كانت مهمة إعادة الثقة إلى المقاتلين الفلسطينيين هي الشغل الشاغل لقيادات المقاومة في فتح، الذين بدأوا التفكير في عمل مغاير لما تقوم به الجبهة الشعبية التي نشطت في اختطاف الطائرات، وكذلك عدم الانتقام لضحايا فلسطين في الأردن، ولا حتى استهداف الشركات الأوربية التي تتعامل مع إسرائيل الذي يمكن ان يؤثر على المهاجرين الفلسطينيين في دول المنشأ لتلك الشركات. فكان القرار بتوسيع مسرح العمليات مع التحديد الصارم للأهداف التي ستختار، وأن تركيز الضربات على عملاء الموساد في أوربا هو أكثر الأعمال فعالية.
غادر محمد داؤود عودة (أبو داؤود) صيدا في لبنان، التي فتح شمالها معسكراً صغيراً للتدريب، غادر إلى ألمانيا في طريقه إلى بلغاريا وفي نيته شراء أسلحة لتنفيذ عملياتهم هناك، ومن ثم تهريبها للخلايا التي تم تكوينها في المدن الأوربية.
اللجنة الأولمبية ترفض إشتراك الرياضيين الفلسطينيين في ألعابها
كان لقرار اللجنة الدولية للألعاب الأولمبية الرافض لمشاركة فريق من الرياضيين الفلسطينيين في الألعاب الأولمبية التي ستجري في ميونخ أثره السيء على قيادات منظمة أيلول الأسود المتواجدون في اوربا، وعلى رأسهم صلاح خلف أبو أياد وقائد العمليات أبو داؤود وآخرين. ومثل الرفض الشرارة التي قلبت موازين اللعبة في أجندة المنظمة، لتفتح الطريق أمامها لأولى عملياتها الكبرى ضد إسرائيل.
وجرى الحوار التالي بين قيادات المنظمة حيث علق فخري قائلا: عظيم بما أنهم يرفضون مشاركة الفلسطينيين في الألعاب فلماذا لا نحاول الدخول بأساليبنا الخاصة إلى الحرم الأولمبي؟
فسأله أبو أياد: وماذا نفعل هناك؟
رد فخري: نحتجز الرياضيين الإسرائيليين.
قال أبو اياد : أنت مجنون!
عندها قال أبو داؤود بدوره: لا.. فكرة أبو محمد ليست عاطلة. بما أن الإسرائيليين لا يحترمون شيئا فنحن سنتصرف كذلك، علاوة على ذلك إن كل رياضييهم من العسكر. إن المسؤولين وكوادر الإسرائيليين الرياضية والمدربين، المعالجين والرياضيين يأتون عمليا من مؤسسة أورد وينغايت، وتحوي تجهيزات هائلة قرب البحر شمال تل أبيب. وبحسب ما يوحي اسمها يقوم بالمهمات الإدارية والتنظيمية فيها قدامى ضباط الاستخبارات أو ضباط فرق المغاوير الخاصة، وتدرب فيها كل أنواع الرياضات ولكن يجري فيها بشكل خاص إعداد المصارعين وأبطال الرماية.
وكان القرار إحتجاز الرياضيين الإسرائيليين المشاركين في دورة اللعاب الأولمبية في ميونخ.
غير ما ستحدثه العملية من تحول في نوعية عملياتها، رأت المنظمة الاستفادة من حضور وسائل الإعلام الدولية طوال فترة الدورة الرياضية العالمية، مما سيرتفع اسم القضية ويدفعها إلى أن تكون الخبر الأول في نشرات الأخبار العالمية، وسيتيح ذلك الإطلاع عليه داخل اكبر نطاق ممكن للتعرف على المأساة الفلسطينية.
تحرك أبو داؤود فوراً إلى مدينة ميونخ، وشرع في البحث عن خريطة مفصلة للمدينة. تحصل على كل المعلومات الممكنة التي تخص الأولمبياد، بما فيها لائحة متكاملة بالفنادق وخريطة وسائل النقل في المدينة وتوقيت الرحلات الجوية وغيرها من المعلومات المهمة التي يتطلبها إنجاز المهمة. وانطلق بعدها إلى بلغاريا حيث التقى أبو أياد وفخري في العاصمة صوفيا.
شرع الثلاثة في وضع الترتيبات اللازمة وفي مقدمتها البيان الذي سيسلمه الفدائيون للسلطات الألمانية بعد إحتجاز الرياضيين الإسرائيليين، والطلبات التي سيتقدمون بها وعلى رأسها إطلاق سراح المعتقلين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية.
الملامح الأولية للخطة
يوم 7 أغسطس وصل كل من فخري ورفيق آخر يدعى "تشي" (يوسف نزال أحد ضباط العاصفة الشبان) الى ميونخ. زار ثلاثتهم المكان في وقت كانت الأعمال ما زالت مستمرة، وذهبوا لتفحص الشباك المعدنية عن كثب، إذ كان لابد من تسلق السياج الحديدي العالي بغية الوصول إلى أي مكان داخل القرية. لم يكن من الصعب تسلق السياج .. تدخل طرف حذائك في عينيات الشباك وتستند عليها ولكن المشكلة كانت في أن الطريقة، وتحت وزن الرجال والحقائب، ستؤدي إلى اهتزاز السياج وإصدار صرير وهو ما ليس مرغوب فيه لعملية تتطلب صمتا تاما.
قال أبو داؤود ليوسف: لا أرى سوى حلاً واحداً، يجب أن تتدربوا على تسلق رجل بطولي تقريبا، مثل أهل السيرك عندما يبنون أهرامات بشرية. إذا تعلمتم ذلك يصبح الانتقال إلى الجهة المقابلة سهلاً بما أنه يوجد عشب في الجهة الثانية.
شيئا فشيئا بدأت ترتسم معالم خطة العمل: ساعة تسللهم الى القرية الأولمبية يكون كل الفدائيين بثياب الرياضة وحتى إذا انتبه لهم لسوء حظهم الحراس فسيبدون وكأنهم رياضيون قفزوا فوق السور عائدين الى مقرهم، وهذا يلغي تلقائياً مسألة ما اذا كان يجب أن يصل الفدائيون تلك الليلة كل من جهته أو في مجموعات من اثنين أو ثلاثة إلى نقطة تجمع قرب السياج. سوف يتقدمون سويا مثل أي بعثة تعود بعد قضائها السهرة في المدينة. عشرة رجال يكفون لاحتلال شقق الرياضيين الإسرائيليين الذين سيفاجئونهم خلال نومهم، وسيحمل كل رجل بندقية (أ.ك.47) وقنبلة يدوية، لم تكون المعلومات متوفرة بالضبط عن عدد الرياضيين الذين سترسلهم إسرائيل إلى الألعاب لكن حسب المعلومات التي حصل عليها فخري تم تقديرعددهم بخمسة عشر يجب أن نضيف إليهم عدداً مماثلاً من المدربين والحكام والمسعفين على اختلافهم، عشرة رجال لمراقبة ثلاثين محتجزاً في عملية كنا متوقعاً أن تدوم عدة ساعات كان أمراً معقولا.
حددت المجموعة تاريخ القيام بالعملية بعد عدة أيام من افتتاح الألعاب الرسمي في 26/8/1972، قبل ان يتحرك الفدائيون، ويستفيدون من هذا الوقت لمراقبة الإجراءات الأمنية التي سيتخذها الألمان والتعرف على شقق لإسرائيليين.
قضى ثلاثتهم الوقت المتبقي في دراسة كل أنواع الطرقات التي تؤدي الى القرية الأولمبية وفي تحديد فنادق مختلفة في ميونخ سيوزع عليها الفدائيون اثنين اثنين، ومقاه أو مطاعم في المدينة سيمكث فيها كل منهم الساعات التي تسبق العملية.
بتاريخ 12/8 رحل كل من فخري وتشي إلى ليبيا، حيث كان يجب أن يوافيهما إلى أحد المخيمات الشبان الذين تم اختيارهم في المخيم الرئيسي في لبنان من أجل القيام بتدريبات مكثفة، بينما عاد أبو داؤود إلى بيروت لوضع الترتيبات النهائية للعملية.
تحديد الأهـداف مـن الـعـمـلـية
كان أبو أياد مهتما بالإجراءات التي يجب اتباعها بغية تبادل المحتجزين بأولئك الذين كانت المنظمة تنوي تحريرهم في إسرائيل، أكثر مما كان يهتم بتفاصيل الشق العملياتي من الهجوم على القرية الأولمبية. كان متوقعاً عناد القيادة الإسرائيلية وعلى رأسها رئيسة الوزراء غولدا مائير، فقد كان الفدائيون سيطالبون في البداية أن يتمكنوا من السفر مع محتجزيهم الى وجهة يحددونها في حينه، كان التفكير منصباً نحو مصر أو أي دولة أخرى يتم فيها اعتقال المحتجزين الرياضيين ولا يحررون إلا بعد قبول السلطات الإسرائيلية القيام بعملية المبادلة.
وضع ابو اياد لائحة بأسماء المعتقلين الذين سوف يطالب الفدائيون باسم "أيلول الأسود" تحريرهم. ودون فيها أكثر من مائتين من أسماء المقاومين الفلسطينيين، كما كان على اللائحة اسم كوزو اوكاموتو، الناجي الوحيد من اليابانيين الثلاثة الملتحقين بالجبهة الشعبية والذين قاموا بعملية اللد في نهاية مايو، وكذلك أسماء ستة ضباط سوريين ولبنانيين أسرهم الإسرائيليون في يونيو.
واتفق على ختم أحد البيانين اللذين سوف يوجههما الفدائيون الى السلطات الألمانية بنداء لتوحيد الثوار في العالم اجمع، على ان يوقع باسم (م أ أ د) أي منظمة أيلول الأسود الدولية. سيكتب البيان الأول بالإنجليزية وترفق به لائحة الأشخاص المطلوب الإفراج عنهم، أما البيان الثاني بالألمانية سيحتوى على طلب وضع طائرات تحت تصرف الفدائيين وأسراهم وسيكتب بخط اليد ليوحي بأنه حرر ميدانياً.
بقيت هناك معضلة واحدة في طريق تنفيذ العملية، وهي كيفية تهريب الأسلحة إلى ألمانيا وقد تبقى حوالي أسبوعين لبدء الألعاب الأولمبية. وحسم أبو أياد الموقف بقراره تهريب الأسلحة بنفسه.
البدء في التحضير
في 17/8 عاد أبو داؤود الى ميونخ التي بدأت الوفود، كما الصحافيون وفرق التلفزيون من العالم، بالوصول إليها. وأصبح الدخول إلى القرية الأولمبية محدوداً، فعلى الداخل التعريف بنفسه بعد أن تم الإعلان عن توزيع البعثات في القرية. وبات واضحاً أي مبنى بالضبط سيقيم فيه الإسرائيليون. كان ذلك في نهاية ممر للمشاة يسمى كونوليشتراسه في المجمع 31 في واجهة بناية ضخمة يشغلها ألمان شرقيون وهي قريبة من السياج الحديدي.
وصل ابو أياد إلى ألمانيا عبر مطار فرانكفورت وهو يحمل ستة أسلحة من طراز كلاشنكوف ورشاشين من طراز كار غوستاف، ولكنه لم يجلب معه القنابل اليدوية، كما إن الفدائيين القادمين من ليبيا ثمانية بدلاً من عشرة. هذا استدعى تغيير في الخطة وبالتالي تغيير البيانين.
يوم 26/8 يوم افتتاح الألعاب استلم ابو داؤود حقيبة القنابل اليدوية وعددها عشرة، ولم يعد لديه سوى انتظار قائدي المجموعة الفدائية.
ملامح الخطة النهائية
إثر وصول الفدائيين الستة إنخرط ابو داؤود و"تشي" وقائد المجموعة في مناقشة الخطة النهائية للتنفيذ، وغايتها إحتجاز أكبر عدد من الإسرائيليين. وبدأ أبو داؤود في شرح وتوضيح دور كل منهم، حتى هامش المناورة في المفاوضات وضع حساب له في حالة نجاح العملية. وأكد أبو داؤود على أن العملية سياسية وليست عسكرية، والتعليمات هي أسر الإسرائيليين أحياء بحيث لا يقتل أحد للظهور أمام الرأي العام العالمي بمظهر المحاربين من أجل قضية عادلة.
كما أطلعهما أبو داؤود على البلاغين وورقتي الأسماء التي عليها اسم 236 معتقلا مطلوب إطلاق سراحهم، وأن تلحق القائمة بالبلاغ الأول، كما قال لهما "من أجل مصداقية أيلول اسود " يجب ان يفهم محاوروكما أنكما ستقتلون الأسرى في حال لم يتجاوبوا مع رغباتكم، ولكن حتى بعد انتهاء المهلة الأولى في الساعة التاسعة صباحا والمهلة الثانية التي تستمر حتى الظهر، نعطيكم الصلاحية في حال انقضت المهلة الأخيرة بان تؤجلوا تنفيذ تهديداتكم إلى أبعد حد ممكن."
ثم كان عليهما المطالبة بثلاث طائرات للسفر الطويل لحظة تسليم البلاغ الأول، كي يغادروا البلاد هم وأسراهم بغض النظر عن نتيجة المفاوضات التي ستجريها ألمانيا مع إسرائيل. أثناء ذلك قال أبو داؤود "الأفضل أن تختفوا عند أول فرصة أنتم وأسراكم وترحلوا إلى القاهرة، حيث تسلموا أسراكم الى المصريين وهم يفاوضون مكانكم على شروط التبادل".
فسأل تشي :ثلاث طائرات هل هذا ضروري؟
أبلغهما أبو داؤود أنه في السابق كان مفروض أن تكونوا عشرة لكن أبو أياد لم يجد متسعاً لتعديل البلاغات. وطلب منهما التقيد بما تطلبه البلاغات وعند انتهاء المهلة الثانية يمكن التخفيف من المطالب والاكتفاء بطائرتين، كما طلب منهما رفض أي اقتراح مغاير، كالمال الوفير مقابل إطلاق سراح الأسرى أو ضمان سلامتهما وسلامة بقية الفدائيين.
وأخيرا رجاهما عدم الأفصاح عن وجوده لبقية الفدائيين المتوقع وصولهم في اليوم التالي، وعدم ذكر مناقشتهم هذه أمامهم. وأنهى الحديث قائلا: سنعيد البحث أيضا مساء الاثنين.
إستفادت هذه الحلقات من:
أرشيف جريدتي الصحافة والأيام الصادرتين إبان تلك الأحداث.
تقرير وزارة الخارجية المودع لدى دار الوثائق القومية (احداث أيلول الأسود في الخرطوم .ز الواقعة وردود الأفعال).
مذكرات أبو داؤود.
بعض المقالات والمتابعات في الصحف والانترنت.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق