ايها الراحل في الليل وحيدا ضائعا منفردا
انتظرني فأنا أرحل في الليل وحيداً موغلاً منفردا
عبدالرحيم أبو ذكرى
هكذا تقمصتني روح تلك القصيدة -حين تلقيت نبأ رحيل حسن بندي- دون سابق إنذار، مثلما هي روحي ملؤها الدهشة وشيء من نزق التمرد حينما وضعت أول قدمي (لا أذكر إن كانت يمناها أو يسراها) على صالة مطار (شرميتفا 2) بمدينة موسكو.
لم يكن وقتها بواكير خريف، ولا حان وقت فيه تغسلني الثلوج، بل هو وقت بلا ملامح فيه بعض من بقايا رائحة المطر وشيء من قسوة لفحات الصقيع، ونحن القادمون من بلد تموت من الحر طيورها وغادرناها في قمة موسم (الدرت)، لكن شتان ما بين موسم (الدرت) السوداني و(الدرت) الموسكوفي.
صادف أوائل أيام وصولنا تلك إلى موسكو إحتفال الاتحاد العام للطلاب السودانيين بالاتحاد السوفيتي بذكرى ثورة أكتوبر (السودانية) المجيدة، متخلفين عن بدء الدراسة لأكثر من شهر. في قاعة فخيمة واسعة تلمست طريقي وسط الحشد الكبير الذي شغل كل الأماكن، خليط بشري من كل بقاع الأرض، عرب بمختلف لهجاتهم، أفارقة من أدغالها وسواحلها، آسيويون من الهند وباكستان وأفغانستان وسريلانكا وبنغلاديش لا تستطيع ان تميزهم، وطلاب قادمون من أمريكا اللاتينية هذا غير أصحاب الأرض الروس. حملت دهشتي ولساني (الأغلف) أمامي متجولاً بين تلك الحشود، ولا أدري كيف أخترق الحواجز بلساني المعقود، إلى أن بدأ الحفل الخطابي الذي يسبق الحفل الغنائي كما هي العادة. إعتلى المنصة شاب طويل القامة نحيل يرتدي (جلابية) بيضاء ناصعة ويضع على رأسه عمامة بطريقة أنيقة جداً، قدمه منسق البرنامج على أنه سكرتير الجبهة الديمقراطية حسن بندي ليلقي كلمة (لا أدري إن كانت رصينة أم لا لأنها كانت باللغة الروسية وأنا لم أفك منها حرفاً بعد)، لكنها بدت لي مدهشة وأنا أستمع إليها، خاصة إنه لم يطرف له جفن أو يتردد لسانه أثناء إلقاء خطابه مما رفع معدلات الثقة داخلي. كان ذاك أول عهدي بحسن بندي طالب الدراسات العليا في اكاديمية العلوم السوفيتية.
إنقضت شهور الفصل الأول من العام الدراسي ولوتسيا بيتروفنا ميخايلوفا تفعل فينا أفاعيلها لتعلمنا اللغة على أصولها، إنقضت تلك الشهور سريعاً لأكتشف أن الثلوج كانت تغسلني دون أن أدري، إكتشفت ذلك وأنا مهرول ناحية محطة السكة الحديد للحاق بالقطار المغادر في تمام التاسعة مساءاً إلى مدينة لينينغراد .. هناك حيث ستبدأ فعاليات المؤتمر العام السنوي للطلاب السودانيين. كانت الحرارة قد تجاوزت العشرة درجات تحت الصفر، لكن فرحتنا نحن الجدد بددت قسوة الصقيع وأحالتها إلى نزهة مشوقة بقطار من الدرجة الأولى، لأستيقظ صبيحة اليوم التالي على مدينة عظيمة جمدتها الثلوج في إنتظار أن تغتسل حينما يحل الربيع.
رئيس اتحاد الطلبة
هناك إلتقيت، والآخرين المبهورين به أيضاً، بحسن بندي.. لا يخطئ أحد له بعض فراسة بأن وجهه الطويل وقسماته وتقاطيعه الحادة أو يشكك في أنها تحكي تاريخ طويل كان لأهله النوبيين باع طويل فيه، وما يؤكد ذلك هو لكنته المميزة التي ظلت تلازم نطقه للحروف العربية.. تلك اللكنة التي يشتهر بها أهلنا النوبيون. عدة إنطباعات ظلت عالقة في ذهني غير المؤتمر العام الذي انتهت فعالياته بعد ثلاثة أيام، أولها حسن بندي بشخصيته التي هي مزيج من الصرامة والانضباط والنشاط مقرونة بالتسامح ومساعدة الآخرين، وكنا الأسعد بانتخابه رئيساً للاتحاد العام في تلك الدورة، بل المضحك أنني رفعت كلتا يدي مؤيداً لانتخابه وحين التفت يميني ويساري وجدت عصام محمد صالح وأشرف البنا قد فعلا ذات الشيء وهناك كان فرح صالح يجلس بجوار آمال عثمان، وثانيها زيارة متحف الارميتاج (هناك من يقول إنك إذا وقفت أمام كل لوحة من لوحاته لمدة خمس دقائق فقط لاستغرقك عام كامل لتغطي كل تلك اللوحات)، أما ثالثها هو أول سوق لعكاظ يقيمه بشرى الفاضل على هامش فعاليات المؤتمر.
كانت تلك دورة مميزة من دورات الاتحاد العام، لم يفتر رئيسها أو يمل من متابعته للطلاب السودانيين ومشاكلهم الأكاديمية والاجتماعية، وفي ذات القوت يظللنا نحن حديثي العهد في تلك البلاد برعايته ومشورته ويشارك في كل المناشط التي نقيمها رغم مشاغله المتعددة وعلى رأسها إعداد مسودة رسالته للدكتوراه التي إقترب موعد مناقشتها. وفي ظروف ما زالت غامضة بالنسبة لي يقرر حسن بندي العودة إلى السودان وتنقطع أخباره.
من مفارقات علاقته بالاتحاد السوفيتي أنه كان ضمن المبعوثين لدراسة الطيران في الفترة الأولى لإنقلاب مايو، وهي دراسة لها علاقة بالمؤسسة العسكرية، قطعها تطور الأحداث في السودان بعد إنقلاب يوليو وعودة النظام المايوي مرة أخرى. إختار بعدها حسن بندي دراسة التاريخ والآثار.. من التحليق في حفيف الاجنحه وسماوات الطيور النازحه إنتظاراً للراحل عبد الرحيم أبو ذكرى إلى الحفر في الأنقاض تحت الأرض بحثاً عن تاريخ قصي عصي موغل في القدم. عمل بجد وجهد وإخلاص في مصلحة الآثار، شهد له الجميع بذلك وزامل في تلك الفترة صنوه وخليله د. أسامة عبد الرحمن النور. وكانت آخر أعماله في تلك الفترة هي المسوحات الأثرية في منطقة الحمداب التي مولتها ودعمتها هيئة اليونسكو، وهو بحث إضافي عن تاريخ سيضع السودان في مصاف أصحاب الحضارات القديمة بعد أن استعصى عليه أن يكون من الدول المتقدمة، يفعل ذلك عسى أن يمنح اكتشاف ذلك التاريخ ألهاماً وقوة دفع لأصحاب الشأن في عصرنا أن حي على العمل من أجل بناء الوطن. لكن هيهات، جاء إنقلاب الحركة الإسلامية في يونيو 1989 ليقطع عليه أحلامه مثلما قطع على الكثيرين أحلامهم، وتتوقف البعثة والمنحة المقدمة من اليونسكو ويتوقف المشروع في ظل سلطة وزير ثقافة يرى في التحف الفنية والتماثيل القائمة مجرد أصنام ترمز إلى الكفر، فما بالك بمزيد من الحفريات الأثرية التي ربما تزيد من عدد التماثيل. لم تكتف السلطة بذلك، بل كان من أوائل ضحايا برنامجها التعسفي وناله الفصل والتشريد من الخدمة مثلما نال الآلاف من أبناء الوطن. وغادر السودان.. كيف؟
السفر سراً إلى مصر
عندما أمر وزير ثقافة النظام الجديد بتحطيم وإزالة (الأصنام)، مسترشداً بالنهج الطالباني، كان لابد للباحثين عن تلك (الأصنام) وعلى رأسهم علماء الآثار أن يتحسسوا رؤوسهم و(يبلوها)، فهؤلاء لا يفرقون بين الأحياء والأموات. فهم إن لم يستخدموا معاول الهدم والتحطيم ضدهم، فبالتأكيد سيعيدونهم إلى حيث يبحثون ودفنهم في زنازين وبيوت أشباح ليصيروا مصدراً من مصادر دراسة التاريخ في زمن قادم. كان على رأس هؤلاء العالم الدكتور أسامة عبدالرحمن النور وحسن بندي. وكما دبر الإنقلابيون أمرهم بليل، إنطلق موكب الهجرة براً ذات ليلة لا يغشاها قمر ولا يترك أهل الآثار أثر، مرة تحملهم الأقدام ومرات على ظهر دابة تقطع بهم مسافات وتقربهم إلى مناطق أكثر أمناً يوم أن فقدوا الأمان في وطنهم.
وصل حسن بندي إلى القاهرة، حيث انتظمت بدايات العمل المعارض الذي لم يخرج بعد من إطار الديباجات والمواثيق وإجتماعات وأحاديث وكثير حبر يدلق كل يوم على الصفحات البيضاء. وقتها لم ينشغل حسن مع آخرين، ولم تجرفه إنشغالات السياسيين ومن على شاكلتهم بالغرق في شبر الخلافات والإختلافات، ولا انغمس في ليالي القاهرة التي يجيد السودانيون ويعرفون كيف يقضونها. ليجلس وهو ثاني إثنين في محراب الوطن يفكران بمنهج مغاير، منهج قائم على إرث تجربتهما العملية إضافة لتجربتهما العملية والتخصص في تاريخ وآثار السودان لتجيئ قراءة الواقع السياسي بمنظور أكثر عمقاً وأقدر على ملامسة الواقع وأكثر تحديداً ودقة.
كان التجمع الوطني قد اجتمعت أركانه من الأحزاب السياسية والنقابات والقيادة الشرعية في إطار العمل التقليدي المعارض، وهو وقتها عمل لا يؤثر كثيراً على النظام طالما ظل بعيداً. إلى أن حدث إنقلاب في مفهوم العمل المسلح ودور القايدة الشرعية.ذ لك الإنقلاب جاء نتيجة الجلوس في محراب الوطن، وحسن بندي طرف أصيل في هذا التطور. كثيرون يملأون الدنيا صياحاً وصخباً، وقادة وزعماء سياسيون يطمسون معالم الحقيقة لصالح رصيدهم المستقبلي ويزعمون أنهم من بادر وفكر وقدر، لكن تبقى حقيقة بدء العمل المسلح للتجمع الوطني بمختلف فصائله في الجبهة الشرقية قائمة على أكتاف الدكتور أسامة وحسن بندي.
كانا قد أكملا إعداد ورقة شاملة تحمل رؤيتهما حول المرحلة القادمة وأدواتها، ولم يعرضاها على الأحزاب السياسية ولا النقابات بل ذهبا بها مباشرة لقائد القيادة الشرعية وقتها المرحوم الفريق فتحي أحمد على (حسب رواية شاهد ثقة على تلك الفترة). والسبب في ذلك موضوعي حيث تضمنت الورقة رؤية لتلاحم وانتظام المدنيين والعسكريين في جسم واحد وبدء العمل المسلح. كان تقدير الورقة إن نظام الإنقاذ قد ضرب كل معاقل الحركة الجماهيرية التي يمكن الاعتماد عليها من اتحادات ونقابات وأحزاب، وبالتالي لابد من مواجهته بوسيلة مختلفة وهي العمل المسلح الذي يجب أن يضم الطرفين. بعد أخذ ورد قوبلت الفكرة بالترحاب، ودون الدخول في تفاصيل ومآلات القيادة الشرعية، إنطلق العمل المسلح الذي تقوده فصائل التجمع في الجبهة الشرقية بعسكرييها ومدنييها، رغم أن دور القيادة الشرعية وكسبها كان ضعيفاً في ذلك.
رغم كل التصدعات ظل حسن بندي وفياً –كعادته- للقيادة الشرعية، وظل ممثلاً لها لوقت طويل بعد انتقال مكاتب التجمع إلى العاصمة الإرترية أسمرا. هناك مرة أخرى التقيته، وكان لقاءاً مؤثراً استعدنا فيه الماضي ولكني تفاديت سؤاله عن أشياء خاصة لم تكن ذات معنى وقتها.
التجمع يجمعنا
منذ نهايات العام 2001 وحتى تاريخ إعتقالي بواسطة المخابرات الإرترية في 30 أبريل 2004، لم نفارق بعضنا أثناء نهارات تلك الأيام، فهو قد كان مديراً لمكتب التجمع الوطني التنفيذي وكنت أعمل تحت رئاسته في إدارة المكتب. لم يفارقه إنضباطه وصرامته ونشاطه، فهو مستودع كل الأسرار، خاصة بعد إنتظام عمل المكتب التنفيذي للتجمع في تلك الفترة، وإن طلت وجهه إبتسامة ساخرة دائمة من جدوى ما يمارسه السياسيون من استهبال على عقول بعضهم وعلى عقول الناس. رغم ذلك تجده هميماً ومهتماً بكل صغيرة وكبيرة أثناء اجتماعات المكتب التنفيذي أو هيئة القيادة. كل مسؤولي المكتب التنفيذي يضعون أسرارهم عنده، فلا يأتي باقان أموم الأمين العام إلا يكون جالساً معه ولا برنابا بنجامين أمين العلاقات الخارجية أو عمنا إسماعيل سليمان ولا د. شريف حرير إلا ويتجدهم يهرعون إليه مستعينين به في كثير من القضايا، إلا الكلام ولقاء الحكام فقد كان لهم وحدهم.
إلتقيته قبل وفاته بعامين وفي شارع البرلمان بالخرطوم، وكان أول لقاء بعد أن ظل يبحث عني عند اختفائي ذاك، وجريان مياه كثيرة تحت الجسر. فقد انفض سامر التجمع في أسمرا، وتجمعت قوى أخرى "جبهة الشرق" ويبقى حسن بندي في أسمرا إلى أن يعود بعد اتفاقية الشرق ضمن تلك القوى. وفي شارع البرلمان علمت منه إنه مشغول هذه الأيام بالجري بين مصلحة الآثار والمعاشات لتسوية معاشه، وبقينا على اتصال متقطع بعدها.
ما الذي لا يجعل القلب يتوقف عن النبض يا حسن بندي، وكل الأشياء تنهار وكل الأحلام نستيقظ منها ونحن نتراقص على حواف الزيف والتزييف. كلهم سيهزون رؤوسهم، كل الذين عرفوك في درب النضال خاصة كبار السياسيين، سيهزون رؤسهم لحظة ويقولون: لا حول ولا قوة إلا بالله.. حسن بندي مات، ثم ينغمسون بعدها في اشتهاءاتهم وشهواتهم. ما الذي لا يجعل القلب يصمت وها هو التجمع قد تهاوت أركانه بعد أن قضيت فيه عمراً وذقت فيه كثيراً من المرارات وبعض من حلاوة الإشراقات بسبب مطاردة السياسيين للتفاهة. ما الذي يجعل القلب يتوقف وأنت ترى صاحبك باقان أموم قد اختار أن ينفصل الجنوب، وتنهار كل نظريات التنوع التي ظل يرسخها د. جون في خطاباته أمام اجتماعات هيئة القيادة، كان لابد أن تموت قبل أن تشهد تلك اللحظة الفارقة، وأن تنفقع مرارتك من هول الكارثة ومن اللامبالاة بمصير الوطن.
رحل حسن بندي، وقد انهار الاتحاد السوفيتي وتلاشت القيادة الشرعية وتصدعت أركان التجمع الوطني، وراحت جبهة الشرق في خبر كان. حق لك أن تردد قول أبو ذكرى:
ايها الراحل في الليل وحيدا ضائعا منفردا
انتظرني فانا ارحل في الليل وحيدا موغلا منفردا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق