أمير بابكر عبدالله
هذا عنوان لكتاب من تأليف باربرا ويتمر، ترجمه د. ممدوح يوسف عمران لسلسلة عالم المعرفة الكويتية (337). تجيء ترجمة الكتاب في حوالي ثلاثمائة وخمسين صفحة ، وغير التصدير والمقدمة يضم الكتاب ثلاثة أجزاء تحت عناوين (العنف في الخطاب الثقافي، العنف والخطاب النظري وأخيراً أنماط العنف السائدة) يندرج تحت تلك العناوين تسعة فصول تبدأ بالتساؤل عن ماهية قضية العنف، حيث تقول المؤلفة إن الكتاب ينصب على معالجة فرضيتين أساسيتين بخصوص العنف: أولاهما، أن العنف فطري، أو متأصل في البشر؛ وثانيهما، أن العنف مكتسب بالسلوك. وتنهتي فصوله بالتكنولوجيا والتفاعل، أي تأثيرها في سيادة العنف أو في التساند.
إذا كان العنف هو خطاب أو فعل مؤذٍ أو مدمر يقوم به فرد أو جماعة ضد الأخرى، ويجيء منفلتاً قائماً على فطرة الإنسان، فهناك أيضاً عنف مكتسب وآخر مؤسس قائم على مصالح النظام الاجتماعي الذي يخضع له الأفراد والجماعات. تباينت وجهات نظر علماء الاجتماع الرواد منهم والمحدثين في تفسير مسوغات الضبط الاجتماعي. لكن جل نظرياتهم تبحث في ضفة واحدة من النهر، وهو المعني بضبط السلوك الفردي والجماعي ليتوافق مع القيم والموجهات التي تحكم النظام الاجتماعي. فمنذ رائد علم الاجتماع ابن خلدون الذي يرى أن العمران البشري لابد له من سياسة لينظم بها أمره وانه لا يتاح ذلك إلا إذا وجد وازع يدفع البشر عن بعضهم البعض لما في طباعهم الحيوانية من العدوان والظلم، لا يخرج الضبط الاجتماعي من سيطرة المجتمع للذين يقرأونه من منظور الواقعية كإميل دوركايم الذي يرى أن أي عامل يتدخل في سلوك الإنسان يعتبر عاملاً ضابطاً وليس جبرياً، فالضبط عنده ليس ذاتياً وإنما جزء من الموقف العام. أو الذين يعزونه للمنبهات والاستجابات انطلاقاً من زاوية علم النفس الاجتماعي، أو حتى المثاليين الذين يربطون الضبط الاجتماعي بتحقيق المثل في المجتمع.
تقول باربرا ويتمر "تشتمل التطبيقات المنظمة للردع والسيطرة الاجتماعية على أدوات تنظيم وتدخل اجتماعية واضحة، مثل الأجهزة القضائية والعسكرية والشرطة المدنية. فهذه بنى ضرورية في أي ثقافة كي تحافظ على الحدود المناسبة، وتحمي الحياة التي تجسد الثقافة وتقويها. لكن تعقيدات التفاعل الاجتماعي تتضمن أنظمة قوية لضبط السلوك والمواقف الاجتماعية تعمل كأزرع غير مرئية لقوانين البلاد المكتوبة وغير المكتوبة."
وقبل تدخل قوى الردع الاجتماعية الواضحة (الأجهزة القضائية والعسكرية والشرطة المدنية)، تبدأ مظاهر الضبط في العديد من المؤسسات، تتداخل فيها التنشئة الاجتماعية عبر الأسرة كوحدة اجتماعية والمدرسة والنادي وغيرها من تلك التي تسهم في غرس القيم والتوجهات، ثم الجماعات فالمجتمع، والتي تمثل جميعها، في ذات الوقت، ازرع للردع والسيطرة محافظة على نظامها ومعتقداتها.
يمكن القول بأن هذه القراءة لضفة واحدة من النهر، تلعب فيها القوانين والضوابط العامة ومستويات العقاب والترغيب دورها وأثرها في حدود كل نظام اجتماعي. بينما الضفة الأخرى يتشكل فيها منظر آخر للعنف، وهو عنف لا يخرج من قميص الخطاب أو الفعل المؤذي أو المدمر، لكن من يقوم به وضد من؟ أو عندما يصبح النظام الثقافي قادراً على تشريع العنف وعدم عقلنته واستخدامه في القمع والسيطرة.
تلك هي الضفة الأخرى من النهر؛ ويمكن مشاهدة هذه الصورة من خلال عدة أنظمة اجتماعية تتحكم فيها قيم وسلوكيات وموجهات تختلف من الواحدة إلى الأخرى. الأسرة كمعمل أولي للتنشئة الاجتماعية، تشكل نمط ثقافي يؤثر ويتأثر بالنظام الكلي بدرجة اكبر. ولنأخذ نظامنا الاجتماعي الذي يفرض شروطه على شكل تكوين الأسرة منذ بدايتها، وقوانين الأحوال الشخصية الضابطة وفقاً لذلك النظام وقيمه والمنظِمة للعلاقات الأسرية منذ عقد الزواج وإلى الموت أو الطلاق بين الزوجين. وكذلك قانون الطفل وحقوقه، كتطبيقات منظمة للردع والسيطرة الاجتماعية، نجد أن هناك تطبيقات موازية أخرى غير معلنة، ولكنها سائدة ثقافياً، تكرس للعنف ضد الطفل والمرأة.
يمكن إحصاء العديد من أشكال العنف في إطار التابوهات الأسرية التي تتعرض لها هذه الفئة، بعضها يمنعه القانون وأخرى يغض الطرف عنها ذات القانون. ويمثل الضرب كوسيلة رادعة أعلى أشكال العنف في العلاقة بين الرجل والمرأة والأسرة والطفل، ثم تأتي أشكال أخرى كالعنف اللفظي ووسائل الترغيب والترهيب للتحكم والسيطرة على الأوضاع القائمة، وكأنما يأتي ذلك مكملاً لدور أدوات التدخل الاجتماعية الأخرى. أن يوسع أب إبنه ضرباً لسبب ما يدخل في إطار قواعد الممارسة التربوية، التي لا ينظر إليها المجتمع بعين الريبة، بالرغم من آثارها المحتملة مستقبلاً في سلوك الطفل. في ظل نظام اجتماعي آخر، محكوم بقيم ثقافية مختلفة عن تلك التي تحكمنا، يعرض هذا الشكل من العنف الوالد إلى حرمانه من حضانة طفله قانوناً وتتولاه مؤسسات رعاية حكومية، وأيضاً رغم أن لذلك آثاره مستقبلاً على الطفل.
في الضفة الطبيعية للنهر المتهم بريء حتى تثبت إدانته، كما تؤكد ذلك القاعدة القانونية. وضعت القوانين بكافة أنواعها للضبط الاجتماعي وفقاً لقيم النظام السائد، وقد يحدث اتفاق إجماعي حولها أو اختلافات حول بعض موادها داخل المجتمع ولكنها في خاتمة المطاف هي التي تحكم العلاقة بين الجريمة والمجرم والبريء، وتعاقب المجرم حسب جرمه وتبرئ ساحة الآخر الذي لا تثبت إدانته. ولكن في الضفة الأخرى للنهر كثيراً ما تعتمد وسائل للعنف في المسافة الفاصلة بين التهمة والإدانة، وهي وسائل غير مشروعة بنص القانون ولكنها مسكوت عنها في عرف الجهة المنفذة للتحقيق أثناء سيره. ولنأخذ مشهداً كثيراً ما نراه في شارعنا أو في الأقلام السينمائية أو أشرطة الأخبار التلفزيوينة، حين تجد رجل شرطة أو مجموعة منهم تضرب متهماً أو تجرجره بصورة مذلة، وربما أثناء التحقيق يتعرض للتعذيب الجسدي والنفسي. ثم يقدم للمحاكمة أمام قاضٍ، قد يدان، أو بكل بساطة تبرأ ساحته. من حق المتهم إثبات وقائع التعذيب التي تعرض لها قانوناً، ويمكن محاكمة القائم عليها بحكم القانون، ولكن المؤسسة أو الجهاز الذي يتبع له يظل يحميه بكل استطاعته ليس من أجله، ولكن من أجل المحافظة على وسائل وأدوات ضبط ليس منصوص عليها قانوناً، ولكنها تمثل قاعدة عرفية لذلك الجهاز. وإذا تمت الإدانة للقائم بالتعذيب يرد الأمر إلى التصرف الفردي، وليس من مكان لمحاكمة الجهاز أو المؤسسة.
تقول باربرا ويتمر "يستطيع النظام حماية نفسه بالمحافظة على سيادة الاعتقاد القائل بأن العنف فطري، من الطبيعة، وإن الكبح الجماعي، الذي هو في حد ذاته عنف، امر ضروري". هذا الأمر يبدو أكثر وضوحاً في أجهزة اخرى تعتمد عليها السلطة في ترسيخ وإستمرار نظامها السياسي، وهي الأجهزة المناط بها حراسة الأمن القومي. فغوانتنامو ليست مجرد معتقل يستلقي قرب الجزيرة الكوبية، بل هو مجموعة قيم واتجاهات سلوكية ظلت تسترشد بها كل تلك الأجهزة وهي تستخدم من أجل المحافظة على نظام سياسي خاضعة له. فغوانتنامو وإن إرتبط بالحادي عشر من سبتمبر 2001م، لكنه موجود قبل ذلك بكثير وحتى الآن وفي كثير من البلدان. فوقائع العنف والتعذيب الجسدي والنفسي ظلت الوسيلة المرتبطة بتلك الأجهزة، خارج إطار المؤسسة القانونية.
نختم بقول باربرا ويتمر بإنه " يستلزم التحول من العنف إلى الاحترام إعادة تقويم شاملة للعلاقة ضمن الثقافة. إن العنف عبارة عن اسجابة سلوكية مكتسبة ومروضة –من خلال الموروث والمحاكاة الرمزية والتجربة. لقد جرت المصادقة عليه ثقافياً طوال قرون واعيد تعزيزه عبر الخطاب الثقافي وعبر فعل تحول الصدمة. وبالتالي، يتطلب منع السلوك العنيف والنسؤولية عنه إعادة تقويم للترميز والمؤسسات الثقافية، إضافة إلى معنى السلوك الإنساني المسؤول".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق