سيد فرح.. بطل من ذاك الزمان

أن تكتب على هواك لن يمسك عليك أحد شيئاً، فأبسط حيثيات دفاعك عما كتبته إنه على هواك. لكن أن تكلف أو أن تكون واقع في هوى كتابة محددة لا تحتمل نزعات شخصية وفوق ذلك تتطلب مراناً ومراساً ومنهجاً صارماً يسد عليك الطريق أمام الكتابة على هواك، فهو أمر يصيبني أنا –على الأقل- بالقلق. هذا ما وقعت فيه بالضبط عندما عرض علي صديقي العزيز د. فرح صالح فرح وبإسم عائلة فرح صالح عمدة المحس الكتابة عن إبنهم وعم صديقي الضابط سيد فرح صالح الذي أصر على دخول مدرسة ضرب نار من كلية غوردون، ورغم إحتجاج قائد المدرسة إلا أنه نجح في ذلك إلى أن تخرج ضابطاً برتبة ملازم ثاني. لتبدأ بعدها رحلة من نوع آخر وهو يقاتل الجنود الإنجليز في المستشفى إلى جانب عبد الفضيل الماظ قبل أن يقطع النهر سباحة إلى الضفة الأخرى حيث الخرطوم بحري طلباً لمزيد من الذخيرة التي شارفت على النفاذ.

الصورة: من العائلة

ورغم ما في الكتابة من مغامرة إلا ان الكتابة عن سيرة شخص لا تلم بكل أطراف حياته هي مغامرة قد تورد موارد التهلكة لمن يتصدى لها، خاصة أن تكتب في سيرة شخصية مثل سيد فرح. وها أنا هنا أحاول الكتابة على هواي قبل الدخول في عالم الكتابة الصارمة التي ورطني فيها صديقي فرح وورطني أكثر ترحيب أسرة سيد فرح وخاصة عمنا وشقيقه صالح فرح.

ـ سنة كاملة. سنة سأذكرها ما حييت، لشد ما حدث لي من قلق، عفا الله عنه. هناك أناس كتب عليهم أن تقع لهم مغامرات خارقة.

هكذا قال مكسيم مكسيموفتش الضابط في الجيش الإمبراطوري وهو يحكي للراوي عن بيتشورين بطل رواية الكاتب والشاعر الروسي ميخائيل ليرمنتوف " بطل من هذا الزمان" أو "بطل زماننا" إن شئت ترجمتها. ومن خلال ما تيسر لي من معلومات وأنا أقلب في جزء يسير من سيرة "بطل ذاك الزمان" سيد فرح أدركت هول المغامرات الخارقة التي عاشها، في مقابل حياة مستقرة إلى حد بعيد عاشها شقيقاه صالح وعبدالفتاح مقارنة بمغامراته.

وما بين مغامرات بيتشورين الخارقة وطبيعته القلقة الضجرة، وسيرة الثوري الأرجنتيني أرنستو شي جيفارا حاولت أن (أفج) طريقاً إلى قراءة حياة سيد فرح من خلال بعض الكتابات والمواد الصحفية وحتى الشفاهية قبل الشروع في وضع خطتي للكتابة.

إذا كانت السيرة منذ ولادة سيد فرح وحياته الأولى في تلك القلعة في دلقو وحتى عبوره النيل الأزرق والقتال على أشده بين القوة العسكرية السودانية التي قمت بالثورة في 1924 ضد الإنجليز وحتى صدور بعض الصحف الإنجليزية تحمل صورته باعتباره  Wanted Dead or Live ، وخصصت المخابرات البريطانية جائزة مقدارها خمسة آلاف جنيه ذهبي لمن يقبض أو يدل عليه، إذا كانت تلك السيرة متوفرة أو يمكن الحصول عليها أو على جزء كبير منها، فإن جانب كبير ومهم من سيرته وحياته سيظل يحتاج لجهد وعناء وبحث شاق.

توزعت سيرة سيد فرح ونشاطه بين عدة دول أولها وطنه السودان، فبعد نشاطه العسكري إبان فترة الإستعمار الذي امتهنه (وكانت تلك فترة توترات بين التاج البريطاني والمصري الذين أخضعا السودان لسيطرتهما، وبلغت قمة تلك التوترات في علاقتهما إثر مقتل السير لي ستاك وقرار جلاء القوات المصرية من السودان) وقادته خلفيته العسكرية للإنضمام لثوار 1924 برؤاها السياسية.

أما فترته في مصر فكانت هي الأكثر ثراءاً نتيجة علاقاته بالضباط المصريين الذين ساهموا في تهريبه من السودان وإخفائه من أعين المخابرات البريطانية التي ظلت تطارده حتى في مصر، بعد سيطرة القوات الإنجليزية على الأوضاع في السودان ونجاحها في إخماد الثورة المسلحة. عاش في مصر فترة طويلة تعددت فيها ملامح شخصيته وإن ظلت قدرته على القيادة والسيطرة التي إكتسبها منذ تخرجه من مدرسة ضربنار هي السائدة أثناء تنقلاته من شخصية إلى أخرى ومن موقع إلى آخر.

لكن الفترة الأهم في سيرته والتي تحتاج إلى كثير بحث هي التي قضاها في الصحراء الليبية بجوار الثائر الليبي عمر المختار، وساهم في تدريب المقاتلين الليبيين على كيفية إدارة المعارك والنظم العسكرية ولم يبخل عليهم بخبراته العسكرية التي اكتسبها في السودان، وانطلق من مهام التدريب إلى رسم الخطط العسكرية وقيادة المعارك ضد الاستعمار الاستيطاني الإيطالي مما قاد الثوار إلى نجاحات عديدة في تلك المعارك.

قضى سيد فرح كما تقول بعض سيرته حوالي الثلاث سنوات وسط الثوار الليبيين حتى صار سكرتيراً خاصاً للقائد الثائر عمر المختار ومستشاراً للقائد ومشرفاً على إدارة شئون القيادة العليا للثورة، الشيء الذي جعل الرئيس الليبي معمر القذافي –في إحدى تجلياته- يمتدح بفخر أن الثورة الليبية ضد المستعمر كان في قيادتها واحد من السودانيين هو سيد فرح.

ولأنه إنطلق إلى الصحراء الليبية من الأراضي المصرية فكان لابد أن يعود إليها مرة أخرى بعد الهزيمة التي ألحقتها القوات الإيطالية بالثورة وتمكنها من أسر عمر المختار، فكان هروبه مع بعض المقاتلين السنوسيين في اتجاه مصر. ليعود إليها مرة أخرى متخفياً فبعد أن كان يتقمص شخصية محمود المصري إبان تواجده في ليبيا، صار محمود المغربي وهو يخترق الصحراء الغربية للأراضي المصرية، وظل يتعامل بهذا الإسم لفترة طويلة رغم أنه كان على صلة مستمرة بأصدقائه الضباط المصريين الذين زاملهم في السودان وشكلوا له فرقة حماية وهو في مصر. وما أنقذ سيد فرح وأعاده إلى الوجود مرة أخرى بهذا الإسم هو معاهدة 1936 بين مصر وبريطانيا. على إثر ذلك عمل في عدة مواقع ثم أعيد للجيش ليصدر ملك مصر قراراً بتعيينه محافظاً على المدينة الساحلية مرسي مطروح التي تقع غرب الإسكندرية.

ورغم أن قيادة ثورة يوليو 1952 إعتقلته بعد لجوء قائد قوات لحدود إلى منزله، حيث هاجمت قوات منها منزل سيد فرح لتعتقل حسين باشا سري وتعتقل معه سيد بسبب إيوائه له، إلا أن إعتذاراً رسمياً صدر من مجلس قيادة الثورة لسيد فرح تلي أثناء محاكمة حسين باشا سري، واعتذر له محمد نجيب وأخرجه من المعتقل بنفسه.

بين كل مراحل سيرة سيد فرح التي يمكن القبض على ملامحها أو بعض من تلك الملامح منها ستظل مرحلة سيرته في حرب 48 ضد إسرائيل هي التي تحتاج إلى بحث مضني، فقد ظلت غائبة الملامح، بل لا تكاد تذكر إلا تلك الإشادة بدوره التي ذكرها الرئيس عبدالناصر عن بسالته وجسارته وبطولته أثناء المعارك. فهو بحكم خبرته وانتمائه للجيش لابد أن يكون له دور مهم في ذلك.

ما بين بتشورين المغامر الروسي الذي قال عنه مكسيم مكسيوفيتش "هناك أناس كتب عليهم أن تقع لهم مغامرات خارقة". وإن كانت تلك مغامرات لا ترقى لمغامرات سيد فرح، وبين جيفارا الثائر الأرجنتيني الذي تنقل من بلد إلى أخرى بل كان ثائراً عابراً للقارات إلى أن أغتالته المخابرات الأمريكية، يبقى سيد فرح ثائر بطعم خاص وبطل من ذاك الزمان. ولي الله عزيزي د. فرح صالح فرح فدائماً ما ورطَّني وها ذا أنت تورطني مرة أخرى، ولتعتبر هذه كتابة على هواي لا تستطيع أن تمسك بها علي شيئاً، إلى أن أهييء نفسي لكتابة أخرى، وكان الله في العون

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق