أمير بابكر عبدالله
دائماً ما يدخلني الأستاذ سنهوري عيسى في مآزق، ولكنها مآزق مفيدة ترفع درجة رغبة البحث عما هو جديد في الدم. آخرها مأزق الكتابة في العدد الخاص بعيد ميلاد "الراي العام" السبعين، وأن تكون المادة لها علاقة بالمناسبة باعتباره عدد توثيقي. ضربت أخماس في أسداس وأنا أقلب في رأسي البحث عن مادة يمكن أن تشكل إضافة لهذه المناسبة بدلاً من اللجوء إلى الحلول السهلة باستدعاء التاريخ المعروف والكتابة عن الصحافة ودور "الراي العام" الذي لعبته وما يمكن أن تلعبه مستقبلاً.
وجه المأزق الأول أن "الراي العام" صدرت منتصف أربعينيات القرن الماضي أيام الاستعمار، ويمكن رصد تأثيرها ودورها في الأحداث السياسية ومساهمتها في عملية التنوير والتثوير، أما الوجه الآخر فهو أن كتاباً عاصروا الصحيفة وتابعوا تاريخها أكثر مني يمتلكون ذخيرة معرفية ويقفون شهوداً على كثير من أحداثها مما يجعل الكتابة وسطهم تبدو سطحية بلا عمق.
فكرت في الإستعانة بصديقي الدكتور عبد المطلب صديق، مدير صحيفة "الشرق" القطرية، الذي كان بحثه لنيل درجة الدكتوراة مقارنة بين صحيفة "الراي العام" السودانية و"الشرق القطرية"، فهو بالتأكيد سيفيدني. في تلك الأثناء وأنا أضع يدي على خدي محتاراً سألني والدي عن الذي يشغلني، فحكيت لها المأزق الذي أدخلني فيه سنهوري، وأن لابد لي من الكتابة بمادة تجعلني حضوراً وسط هذا الإحتفال. حكى لي الوالد عن أيام دراسته للأولية والوسطى في مدينة شندي في الأربعينيات من القرن الماضي (أيام صدور الراي العام)، بأنه لم يكن يقرأ سوى "الراي العام" الجريدة الأكثر شعبية في المدينة وقتها. كان يقرأها بنهم والسبب أن عمه كان مشتركاً فيها. لكن الأهم من كل ذلك إنه يذكر أن مراسلها من مدينة شندي هو "إدوارد سمعان".
من هنا إلتقطت الفكرة في التطرق لسيرة السيد إدوارد سمعان، ولكن أين لي بمعلومات عن الرجل الذي لا أعرف ولا يعرف والدي، ظروفه الحالية، غير أنه من أقباط مدينة شندي وأعيانها وكان يمتلك مكتبة في المدينة. بحثت في الإنترنت عن طرف خيط يمكن أن يدلني الرجل، لم أجد سوى مادتين تتناولان ذكر الرجل وليس سيرته، المادة الأولى في صفحة على شبكة التواصل الاجتماعي "فيس بوك" تتناول سيرة أبناء شندي من الشخصيات المعروفة والمؤثرة في مختلف المجالات، وجدته مذكوراً ضمن قائمة رجال المال والوجهاء. المادة الثانية، وهي أكثر تعريفاً وفيها بعض الإضاءات المهمة، كانت ضمن حوار أجراه الأستاذ غسان علي عثمان مع القاصة والروائية بثينة خضر مكي قالت فيه "كان خالي السفير محمد الأمين عبد الله عمل لي اشتراكاً في إحدى المجلات يوزعها قبطي من أبناء شندي اسمه إدوارد سمعان، وكنت آخذ كل الكتب من مكتبته، وبدأت أقرأ روايات أكبر من عمري، وفي مرة وجدني أقرأ رواية (لا أنام) لإحسان عبد القدوس، فزجرني وصادر الرواية بسبب أنها أكبر من سني، وكنت وقتها في الصف الرابع الابتدائي."
تذكرت صديقي نعيم فايز غبريال الرجل الموسعي ذو المعرفة العميقة بالسودان وبأحواله، فما بالك بأقباط السودان وهو منهم. اتصلت به تلفونياً وقصصت عليه حكايتي (طلع مش عارف) رغم إنه يعرف شقيقه موريس سمعان (من الموظفين الكبار في مجال الإدارة بهيئة السكة حديد) ويعرف إنه خارج السودان، لكنه وعدني بالبحث عن راس خيط. لم تمض دقائق حتى أطلعني على إسم إبنه الدكتور سمعان إدوارد سمعان أخصائي أمراض النساء والتوليد الذي يعمل في مستشفى الراهبات ومركز النيل للخصوبة، ثم أرسل لي رقم موبايله الشخصي في رسالة قصيرة.
التقاني الدكتور سمعان نجل الأستاذ إدوارد سمعان بمكتبه في مركز النيل للخصوبة هاشاً باشاً وسعيداً بتذكر والده في هذه المناسبة التاريخية. ولما كنت محرجاً في سؤاله عن أحوال والده الآن ذكر لي عرضاً أن والده انتقل إلى جوار ربه في العام 1985، وهو ما وجدته في قصاصة سأوردها لاحقاً تنعي المراسل الصحفي إدوارد سمعان" نشرت في جريدة الصحافة بتاريخ 13 أغسطس 1985.
أقباط شندي
الأقباط في مدينة شندي كان لهم دوراً مؤثراً على كل المستويات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية، وإدوارد سمعان يمثل نموذجاً ساطعاً لكل ذلك. فعلى المستوى الاجتماعي لم تكن تلك الطائفة المنغلقة على نفسها، وبرغم إحتفاظها بخصوصيتها إلا أنها كانت منفتحة على المجتمع تؤثر وتتأثر به دون كبير تعقيدات، وكما ذكر زميله الذي نعاه في جريدة الصحافة ومراسل "الراي العام" من الرهد الأستاذ مصطفى محمد عبد الفتاح "فجعت مدينة شندي في الصحفي إدوارد سمعان والصحافة عنده أعز ما يعتز. فالمشاركات الاجتماعية والاقتصادية كلها لا قيمة لها عنده بجانب كونه المراسل الصحفي لجريدة الراي العام اليومية. تجده سباقاً في التبرع ليوم التعليم ولأعمال الخير وللجان الإصلاح والتعمير. كان بيته فندقاً للضيوف يوم لم تعرف شندي الفنادق بعد، ومتجره نادياً ارستقراطياً لكبار الموظفين والقضاة والأطباء والأساتذة والإداريين الذين أخذ من علمهم علمه ومن ثقافتهم ثقافته، ولعل الأطباء منهم قد فجعوا فيه فجيعة شخصي الضعيف".
تأثيره الثقافي والاجتماعي والسياسي معاً يتمثل في الدور الذي لعبه كمراسل صحفي لجريدة "الراي العام" منذ بداياتها كما يذكر والدي، فقد كانت "الراي العام" تعتبر الجريدة الأكثر شعبية وقتها، وتفاعل المدينة معها من بوابة مراسلها الذي ينقل إلى المركز أخبارها. وما يذكره الوالد عن تلك الفترة إنها شهدت تظاهرات عارمة شهدتها المدينة يقودها محمد الحسن محمد سعيد (والد الصحفي البارز محمد سعيد محمد الحسن) والطيب بابكر الملقب ب(المظاهر) (والد القيادي الراحل في الحزب الشيوعي التجاني الطيب) معارضة لإنشاء الجمعية التشريعية سنة 1948، وهي أول مؤسسة تشريعية بالبلاد، كونت بمقتضى تشريع صدر من الحاكم العام عن طريق التعيين. كان لصحيفة الرأي العام بواسطة مراسلها إدوار سمعان الدور في نقلها إلى جمهور القراء في مختلف المدن.
وعلى المستوى السياسي كان إدوارد سمعان عضواً بالمجلس البلدي للمدينة، الشيء الذي يعني اهتمامه بشؤون مواطني المدينة، وبالتالي إطلاعه على اخبارهم وأحداث المدينة والمساهمة في حل قضاياها. وغير أنه إلى جانب ذلك مارس مهنة الصيدلة، فقد كان يمتلك المخزن الوحيد للأدوية في المدينة، فإن مكتبته التي جاء ذكرها في الحوار مع الروائية بثينة خضر مكي لعبت دوراً مهماً في نشر الوعي والمعرفة في المدينة عبر مكتبته العامرة بالكتب المستوردة من القاهرة وغيرها إلى جانب توزيع الصحف.
مكتبة العهد الجديد
من الملاحظات المهمة التي شغلتني هو تغيير إسم المكتبة التي كانت معروفة بها. فقد ذكر لي نجله الدكتور سمعان أن والده اطلق عليها اسم "سميرة"، ولكنها تحولت الآن إلى إسم "العهد الجديد". فدائماً ما نحاول أن نمحو تاريخنا ومعالمه وكأنه "عورة"، وهي ملاحظة تتصل بكثير من مثل تلك التغيرات والتبدلات التي طالت العديد من معالم البلد سواء في العاصمة أو الأقاليم. إن محاولات طمس التاريخ لن تجدي على المدى الطويل خاصة في عصر التدوين والتوثيق بأحدث التقنيات.
وحقاً إن عهد "سميرة" المكتبة كان يتسم بالتسامح والتعايش، أما "العهد الجديد" فهو ليس عهد إدوارد سمعان مراسل الراي العام، له الرحمة والمغفرة وللدكتور سمعان التحية الخالصة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق