أمير بابكر عبدالله
في الانتخابات السابقة إبان الفترة الانتقالية التي انتهت بفصل
الجنوب، ظهرت كلمة (خج) صناديق الاقتراع عقب انتشار فيديو يصور ما جرى في إحدى
مراكز الاقتراع في شرق السودان. جاءت الكلمة على لسان احد مناصري المؤتمر الوطني
وهو (يخج) الصندوق (خجاً) على مرأى ومسمع كاميرا جهاز موبايل دون أن يدري.
يبدو أن تلك العادة موروثة من أيام الاستعمار ولا تعود (بدعتها) إلى
نظام الإنقاذ وإن برع فيها، ففي كتاب "حكايات كانتربري السودانية" الذي
حرره دونالد هولي الذي عمل في السودان إبان فترة الاستعمار الانجليزي المصري،
وترجمه ببراعة الاستاذ محمد أحمد الخضر التوم، ونشره مركز عبدالكريم مرغني
الثقافي. حقيقة يستحق هذا المركز لنجاحه وتميزه في بث ضروب المعرفة والفكر
ومساهمته الكبيرة في تحريك ساكن الإبداع
القصصي والروائي داخل صدور وأدراج السودانيين، يستحق وساماً خاصاً وحتماً
سيجده يوماً في دولة تهتم بالفكر والإبداع وتعتبرهما مفتاح النهضة وقاعدة للانطلاق
لرحاب العالم المتحضر.
وردت قصة (خج) صناديق الاقتراع في الانتخابات العامة التي جرت في ذلك
العهد في قرية (أم بطيخ) التي تقطنها قبائل (بني حنظل) وهم من الأبالة الرحل. وقد
كان راويها ويدعى "دنكان وير" مشرفاً على لجان الانتخابات في تلك
النواحي، يقول عنه محرر الكتاب "دونالد هولي" في مقدمته "أما حكاية دنكان وير التي
قدمتها أرملته نورا فقد كتبت أصلاً لمجلة بلاك وورد ماجزين تحت الاسم المستعار
(أشقر)، وهي من الأدب القصصي رغم أنها تستوحي المعرفة والصدق والمعاني
الأخلاقية".
قصة الخج تبدأ عندما اقترب موعد الترشيح، فقد كانت الأمور تسير بشكل
طبيعي لصالح زعيم القبيلة، وذلك شيء طبيعي في تلك الأثناء وتلك الأنحاء. جرت مراسم
الترشيح بصورة شكلية ودفع الزعيم قيمة التأمين القانوني. لكن حدث ما لم يكن في
الحسبان، فمع اقتراب موعد قفل باب الترشيح دخل مرشحان آخران حلبة المنافسة بإيعاز
من جهات قادمة من خارج القرية وهما، (عاقل القوم) التاجر المعروف في (أم بطيخ)
و(الستار الحديدي) الذي اشتهر بمحاولة فاشلة لابتزاز زعيم القبيلة. إزاء هذا
التطور الجديد قرر زعيم القبيلة استرداد التأمين خاصته والانسحاب لكن كان الوقت
متأخراً لمثل هكذا إجراء، وصار المرشحون ثلاثة.
كان مشرف المركز "دنكان وير" يخشى من تداعيات ذلك الموقف
بالرغم من كل الاحتيطات التي اتخذها ليجري الاقتراع بشكل سليم وفي سرية تامة. ما
عزز من مخاوفه علمه بعدم اهتمام القبيلة عموما بالانتخابات ولم يكن يتوقع مشاركة
عالية لكن حدث العكس، إضافة إلى ذلك وصول إشارة عاجلة من لجنة الانتخابات العامة
تطالب المشرفين الإداريين بعدم القيام بأي دور شخصي في إجراءات التصويت ولا يسمح
لهم بالتواجد في مركز الاقتراع. لذلك استدعى الأمباشى "روكوسا" ليباشر
مهام العملية الانتخابية بينما عاد هو إلى مسكنه.
إكتشف الأمباشى ما دبره المرشحان الآخران ضد زعيم القبيلة، فقد وعدوا
أفرادها بدفع مبلغ خمس شلنات لكل من يعد بالإدلاء بصوته لصالحهما لعلمهما بحب
أفراد القبيلة للمال. لكنهما لم يتركا الحبل (مطلوق)، بل طلبا من كل ناخب أن يذهب
إلى مكان الاقتراع ليحصل على بطاقة التصويت، ولكن لا يدخلها في الصندوق بل يخفيها
ويسلمها للمرشح. الخطوة التالية هي أن يجمع كل مرشح ما تحصل عليه من بطاقات وحين
يأتي دوره في الاقتراع يدخلها بنفسه في الصندوق.
راقب الأمباشى (روكوسا) الموقف عن كثب، واستلم أفراد قبيلة بني حنظل
أموالهم من المرشحين الاثنين، بعدها قرر الأمباشى التدخل المباشر باقتحام موقع
(عاقل القوم) وضبط البطاقات وأخذها بعد تهديده بفتح بلاغ ضده بالتزوير، وأخبره بأن
من وشى به هو (الستار الحديدي). وفعل ذات الشيء مع (الستار الحديدي)، ثم ذهب
الأمباشى ليدلي بصوته هو الآخر حاملاً كل تلك البطاقات وأفرغها في الصندوق الخاص
بزعيم القبيلة، وعندما اطمأن إلى امتلائه وضمان فوزه (بعد خجه)، وزع بقية البطاقات
على الصندوقين الآخرين. وأرسلت الصناديق إلى اللجنة العامة للفرز.
بعد عدة أيام وصلت برقية تؤكد فوز زعيم القبيلة جاء في خاتمتها
"انقلوا لكافة المعنيين شكر وتقدير اللجنة للطريقة التي تم بها تنفيذ توجيهات
وتعليمات اللجنة، خاصة في تلك الدوائر النائية التي تعتذر اللجنة عن عدم توفير
مشرفين لها لتنظيم الانتخابات لصعوبة المواصلات قف. إن العدالة والكفاءة اللتين
أديرت بهما الانتخابات هما بفضل كفاءة وتفاني الإدارة والناخبين. انتهى."
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق