قوى التغيير وإسقاط النظام

أمير بابكر عبدالله

وقع الدكتور الواثق كمير في شركين أثناء محاولته تقعيد أطروحته لمستقبل التغيير ومآلاته في السودان في مقاله القيم الموسوم "إلى قوى التغيير .. هل نعيد اختراع العجلة؟!" وقبل محاولة توصيف تلك الشراك أثمن عالياً ودائماً ما يكتبه د. الواثق لأنها كتابة تستفز العقل ولا تخضع للعواطف في كثير من مناحيها، ولانطلاقها من موقع المسؤولية الأخلاقية تجاه قضايا الوطن والحرص على تعافيه من كل الأمراض التي ألمت به. كما إنها كتابات لا تنطلق من منصات التعصب الأعمى، بل تتلمس ما هو ضروري وفي ذات الوقت ممكن وذاك لعمري هو فن السياسة.

كثير من الحيثيات التي بذلها في مقاله التي تشير إلى ضعف المعارضة وقلة حيلتها في تحقيق التغيير المنشود على طريقتها، ووفقاً لما تشتهيه، لامست عصب الحقيقة. لكنه وقع في الشرك (الفخ) الأول الذي ظلت تنصبه الآلة الدعائية للمؤتمر الوطني وحكومته في خطابها عن المعارضة وحربه عليها، ونجحت إلى حد كبير في ذلك. فتحت عنوان فرعي "قوى المعارضة وإسقاط النظام" كتب د. كمير " فمثلاً، ودون تشكيكٍ في دور ومساهمة هذه الأحزاب في ثورتي أكتوبر وأبريل، إلاَّ أن هذه الأحزاب لم تصنع الانتفاضة الشعبيَّة في الحالتين، كما لم تكُن الأحزاب السياسيَّة في مصر أو تونس قد خطَّطت لتنظيم الانتفاضة، أو حتى نادت بها، أو جعلت إسقاط النظام شعاراً لها، إلاَّ بالطبع بعد أن أضحَت الكتابة واضحة على الجُدران. وأيضاً لم تُبادِر بإشعال أو قيادة الثورة الشعبيَّة في البلدين، بل التحقت الأحزاب بعمليَّة الانتفاضة، بعد أن اشتعل الشارع، وصمَّمت الجماهير على الإطاحة بالنظام. لذلك، فكُل التجارب المُقارنة تؤكِّد على أن الأحزاب السياسيَّة ليست هي التي تُسقِط الأنظمة الحاكمة الاستبداديَّة والقمعيَّة، ولكن الشَّعب، بقُواه المدنيَّة المتعدِّدة، هُم الذين يتحمَّلون دائماً مسئوليَّة الإطاحة بالأنظمة الديكتاتوريَّة العسكريَّة، من خلال الانتفاضات الشعبيَّة. وأكرِّر، أن تجربتنا في 1964 و1985، وكذلك تجارب الربيع العربي تدُلُّ بوضوحٍ على أن الأحزاب السياسيَّة لا تقرِّر الانضمام إلى الثورة في الشارع، إلاَّ عندما يتبيَّن لها أن سقوط النظام الحاكم قد بات وشيكاً."

الأحزاب ودورها

الأحزاب على علاتها ومشاكلها ظلت على الدوام في مواجهة مع الأنظمة الدكتاتورية على المستويين الفكري والنضال اليومي بصيغه المتعددة. وإذا كان مشهد الثورة الأخير، تلك الإيام الفاصلة قبل سقوط النظام الديكتاتوري، ترسم ملامحه تلك الجموع الهادرة من الجماهير، فإن الأحزاب عملت على التحضير لتلك الأيام لسنوات طوال في صبر وتضحيات من خلال عمل يومي تراكمي ترتفع درجاته وتنخفض لكنه لا يتوقف. والأنظمة الدكتاتورية والشمولية تدرك الدور المؤثر للأحزاب لذلك تنص أول المراسيم الدستورية على حلها واعتقال قادتها وتسن القوانين التي تحظر نشاطها وحريتها.

ظلت حكومة المؤتمر الوطني تقلل من دور الأحزاب وقدرتها على قيادة الجماهير، وتحاول تصويرها في موقف العاجز عن الفعل، وهذا من طبيعة الأشياء. لكنها ظلت أيضاً تخشاها، فهي تدرك تماماً خطورتها. وإذا كان المشهد قبل التوقيع على إتفاقية السلام الشامل 2005، يمثل الصورة الحقيقية والمباشرة والمعروفة للنظام الشمولي في تعمله مع الأحزاب ورغم ذلك لم تمت الأحزاب و(تدفن في مقابر أحمد شرفي)، فإن ما بعد توقيع الاتفاق شهد استماتة المؤتمر الوطني في الحفاظ على بقاء نظامه السياسي وبالتالي بقائه، إذ استمرت القوانين المقيدة للحريات وتقييد النشاط الحزبي إلى أقصى مدى ممكن وتعويق التواصل بين الأحزاب ومناصريها ناهيك عن الجماهير عموماً، هذا غير العمل المتواصل على شق صفوفها وانقسامها واختراقها. كل ذلك جرى تحت سمع وبصر الدستور الانتقالي ووفقاً للقوانين التي أجازها البرلمان الانتقالي الذي سيطر عليه المؤتمر الوطني بموجب تلك الاتفاقية.

الأحزاب السياسية بجماهيرها، قلت أو كثرت، هي جزء من الحراك الجماهيري العام، ومؤسساتها وعضويتها تتحرك بقوة دفع مؤثرة تتفاعل مع ما حولها من مؤسسات اجتماعية ومدنية وتؤثر في محيطها مثلما تتأثر به. نموذجاً لذلك الحراك الشبابي العريض الذي انتظم المشهد السياسي وبلغ قمته في سبتمبر الماضي لم تكن الأحزاب بشبابها بعيدة عنه، رغم محاولات حكومة المؤتمر الوطني وآليته الإعلامية فصل هذا النشاط عن الأحزاب ومخاطبته على اعتبار أن لا علاقة للأحزاب بذلك، فالأحزاب وشبابها هي من كانت المبادرة لذلك النشاط، ولكنها لا تستطيع الإدعاء باحتكاره. فالأحزاب لا تقود الجماهير كالقطيع، بل تسعى إلى تمليكها الوعي، الوعي بقضاياها وبوسائل تحقيقها.

إن قراءة ضعف الأحزاب ومشكلاتها الداخلية بمعزل عن ما واجهته من حروب في ظل أنظمة دكتاتورية وشمولية استهدفت بقاءها قرابة النصف قرن من جملة سنين الاستقلال، يقود إلى نتائج (يائسة) من خير فيها. رغم ذلك يظل القول بضرورة إصلاح حالها وبناء مؤسساتها على أسس ديمقراطية وتفاعل قياداتها مع قواعدها هو المفتاح لمستقبل التحول الديمقراطي وبناء النظام السياسي الديمقراطي في السودان بديلاً لنظام الحزب الواحد.

الفخ الثاني

الشرك (الفخ) الثاني الذي وقع فيه الدكتور الواثق كمير هو توصيف إسقاط النظام باعتباره نهاية حزب المؤتمر الحاكم، لذلك يضع كثير من المحاذير التي تعترض هذا الاتجاه. وهو شرك نصبه المؤتمر الوطني وحكومته، لتغبيش الرأي العام والتشويش عليه، في سبيل التمسك يالنظام السياسي القائم. إسقاط النظام من وجهة نظر المؤتمر الوطني تعني فقدانه لمراكز السيطرة على الدولة لإدارة مصالحه الحزبية، لذلك ظل يستميت دفاعاً عن نظامه وهجوماً على الآخرين الساعين لإسقاطه.

لكي نتبين ملامح الشرك الذي نصبه المؤتمر الوطني حول مفهوم إسقاط النظام، لابد من إلقاء نظرة على النظام السياسي القائم ومن ثم الحديث عن لماذا إسقاطه ووسائل ذلك. كتبت في مقال سابق (إيديولوجيا الدولة .. عنف السلطة)  أننا "أمام دولة مؤسسة على أيدلوجيا أحادية لتحقيق مصالحها، يحرسها العنف من خلال أجهزة رسمية وغير رسمية، وبقوانين تحكم عملها فصلها (ترزي قانوني) وحدد علاقتها بأجهزة الدولة الأخرى. الكل يعلم.

إذاً هو استلاب كامل قد حدث لكل مقومات الدولة القومية التي تتيح مؤسساتها استيعاب الآخر، سياسة وثقافة وتنمية، ويحرم أي تلاقح يفرخ رؤى مغايرة تحدث شرح في الجدار الأيدلوجي الأسمنتي الذي صبته الانقاذ بواسطة خيرة مهندسيها. ولأنهم خيرة مهندسيها، لم يتركوا الجدار يقوم على قوائم صلبة فقط، بل وضعوا مصدات تمنع بلوغ قشرة ذلك الجدار، ترسانة من القوانين المقيدة للحريات، أجهزة تنفذ تلك القوانين (كلُّوا بالقانون)، ولكن أي قانون؟."

النظام السياسي، وبهذا التوصيف، هو الواجب إسقاطه وإزالته وإحلال نظام سياسي بديل يستوعب التعدد السياسي والتنوع الثقافي الذي يتسم به السودان. وهو النظام الذي يتمسك به ويخشى زواله الحزب الحاكم "المؤتمر الوطني"، لذلك يروج لفكرة أن إنهيار هذا النظام يعني إنهيار الدولة السودانية بكاملها. وله الحق في الترويج لذلك لارتباط مصالحه وحمايتها ببقاء الوضع (على ما هو عليه).

المؤتمر الوطني ليس كأحزاب السلطة التي شكلتها مراسيم دستورية، فهو قد يبدو في ظاهره كذلك، لكن حقيقة الأمر إنه جبهة أو حركة أو كنلة سياسية نجحت الحركة الإسلامية في تشكيلها بعد إستلامها السلطة بعد نجاح إنقلابها العسكري وساعد على تقويتها إنفرادها بالسلطة، مثلما نجحت في فترات سابقة في تشكيل جبهات وتكتلات سياسية في حقب سياسية مختلفة (جبهة الميثاق، الجبهة القومية الإسلامية) وهي بعيدة عن السلطة. لذلك تظل الحركة الإسلامية هي العمود الفقري للحزب الحاكم وعصب حركته، وهذا ما نجح فيه الدكتور حسن الترابي فيما رسبت القوى الديمقراطية في التواضع على جسم سياسي موحد – طوال تاريخها - يحقق غاياتها.

تفكيك النظام، تغيير النظام، إسقاط النظام كلها وجوه لعملة واحدة تستهدف في المقام الأول الانتقال من مرحلة سيادة دولة الحزب الواحد، التي كرست لها الحركة الإسلامية ببرنامج واضح الأهداف بحيث يصبح أن لا فرق بين الدولة والحزب، إلى بناء دولة مؤسسات بدلاً عنها، وهناك فرق شاسع بينهما. وبالتالي هو لا يستهدف الأحزاب بما فيها الحزب الحاكم (المؤتمر الوطني بتوصيفه السابق)، بقدرما يسعى إلى أن تكون مؤسسات الدولة قومية تخدم كل السودانيين وليس حزباً واحداً. مؤسسات الدولة التي استباحتها سياسة وبرنامج التمكين، وانتهكت قوميتها بالمحسوبية والقبلية. وهذا لن يتأتى إلا بتفكيك، إسقاط، إزالة نظام الحزب الواحد لصالح النظام الديمقراطي التعددي.

إذا اعتبر الحزب الحاكم ان العمل المسلح يهدف لإسقاط النظام وأن الانتفاضة الشعبية هي وسيلة أخرى لإسقاط النظام، وكلها (سنعتبرها) وسائل غير مشروعة ويمكن أن تدخل الدولة في مآزق إضافية تودي بها، لنصل إلى آخر نقاط الدكتور كمير قبل الخاتمة " هذا هو السيناريو الوحيد الذي من شأنه أن يُنقِذ البلاد من الانزلاق إلى الفوضى، ويحُولُ دون انهيار الدولة، ويحافظ على وحدة أراضي السُّودان. ويُفترضُ أن يتم التحوُّل الديمقراطي سلمياً بتوافُق كل القوى السياسيَّة، بالطبع بما في ذلك المؤتمر الوطني، وقوى التغيير الآخرين، خاصة الشباب (نساء ورجال)، دون إقصاءٍ أو استثناء، على مشروع للتغيير يُفضي إلى الانتقال من هيمنة الحزب الواحد إلى التعدديَّة السياسيَّة نحو بناء دولة المواطنة السودانيَّة التي تحترم التنوُّع. ويُشكِّل هذا التحوُّل هدفاً رئيساً لاتفاقيَّة السلام، والذي فشل الشريكان في الحُكم، خاصة المؤتمر الوطني، وبقية القوى السياسيَّة، في تحقيقه خلال الفترة الانتقالية."

لأقول هنا، هذا بالضبط ما أعنيه بإسقاط النظام، فإن تحققت تلك الغاية عن طريق الحوار والتوافق السياسي (مشروع للتغيير يُفضي إلى الانتقال من هيمنة الحزب الواحد إلى التعدديَّة السياسيَّة نحو بناء دولة المواطنة السودانيَّة التي تحترم التنوُّع)، فهذا يعني سقوط النظام السياسي القائم الآن على قواعد الحزب الواحد. ويعني بالضرورة مشاركة المؤتمر الوطني في صياغة ملامح المستقبل السياسي مع الآخرين وعليه الاجتهاد (بقدراته كحزب سياسي) مثل الآخرين للوصول إلى سدة الحكم، ولا زلت مصراً على التساؤل بأن حزباً يدعي قادته أن عضويته تصل إلى عشر ملايين، وأن مؤتمراته يمولها من عضويته و(استثماراته) وسنغض الطرف في الأخيرة عن قانون الأحزاب الذي أجازهن ولن نسأله أن يكشف لنا عن استثماراته التي تدر عليه المليارات، ونكتفي بالتساؤل (لماذا يخشى حزب بهذا العدد من العضوية وهذه القدرات المالية المهولة العيش تحت ظل نظام ديمقراطي تعددي يأتي بالانتخاب الحر والشفاف؟) وكما يقول دكتور البوني إنا ما بفسر وغنت ما تقصر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق