شارلي إيبدو .. الوجه الآخر للواقع

أمير بابكر عبدالله

التطرف ينقض غزل الحكمة ويعمي البصيرة، ومن مظاهره ردة الفعل في ظل سيطرة الغضب على العقل وتحكمه في مساراته. غريب أمر المتطرفين والمتشددين من المسلمين الذين يزعمون أنهم أكثر حباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم يفارقون واحدة من أهم صفاته وانبلها وهي الحكمة التي كان يتصف بها إلى أن اختاره ربه إلى جواره، ولا يمتثلون لسنته التي رسمها نهجاً وطريقاً أثناء حياته ونشره للدعوة. وغريب أن تسمعهم في المنابر يتحدثون عن حلم رسول الله وعفوه وسماحته ومسامحته من آذوه فعلاً وقولاً، يحدثك أحدهم عن ذلك الأمر وهم مقطب الجبين مكفهر الوجه، يكاد يفتك (في خياله) بحديثه من أساء إلى رسولنا الحبيب أو آذاه وينسى في ذات الوقت أن نبينا عفا عنه وسامحه وهو منبسط الوجه لا يحمل بين جنبيه ضغينة وإلا تناقضت مع تلك الصفات. هم بتلك الصفات التي تناقض الحكمة التي اتسم بها رسولنا الكريم يساهمون في نشر الإساءة إليه ومثال ذلك ما حدث في الأيام الماضية في الحادثة التي عرفت ودخلت التاريخ باسم "شارلي إيبدو".

لم نكن، في العالم العربي وربما أنحاء كبيرة في العالم، نعرف عن الصحافة الفرنسية سوى صحف مثل "لوفيغارو" وليبراسيون" و"لوموند". الآن العالم كله يعلم أن هناك صحيفة فرنسية كاريكاتورية تسمى "شارلي إيبدو"، بسبب التطرف والتشدد.
عدد سكان فرنسا حوالي 66 مليون نسمة، وهناك 11 صحيفة فرنسية توزع في مجملها ما بين ثلاث إلى أربع ملايين نسخة يومياً، من بينها تلك الصحيفة المغمورة التي (تطبع) 60 ألف نسخة يومياً ولا أعلم نسبة توزيعها لكنه بكل تأكيد يقل عن هذا الرقم بنسبة واضحة كما هو معروف عن الصحف الورقية عموماً. هذا يعني أن تلك الرسوم المسيئة لنبينا الكريم كانت في دائرة محصورة، وأستطيع أن أراهن أن من قاموا بارتكاب ذلك الفعل في حق ليسو داخل تلك الدائرة، وأن هناك من قام بتنبيههم إلى تلك الرسوم.
ردة الفعل المقابلة لما يمكن أن يطلق عليه "الحب الأعمى" وضعت تلك الصحيفة في دائرة الضو الأكثر سطوعاً على المستوى الإعلامي والسياسي ليس في فرنسا وحدها بل في سائر دول العالم. وها هي تعلن أنها ستطبع مليون نسخة تعيد فيها نشر تلك الرسوم. إذاً بدلاً من حصار دائرة متلقي رسالة الإساءة إلى رسولنا الكريم ساهم الهجوم وقتل الصحفيين العاملين في الصحيفة في توسيع دائرة انتشار الإساءة، ليس هذا فحسب بل وأوجدت الملايين الذين يساندونها ويناصرونها ويدعمونها في موقفها داخل فرنسا وملايين أخرى في مختلف أنحاء العالم.
نجحت "شارلي إيبدو" في توصيل رسالتها وأكثر من ذلك نجحت في الصعود على درجات سلم توزيع الصحف اليومية الفرنسية، بينما فشلت رسالة المتطرفين الإسلاميين إذا كان الغرض منها القضاء على مصدر من مصادر الإساءة لنبينا الكريم فقد حدث العكس، وما كان ليحدث لو أنهم تمعنوا في سيرة الرسول عليه الصلاة والسلام وهو يتعامل بصبر وحكمة عندما يواجه الأذى والإساءة.
لو أنهم تمعنوا في الآيات القرآنية في سورة النحل "واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون، إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون"، لعلموا كيف أن الله سبحانه وتعالى يعلم النبي خلق القرآن. ولوا أنهم تمعنوا في قوله تعالى "وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين"، لوجدوا الحكمة التي ضلوا طريقها. فإن امتثلوا لأمر الله تعالى وساروا على نهج النبي عليه الصلاة والسلام الذي يزعمون حبه لكانت الصورة مختلفة عن المشهد الآن. وطالما هم غير قادرين على (عقاب الصحيفة بمثلما فعلت) أي ليست لديهم المقدرة على إصدار صحيفة في فرنسا ينشرون فيها آرائهم المناصرة للنبي الكريم والضاحدة لفريات وكذب وسخرية تلك الرسوم عن نبينا الكريم، كان عليهم أن يختاروا الصبر كما أمر الله تعالى ففيه كل الخير)، ولأنهم لم يختاروا الصبر فقد ساهموا في انتشار تلك الإساءة أضعافاً مضاعفة. ولو أنهم اختاروا الصبر لكان أصحاب "شارلي إبيدو" منكبين على أنفسهم يبحثون عن طريقة أخرى للإنطلاق بصحيفتهم، ولطوى قراء الصحيفة ذلك العدد المسيء نهاية ذلك اليوم ونسوا ما فيه صبيحة اليوم التالي وهم يفتحون صفحات العدد الجديد، ولما سمعنا نحن والعالم أجمع بصحيفة اسمها "شارلي إبيدو".

هناك تعليق واحد: