربين من رتابة إيقاع حياة الخنادق والمشاهد التي تتكرر بتفاصيلها كل يوم.
الساعة تجاوزت الرابعة بقليل بعد الظهر، عندما قررت ألماظ كيداني تشغيل المولد الكهربائي الآن، بعد أن فرغوا من تناول وجبة الغداء الدسمة، وبدأوا في ارتشاف القهوة. هذا احتفاء غير اعتيادي، لفت انتباه المتواجدين في البلدة في تلك الأثناء وربما ترامى صوته الذي شق السكون إلى أبعد مدى، ليرتد صداه من تلك الجبال المترامية على مسافات متفاوتة التي تخفي بين حجارتها عدداً من نقاط متقدمة ومعسكرات لجنودهم المرابضين في الخطوط الخلفية للحدود.
أدارت جهاز التحكم وبدأت شاشة التلفاز في اكتساب لونها الفضي وتوقف المؤشر في أول قناة فضائية إخبارية، قبل أن تختار لها مقعداً بجوار آدم مبتسمة، وزادها ارتشاف أول فنجان من القهوة حيوية. ليس من أحد سواهم هم الخمسة بزيهم العسكري وهي واثنتان من فتياتها، إحداهما اختارت أن تعد القهوة منتخبة ركنا قصياً في الصالة، بعد أن فرشت ما حولها ببعض أوراق الشجر الأخضر.
قبل أن تدير عليهم فنجان القهوة الثاني، كان مجذوب قد ركز بصره على جهاز التلفاز.. إنه أحد أبراج مركز التجارة العالمي بنيويورك.. نعم طائرة تصطدم بالطوابق العليا للمبنى، وارتبكت المذيعة الأنيقة وهي تحاول جاهدة فهم ما يحدث، بعد أن قطعت برنامجها الاعتيادي لمتابعة ما يجري والذي تنقله كاميرات وكالات الأنباء من زوايا مختلفة.
تناول جهاز التحكم من الماظ، متنقلاً بين القنوات الفضائية الإخبارية الأكثر شهرة، ويبدو أن الارتباك الذي أصاب المذيعة هو حالة عامة. لا أحد يعلم ما جرى وكل كاميرات العالم تركز على البرج الذي تخرج ألسنة النيران من نوافذه. لا أحد يمتلك إجابة واضحة، مرت نحو ربع الساعة وكاد آدم أن يدير ظهره للشاشة الفضية ويتابع ما يجري من حديث بين رفاقه، إلا أن صوت مذيع آخر متهدج وأقرب إلى الصياح يعلن عن طائرة أخرى تقترب لتضرب البرج الآخر من تلك الأبراج التي تكاد تلامس السماء، "إنها طائرة أخرى .. طائرة أخرى تقترب من البرج .. طائرة أخرى".
في تلك اللحظة صمت الجميع، وتحلقت الرؤوس حول الشاشة لمتابعة الحدث، لا تسمع سوى صوت الأنفاس المتصاعدة من فرط الدهشة. رغم آلاف الأميال التي تفصل بيننا ونيويورك إلا أن شيئا ما شد الجميع إلى متابعة الحدث إلى لحظة انهيار البرجين من عليائهما. تملك آدم يقين قوي بأن العالم كله متحلق حول شاشات الفضائيات في هذه اللحظة رغم فروق الوقت، ليس الأمر صدفة.. وصولهم في هذا الوقت إلى بلدة أم الخير.. أن تدير الماظ كيداني مؤشر التلفاز إلى محطة إخبارية على غير العادة، وهي التي لا تسمح سوى بقنوات الغناء أو الأفلام في حانتها.
شيء ما أشبه بالسحر وطقوسه غطى على الأفق في تلك اللحظة، وبدا الكون أكثر غموضاً من ذي قبل، فيما بدأت الحركة تتزايد ولكن ببطء باتجاه الحانة، مع تصاعد صوت المولد الكهربائي كلما تراجعت الشمس قليلاً في اتجاه الغرب. لابد للعالم أن يشهد ولو جزءا من تفاصيل ما يجري، هو ما قرره منفذو هذا الهجوم، لا أحد يجب أن يغيب عن تلك اللحظة، جاءت الضربات على فترات وليست دفعة واحدة. من فاتته لحظة مشاهدة الحدث حياً على الهواء مباشرة، فإن أجهزة الراديو المنتشرة في كل الأنحاء كفيلة بنقله إلى مسامع المتابعين، فكل الفضاء صار ينطق بلغة واحدة الآن يفهمها الجميع. كل القنوات الفضائية والإذاعية قطعت بث برامجها تتابع خط سير بقية الطائرات المحلقة في السماء على بعد آلاف الكيلومترات، وكل يظنها ربما ستمر فوق رأسه. وقبل انهيار البرجين أمام أنظار الجميع كان هناك من يقفزون من ذلك العلو الشاهق، لا يستطيع أحد الجزم بما كانوا يفكرون وهم يلقون بأجسادهم هكذا، ولولا صوت مذيع النشرة والتقرير الإخباري المصاحب لحسبت أنه واحدة من أفلام الأكشن التي لا تخلو من مبالغة وبراعة في تصوير مشاهد الخوف والرعب. إنه ارتجاج في مركز العالم وعصب الكون اهتزت له الأرض وارتجت أركان السماء. كأنما حدث اختلال ما للتوازن جعل الجميع، من يدري ومن لا يدري، في حالة ذهول وتوهان.
قطعت الماظ حبل الصمت المخيم وهي تنظر ساخرة نحو آدم، وتقول بصوت مرتفع:
- هذه هي الحرب.. في ساعة واحدة وكل هذا الدمار.. خمس سنوات وأنت تحمل بندقيتك يا آدم ولا أحد يسمع صوت طلقاتها أبعد من تلك الحدود".
- وماذا تعرفين عن الحرب؟ أنت لا تجيدين سوى صنع القهوة وحروب السرير".
قالها آدم ضاجاً بالضحك بطريقته التي تصيب عدواها من حوله، وتبدد كل سوء نية يمكن أن يتبادر إلى الذهن، ثم صار يتحدث إليها بلغتها الأمهرية كواحد من أبنائها.
ومثلما ضحكت من تعليق آدم اللاذع، واصلت ضحكها وهي ترد عليه بلغة أهلها التي أصبح يجيدها بلكنتها المثيرة، دون أن يدري رفاقه ما يدور من حوار بينهما. ثم رمت بشعرها إلى الوراء وهي تعدل من جلستها وكأنها ستروي قصة طويلة تتوسد صدرها منذ سنوات وتنغص عليها حياتها منتظرة تلك اللحظة التي تنفثها دفعة واحدة.
فتحت أحداث البرجين، التي تمر مشاهدها أمام أعينهم، وسيرة الحرب نفقاً يزداد اتساعاً في وجدانها كلما رجعت بها ذاكرتها إلى الخلف، مثلما فعلت فيهم جميعاً.
كانت وقتها في الثالثة عشرة من عمرها عندما بلغت أصوات القذائف ودوي الانفجارات تخوم قريتها القريبة من مدينة قندر. عندها رأت بأم عينيها الطائرات الحربية تحلق في الأجواء، في نواحي القرية، وترمي قذائفها في اتجاه الثوار الذين يزحفون ببطء من الأرياف. تراها قريبة وإن كانت في الواقع تضرب أهدافاً بعيدة، لكنها مرعبة حين تمر في سماء القرية بصوتها الذي يسابق سرعة الصوت، ووقع انفجارات قذائفها التي ترتج لها الأركان وتحمل صداها المرتفعات الجبلية لتضفي بعداً آخر للرعب.
لم تستوعب في بداية الأمر ما يحدث حولها، بالرغم من أن أخبار الثورة والثوار كانت تعم الأرجاء كافة قبل أن تصبح واقعاً قريباً منها، تشتم رائحة دخانها المتصاعد حقيقة وهو يغطي القمم الجبلية المحيطة بالقرية. عندما بدأ زحف الثوار قبل سنوات من أقصى شمال البلاد، كانت لا تزال فتاة صغيرة تحاول أن تستكمل دراستها المتعثرة في مدرسة القرية الوحيدة. لم يكن يدر بخلدها، ولا حتى راود من هم أكبر منها، أن تصل طلائع ذلك الزحف إلى هنا، حيث تعيش مع والديها، والدها كان معلماً في مدرسة القرية، وبقية إخوتها. وها هو صدى الأحداث يصل الآن أذنيها ويخترق قلبها من كل الجهات، بعد أن انتقلت إلى العيش في مدينة قندر بعد أن تركت مقاعد الدراسة.
لم يكن في مقدور والدها أن يحتمل أكثر من هذا، فقد ضاقت به الحال وهو بالكاد يوفر ما يسد به رمق أفراد أسرته إلى جانب والدته، مع اشتداد قسوة الطبيعة في تلك السنوات وانتشار موجات الجفاف زادت الحرب، التي اشتد أوارها، إلى أن جاء يوم داهمت فيه قوات من الدرك القرية لتعتقل الأب ضمن رجال وشباب آخرين.. قالوا إنهم يدعمون الثوار.
لا زالت تلك اللحظة الفارقة في حياة الماظ ماثلة أمامها بكل تفاصيلها، لا تبارحها بعد أن صارت تفاعلاتها تشكل وجدانها وحتى جسدها تفاعل معها في كيميائه الآخذة في النشاط. فقد جاءت تلك اللحظة بعد أن تجاوزت عتبات الطفولة إلى مراحل أكثر نضجاً، فأصبحت تعي ما يدور حولها بشكل أكبر رغم تركها للدراسة في تلك المرحلة المبكرة. أدركت أنها أنثى بكامل المواصفات، ولها جسد لافت تغطيه مظاهر الفقر وأستار القرية التي يكفيها ما فيها، إلى جانب أنها تجادل في كل الشؤون حولها، رغم انعقاد لسانها في ذلك اليوم، وإمساك أطراف الدهشة بصدرها وعينيها، وهي ترى والدها والآخرين يجلسون على الأرض وعلى رؤوسهم بنادق مشهرة، بل ويضربهم بعض رجال الدرك. كل ذلك وبقية أهل القرية يتابعون المشهد بين مصدق ومكذب، هي المرة الأولى التي يتابعون فيها حدثاً مثل الذي يجري أمامهم الآن بعد أن كانوا يتناقلون أخبارا من مناطق أخرى، تحدث من حين لآخر، يتداولها العابرون أو العائدون إلى ديارهم من رحلات في المدن والقرى الأخرى القريبة.
"لحظتها فقط شعرت بأن حدثاً جللاً سيغير كل حياتي قد بدأ، ومع كل دفقة دم بللت سروالي الداخلي كان مزيج من الغضب والرعب يتشكل في صدري.. لحظة صادفت نزول بداية دورتي الشهرية التي نزل ماؤها الملوث بالدم لأول مرة."
"وكأني كنت في انتظار هذا المشهد، أن ينزل دمي مع رؤية الدم يسيل من وجه أبي". هكذا تقول الماظ كيداني عندما تكون في أكثر أوقات صفائها تجلياً.
تقمصتها في تلك اللحظة روح أندروميدا.. كثيرا ما حكى لها أبوها تلك الحكاية القديمة، فأطلقت على أمها اسم كاسيوبيا وصار أبوها كيفاوس. لم تر أمامها سوى ذلك الوحش الذي يريد تدمير حياتها ويعاقب أهلها، وراودتها فكرة أن تنظر إلى السماء لتطلب أن يأخذها التنين بدلاً عن هذا العقاب الإلهي. فبدأت بالصراخ وكادت أن تندفع نحو أبيها المسجى على الأرض تتملكها فكرة الفداء والتضحية ، لكن يد أمها القوية أمسكتها بقوة. ومع اختفاء ركب رجال الدرك وهم يقودون رجال القرية، انهارت الماظ وجلست على الأرض لتتحسس فجأة السائل بين فخذيها ليزداد اضطرابها.
"عندها أخبرتني أمي، ووجهها تكسوه هالة غريبة هي مزيج من إحساس بالارتياح وتجاعيد رسمتها حالة غضب وغبن وذلك الخوف الكبير المطل من عينيها. أخبرتني وهي تربت على كتفي بحنان بأنني صرت امرأة. مرت ساعات النهار التي تكسو ملامحها الدماء ثقيلة في ذلك اليوم. صرت أتحسس جسدي خفية وصدري يموج بأحاسيس شتى، إلى أن أطلت من بين ثنايا ذاكرتي جارتنا زناب لتزاحم كل المشهد. انتزعت صورتها من بين اضطراب تلك الأحاسيس ابتسامة في داخلي كادت أن تطل برأسها على شفتي، وسرعان ما قمعتها وأنا أتلفت حولي.. لا مجال للابتسامة الآن وأنا أجلس بجوار أمى أراها تمسك بأطراف دموعها لتظل حبيسة مقلتيها، فتعود صورة أبي سيدة للموقف، فصرت أبكي بصوت مسموع إلى أن انتهرتني بعنف.
مع حلول المساء بدأ دمي ينزل مرة أخرى، بعد أن توقف لساعات، هذه المرة فقط انتبهت إلى أنني الآن امرأة.. إنني كبرت. أطلت مرة أخرى صورة زناب وسط كثافة الظلمة .. جسدها الممتلئ وصدرها البارز شغلا المكان حولي وأغلقا منافذ تفكيري الأخرى .. سوى أنني صرت الآن امرأة".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق