أمير بابكر عبدالله
عندما صاغ الشاعر الروسي ميخائيل إيساكوفسكي قصيدته "كاتيوشا"، لم يتبادر إلى ذهنه أن تتحول تلك الطاقة الشعرية المليئة بالحب والوجد والشوق إلى قذائف صاروخية تثير حماسة المقاتلين في صفوف الجبهات، وتصبح من أغنيات الحماسة في الحرب. أما كاترينا، تلك الفتاة القروية الرقيقة، التي جافى النوم مقلتيها شوقاً لحبيبها المتوسد خندقه في الحدود على جبهات القتال، فقد عنَّ لها أن رسالة إليه تعبر فيها عن حالتها وهو بعيد عنها، لكن لم يراود خيالها أنها ستتحول إلى حالة ملهمة تغير مجرى الحرب العالمية الثانية.
للروس طريقة فريدة في تصغير الأسماء تحبباً، أو كما نطلق عليها نحن
(أسم الدلع)، و"كاتيوشا" هو إسم الدلع ل"كاترينا" بطلة تلك
القصيدة التي سطرها خيال الشاعر الروسي، تحولت بعدها "كاتيوشا"، بفعل
سحر القصيدة وكلماتها الرقيقة، إلى طاقة وقوة ليطلق إسمها على أحدث ما أنتجته
مصانع الأسلحة السوفيتية (آنذاك) لمواجهة الآلة الحربية الألمانية التي شارفت
قواتها تخوم المدن الكبرى، بل وحاصرت بعضها.
مفردات القصيدة على بساطتها تغوض عميقاً في النفس، وهي بقدرما تحمل
بين طياتها ذلك الحنين الأبدي بين المحبين وتنطلق من منابع الوله والإشتياق لكنها
لا تلهي ذلك الجندي على الحدود وإنما تحفزه لكيما يتمسك بحراسة أرض الوطن العزيز.
لكن ما يمنحها روحاً أخرى وبهاءً بلا حدود هو ذلك اللحن المشحون بكل تفاصيل البوح
الجميل.
كانت اشجار التفاح والخوخ مزهرة ... وفوق النهر
يهبط ضباب الصباح
صعدت كاتيوشا الصبية على حافة الجرف ... والنهر
يغلفه الضباب.
على حافة النهر بدأت كاتيوشا تغني ... عن النسر
الرمادي الشامخ في السهول
وعن الذي تحبه كاتيوشا من كل قلبها ... وتصون رسائله اليها .
أيتها الأغنية الساطعة عن الصبية العذراء ... طيري
إلى حدود الشمس، طيري مثل طائر
إلى الجندي البعيد عند الحدود ... من كاتيوشا أقريه
السلام
لعله يفكر بالعذراء القروية ... لعله يسمع أغنية
كاتيوشا
وكما يحرس أرض الوطن العزيز ... سوف تحرس كاتيوشا
حبهما الى الابد.
أما في منطقة امريكا اللاتينية فقد إنطلقت أغنية حب أخرى هي
"غوانتانا ميرا". إذا كانت "كاتيوشا" الأغنية الأشهر في روسيا
منذ العهد السوفيتي ولدت في النصف الأول من القرن العشرين، فإن
"غوانتاناميرا" ولدت قبلها بأكثر من نصف قرن في عمق الجزيرة الكوبية.
وصارت على مدار الزمان ملجأ وحي الثورات المسلحة التي انتظمت تلك القارة، ويعني
اسمها "فتاة غوانتانامو" الجزيرة الأشهر في عصر ما بعد 11 سبتمبر.
مؤلفها الذي عاش في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، خوسيه مارتي، ليس ببعيد عن
الثورة والثوار، فقد عاد بعد نفيه إلى إسبانيا وهو أبن 17 عاماً ليطلق شرارة
الثورة وينضم إلى حرب التحرير.
أنا رجل مخلص .. من الأرض التي ينمو فيها النخيل
وقبل أن أرحل ... أريد أن أطلق أشعار قلبي
إن شعري أخضر كالغيطان ... وهو أيضاً أحمر كاللهب
إن شعري غزال جريح ... يسعي ليختبئ فوق الجبل
أزرع وردة بيضاء... في يوليو كما في يناير
للصديق الوفي... الذي يمد لي يده
ولقاسي القلب... الذي ينتزع قلبي من ضلوعي
لا أزرع الشوك... بل أزرع وردة بيضاء
أرقصي يا فتاة جوانتانامو... أرقصي رقصة الجواخيرة
رغم قسوة الاستعمار، وفي الوقت الذي تحمل الأيدي السلاح
لمجابهته، إلا أن الأغنية تتجاوز الحقد
إلى فضاء الحب والتسامح، فالحب يمكن هزيمة أعتى الأسلحة، مثلما تحول إلى سلاح فتاك
في حالة "كاتيوشا". "غوانتاناميرا" لم تظل حبيسة الجزيرة
الكوبية، بل صارت فتاة غوانتانامو ملهمة لكل ثوار أمريكا اللاتينية، يحملونها بين
وجدانهم أينما حلوا، وكانت زادهم وهم يتغنون بها في حالة من "الغرق"
الوجداني وسط المعارك حامية الوطيس التي خاضوها ضد الدكتاتوريات التي حكمتهم.
ولا زلت أذكر يوم أن تعرفت على تلك الفتاة من تشيلي، عندما رافقت صديقي
إداوردو تاردس دياس وكارلوس لويس فالاس لحضور احياء طلاب تشيلي لذكرى مقتل الرئيس الفنزويلي
سلفادور الليندي الذي جاء إلى سدة الحكم في شيلي بانتخابات عامة حرة في العام
1970، الشيء الذي لم يعجب الولايات المتحدة الأمريكية وقتها خاصة وأن القارة
الجنوبية يغشاها المد الاشتراكي من كل صوب. فبعد كوبا التي وقفت ك(شوكة حوت) في
حلق واشنطن في فترة الحرب الباردة زاد عليها المد الاشتراكي في أنحاء أمريكا
اللاتينية. فكان أن دبرت لإزاحته عن السلطة بواسطة انقلاب عسكري قاده الجنرال
أوغستو بينوشيه..
وكانت الصدفة رمت بي أن أسكن مع إثنين من طلاب أمريكا
اللاتينية ليكونا دليلي في هذا العالم الذي أقتحمته لأول مرة، أحدهما هو إدواردو القادم
من كنتونات كولومبيا، أو بالأحرى من ريف بوغوتا، تلك التي نقرأ عنها وربما نشاهد
بعض منها في الأفلام، حيث الحرب والمخدرات، إنه إدواردو تاردس ديِّاس. والآخر، كارلوس لويس
فالاس، الذي كنا نحسده على نشاطه وهو القادم من كراكاس عاصمة فنزويلا الغنية
بالنفط، بل يكاد (ينقط نفطاً) من فرط مظهره الفاخر واهتمامه الفائق بهندامه على
عكسنا وكانت فوضانا (وبهدلتنا) مثار خلاف دائم بيننا.
بدا الحفل صاخباً، ربما هكذا يحتفلون بموتاهم، ولكن هذا الصخب من طبيعة
الدم الذي يسري في عروقهم. فرغم كل المآسي التي ظلت تعيشها أمريكا اللاتينية بسبب
الحروب والسياسة وبسبب الظروف الطبيعية إلا أن تلك الروح الصاخبة تظلل حياتهم
أينما حلت جماعة منهم، وقد تتحول إلى صخب عنيف في بعض الأحيان.
كانت ترقص.. وهي جالسة قبالتي، أو هكذا رأيتها أول مرة. كل شيء فيها يضج
بالرقص.. طريقة جلستها، صوتها وهي توزع حديثها هنا وهناك وضحكتها.. شيء ما في
صوتها مثير للدهشة، قادر على أن ينثر حولها مُتَّسعاً من البهجة والخفة التي تذهب
بوطأة أي روح مثقلة. ثم جاءت تلك الأغنية الخالدة (وكأنها نشيد العلم) ليقف الجميع
ويبدأون في ترديدها:
قوانتانا ميرا
ماريا قوانتانا ميرا
وتقفز تلك الفتاة العشرينية على الطاولة وتعب حنجرتها بتلك الكلمات وبصوتها الخلاب. إنها أليساندرا فيرونيكا، كما قدمها لي صديقي إدواردو ديِّاس، مضيفاً "من شيلي"، تضع على كتفيها ذلك الوشاح المصنوع يدوياً والذي يميز فتيات أمريكا اللاتينية عن سواهن، وترتدي بنطلون جينز مهترئة أطرافه السفلى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق