جحيم الكتابة

أمير بابكر عبدالله

مع تعدد موضوعات الكتابة تكتسب بعض التساؤلات أبعاداً مختلفة، ومع ملاحظة طرق ومناهج الكتابة وأساليبها تحمل تلك التساؤلات بين طياتها رداً إيجابياً، أما أن يحقق الكاتب ذلك أم لا فهو متروك لتقدير القارئ. فالكتابة السيئة أو الجيدة، المفيدة أو غير المفيدة، الممتعة أو المملة، من وجهة نظري، تعتمد بدرجة كبيرة على الزاوية التي ينطلق منها القارئ في تعاطيه مع ما هو مكتوب. لكن قطعاً هناك كتابات كان لها أثرها البالغ في حياة قارئها، بل هناك كتابات غيرت التاريخ حتى بتأثيرها على تطور المجتمع وعلاقاته من خلال قيادات إجتماعية وسياسية تبنَّت رؤى وأفكار طرحتها تلك الكتابات، وبعضها كان تأثيره فورياً بينما إنتظرت أخرى فترات زمنية قد تطول أو تقصر حتى يبدأ مفعولها.

لعل "كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر" للعلامة إبن خلدون إحتاج لقرون لكيما يفعل أثره على مناهج وموضوعات علم الإجتماع في العصر الحديث، بينما لم ينتظر كتاب رأس المال للألماني كارل ماركس أكثر من بضعة عقود ليحدث ثورة حقيقية على الأرض غيرت من موازين القوى السياسية والإستراتيجية والفكرية والإجتماعية في العالم. بعض الكتابات لم يتجاوز حجمها النشرة الصغيرة فيما جاءت بعضها في مجلدات ضخمة وجميعها أحدثت أثراً كبيراً، وبعضها مقالات أو تحقيقات صحفية لا تتجاوز الصفحة أو الصفحتين أحدثت إنقلاباً سياسياً.

هناك من يصنف الكتابة إلى عدة مسميات سواء سياسية أو إجتماعية أو اقتصادية أو أدبية وغيرها، وهي كتابات مضبوطة بمنهج وأدوات بحث علمية متعارف عليها. وصارت تلك المناهج والأدوات هي ما يحكم به عليها من حيث الإلتزام بالعلمية أو جانبها التوفيق. حتى الكتابة الأدبية الإبداعية قولبت وصنفت في إطار مدارس فنية، لا يغادر فناءها إلا من إمتلك الجرأة وامتطى صهوة الخيال.

بالرغم من تلك التصنيفات المنطقية لكن تظل الكتابة عملية إبداعية تحتاج لتفرد وصبر وقدرة على الإستقراء والتحليل والربط المنطقي بين مكوناتها. وتحتاج لعنصري الزمن والممارسة لأمتلاك والتمكن من أدوات الكتابة، كما تحتاج لهما في الخبرة والتراكم المعرفي. لكن كيف يمكن تفسير الكتابة الأدبية الإبداعية إذا كتب الروائي أو القصصي نصاً وحيداً في حياته لم يزد عليه مثلما فعلت الكاتبة الأمريكية مارغريت ميتشيل مؤلفة الرواية الوحيدة "ذهب مع الريح"، التي وضعتها في مصاف الكاتبات الأمريكيات الشهيرات. وكيف تفسر أن كاتباً أصدرت له المطابع عشرات الأعمال دون أن تحدث أثراً مهماً، وآخر أنتج العديد من الكتابات كان واحداً منها مهماً ومؤثراً من حيث الجديد أو المفيد أو الممتع، وليس شرطاً أن يكون آخر ما كتبه. إذاً هل يمكن إعتماد الزمن والممارسة كشرط لكتابة مبدعة ومؤثرة؟

تظل عملية الكتابة في حد ذاتها حالة خاصة بالنسبة لي، لا علاقة للزمن والممارسة بتجويدها وتطويرها، ولكن تبرز أهمية هذين العنصرين في القدرة على إختيار موضوعات الكتابة والتراكم المعرفي. وكل عملية كتابة تحتاج لذات الصبر والتفرد والقدرة على الإستقراء والتحليل والربط بين مكوناتها، وهي تجربتي مع الكتابة الراتبة التي مارستها عملياً. كذلك هي تجربتي مع كتابة النصوص الأدبية سواء قصة قصيرة او رواية أو حتى بحث علمي يتطلب الصرامة الأكاديمية.

هناك جذوة ما في جميع حالات الكتابة عندي تظل مشتعلة، لا تفرق بين المقالة الصحفية أو الرواية أو البحث العلمي. لابد أن تظل مشتعلة لتحترق في جحيمها، وكأني أبدأ الكتابة لأول مرة في كل مرة. رغم الفرق بين كتابة المقالة والنص الأدبي إلاَّ أن المزاج العام للكتابة يتحكم فيها صعوداً وهبوطاً. 

عندما سألني أحدهم عن هذا الفرق، حرت جواباً في بداية الأمر، لكني توصلت إلى رد مقنع لي قبل محاولتي إقناعه به، وهي أنني أستطيع التحكم في فكرة كتابة المقال الصحفي وربط عناصره وتسلسله، كما أستطيع الخروج على قواعده الثابتة والعودة إليها بما يخدم الفكرة ويزيد من الإضاءات حولها دون الشعور بحرج، وبالتالي أستطيع قيادتها إلى النتائج التي أرجوها. والمقال كما يعرفونه "فهو قطعة نثرية قصيرة أو متوسطة، موحدة الفكرة، تعالج بعض القضايا الخاصة أو العامة، معالجة سريعة تستوفي انطباعا ذاتيا أو رأيا خاصا، ويبرز فيها العنصر الذاتي بروزا غالبا، يحكمها منطق البحث ومنهجه الذي يقوم على بناء الحقائق على مقدماتها، ويخلص إلى نتائجها".

أما النص الأدبي، خاصة الرواية –بحسب تجربتي- فالفكرة هي التي تتحكم وتسيطر ولست أنا، الأسلوب هو ما يفرض نفسه، والشخوص التي تظن أنك مسيطر عليها سرعان ما تهرب من سجنها لتعود وتتحكم هي في مجريات الأمور، كل واحد من تلك الشخصيات تتحرك في مدارها الخاص قبل تورطها في العلاقات الجمعية التي تربطها مع بقية الشخصيات، كما أنها أكبر من إستيعابها للذاتية أو للرأي الخاص للكاتب. وإذا كان المقال الصحفي سهل الإنقياد فالنص الأدبي متمرد بطبعه يمتلك الحق في تجاوز كل الحدود والقوالب، وقد يثير هذا ضجة ونقداً لكنه غير قابل للوقوع في فخ الإختبار الروتيني لأنه يخلق عالمه الخاص ومكانه الخاص وطقسه الخاص. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق