في سيرة الشيخ أحمد أبوسن

عكف صديقي، الباحث والمختص في علم النفس السريري، مجدي سيد أحمد ميرغني على ترجمة كتاب لا غنى عنه للباحثين في تفاصيل تاريخ السودان وللمهتمين بعلم الاجتماع والانثروبولوجيا. أرسل لي كل الفصول التي ترجمها من مقر إقامته في كندا ليقحمني في عالم ينبض بالحيوية وكثافة المعلومات الجديدة. اسم الكتاب "روافد النيل الحبشية" الذي وثق فيه الرحالة "صمويل بيكر" تفاصيل رحلته لاكتشاف منابع النيل في رحلة طويلة فيها من التشويق والمغامرة ما يوازي حجم المعلومات ووجهات النظر التي سطرها بين ثنايا الكتاب. ما ذكره بيكر عن شيخ أبو سن في الفصل السادس يمثل نموذجاً لتفاصيل كثيرة جاءت بين طيات الكتاب عن الأماكن والقبائل والجغرافيا.

يكتب صمويل بيكر عن شيخ أبوسن "بينما كنت منهمكاً تماماً في عمل بعض الترتيبات المختلفة والضرورية في الخيام، عاد محمد، وأعلن عن وصول الشيخ أبوسن شخصياً، يرافقه العديد من الوجهاء، وعندما تقدم عبر أشجار السنط النضرة الإخضرار، راكباً على هجين رائع، في بياض الثلج، أُخذت تماماً بمظهره الوقور والجليل. عندما أوشك أن يصلنا، تقدمت للقائه، ولمساعدته على الترجل من جمله، لكن حيوانه ناخ مباشرة، بأمر منه، وترجل هو بيسر ورشاقة رجل في العشرين من عمره.

إنه أكثر تجسيد مهيب للعربي، رأيته على الاطلاق. على الرغم من أن عمره كان قد تجاوز الثمانين، إلا أنه كان منتصباً كرمح، ولم يبد عليه أن عمره تجاوز الخمسين أو الستين، كان ذا بنية هرقلية، طوله حوالي ستة أقدام وثلاثة بوصات، له صدر وكتفان هائلة العرض، وأنف مقوسة بصورة استثنائية، وعينان كعيني الصقر، تحت حاجبين كبيرين وشعثين، لكن مكتملي البياض، وذقن أبيض كالثلج، كثٌ جداً، يتدلي إلى ما بعد منتصف صدره. كان يرتدي عمامة بيضاء كبيرة، وعباءة، أو روباً طويلاً، من الكشمير الأبيض، سابغة من الحلق إلى الكاحلين. كان فخماً كشيخ صحراء جليل، ولو كان لنا أن نجسد سيدنا إبراهيم على رأس قومه، لكان هذا الشيخ هو منتهى الكمال الذي يمكن أن يصوره الخيال. هذا العربي الكبير والعجوز، أصر بكل التهذيب أن نرافقه فوراً لمضربه، حيث لا يمكنه السماح لنا بالبقاء في بلده كأغراب. لم يتقبل أي أعذار، بل أمر محمد فوراً بإعادة حزم متاعنا، وفك الخيام، بينما رجونا أن نمتطي هجينين أبيضين، فخمين، بسروج مبطنة بقماش فارسي أزرق، من صوف الخراف "بسط أو سجاد"، والتي جهزها الشيخ فوراً عندما علم من محمد بجمالنا البائسة. نزعت الخيمة، وانضممنا لضيفنا الجليل، مع صف من المرافقين المتوحشين، لكن الراكبين في عظمة، والذين تبعونا إلى مضرب الشيخ.

بين حاشية الشيخ الهرم التي رافقناها، كان هنالك عشرة من أبنائه، بعضهم بدا تماماً في عمر والده. كنا قد سرنا لمسافة ميلين تقريباً، عندما التقينا فجأةً بحشد من الرجال الراكبين، مسلحين كالعادة؛ بالسيوف والتروس، العديد منهم كانوا على ظهور خيول، والآخرون على هجن، وشكلوا معاً صفوف موازية لخط تقدمنا. هؤلاء هم قوم أبوسن، الذين تجمعوا ليقدموا لنا الترحيب التشريفي، بوصفنا ضيوفاً لشيخهم، احتوى إتيكيت "آداب السلوك" العرب هذا على العدو فرادى، بأقصى سرعة، أمام خط التقدم، حيث يعدو الراكب ويلوح بسيفه، جاذباً في نفس الوقت عنان الفرس، جاعلاً ثقله على كفليه، بحيث يدفعه لتوقف مفاجئ. هذه الحركة أداها حوالي مائة فارس، على ظهور الخيل والهجن على السواء، ثم تراجعوا ليصطفوا خلف جماعتنا، وهكذا في رفقة هذه الحماية، وصلنا سريعاً لمضرب العرب. في كل أنحاء البلد، يتم اظهار حرارة الاستقبال بالهرج - تجمعت الجيرة كلها لمقابلتنا – مجاميع من النساء أطلقن صرخاتهن الحادة "الزغاريد،"، والتي تتردد في الفرح والكره بنفس الصورة، قُرعت الطبول، واندفع الرجال، بسيوفهم المجردة، منهمكين في محاكاة أوضاع القتال، وفي خضم هذه الضجة والفوضى، توقفنا، وترجلنا. بسلوك مميز السمو، أعان الشيخ الهرم زوجتي على الترجل، وقادها إلى عريشة مفتوحة، رتبت فيها بعض "الأسرة"، المفروشة بالسجاد الفارسي والوسائد، في صورة ديوان "قاعة استقبال". سريعا ما قدم لنا الشربات، والقهوة، والغلايين.

محمد، بوصفه الترجمان، ترجم تبادل المجاملات المعهودة، وأكد لنا الشيخ، أن وصولنا غير المتوقع بين ظهرانيهم، هو (نعمة كطلة قمر جديد)، وعمق هذه العبارة، لا يمكن أن يفهمه من لم يجرب الحياة في الصحراء ، حيث يستقبل الهلال الأول الواهي بكثير من الحماسة. بعد محادثة طويلة، تم أخذنا إلى خيمة ممتازة من الحصير، أخلاها لنا أحد أبناء الشيخ، وسريعاً بعدها، أرسل لنا عشاء رائع، مكون من عدة أطباق، وبذوق رفيع، تركنا لوحدنا، دون ازعاج الزوار، حتى الصباح التالي. وشُرِّف رجالنا بخروف سمين، أهداه لهم الشيخ، فنام الجميع راضين.

زارنا أبوسن مع شروق الشمس، وبدا أنه، وبعد محادثة مساء البارحة، قد استعلم من محمد بصدد خططي المستقبلية ومقاصدي، لقد أتى الآن خصيصاً كي يناشدنا أن لا نواصل جنوباً في هذا الموسم من العام، حيث يستحيل إطلاقاً السفر، وقد وصف الشيخ البلد بأنها كتلة من الطين، زادتها الأمطار عمقاً، ولا يمكن لحيوان التحرك فيها، وأن الذبابة المسماة (السيروت)  قد ظهرت، والتي لا يمكن لحيوان أليف، ما عدا الماعز، أن يبقى حياً جراء هجماتها، وأعلن أن مواصلة رحلتنا سيكون محض جنون،  وختم حديثه، مقدماً لنا أكثر الدعوات كرماً، لمرافقة قومه في طريقهم نحو البلد ذا الظروف الصحية الأفضل؛ قوز رجب، وأن نصبح ضيوفه لثلاثة أو أربعة شهور، إلى أن يصبح السفر ملائماً في الجنوب، وحينها، وعد الشيخ، بأنه سيساعدني في استكشافاتي، بمجموعة من قومه، الذين هم صيادو أفيال شهيرون، يعرفون كل البلد الممتد أمامنا. هذا كان برنامجاً مغرياً، لكن، بعد أن شكرته على لطفه، شرحت له؛ كيف أنني أكره ان اتراجع بخطوي القهقري، الشيء الذي سأفعله لو عدت لقوز رجب، وأنني سمعت بألماني يعيش في قرية تسمى الصوفي ، على نهر عطبرة، وأنا أفضل أن أمضي موسم الأمطار في تلك المحلة، حيث يمكنني أن اجمع المعلومات، وأكون جاهزاً على الأرض للتحرك لبلاد البازا المجاورة، حالما يسمح تغير الموسم بذلك. بعد شيء من التردد، وافق على هذه الخطة، ووعد ليس فقط بمدنا بالمطايا، بل بإرسال جماعة حماية معنا، على رأسها أحد ابناؤه الكبار. كانت الصوفي على بعد ثمانية وسبعون ميلاً تقريباً.

كان أبوسن قد أكمل ترتيباته للتوجه شمالاً في اليوم التالي، لذا وافقنا على قضاء اليوم في مضربه، والتوجه للصوفي في الصباح التالي. الأرض التي أقيم عليها مضرب العرب كانت جيدة التسطح، وكأنها رفاً "من الصخور المسطحة" على منحدر وادي العطبرة، حوالي ثلاثين، أو أربعين قدماً تحت مستوى أراضِ السهل الخصيب، وكان سطح هذه الأرض متماسكاً تماماً، حيث أن الأمطار جردته تماماً من الطَفل، الذي شكل الطبقة العليا. كل هذا شكل مكاناً ساحراً لمضرب جماعة كبيرة، حيث كان السطح نظيفاً جداً، وهو خليط من حصى الكوارتز والصخور الرملية الصلدة. ووفرت الكثير من أشجار السنط ظلالاً، جلس تحتها العرب في مجموعات، وفي بطن الوادي تدفق العطبرة.

الشيخ العظيم أبوسن، الذي ربا على الثمانين من العمر، قامته في استقامة السهم، هو تجسيد تام لهرقل، ابناؤه وأحفاده في عدد رمل شاطيء البحر، تعود أن يتعاطى يومياً، وعلى امتداد حياته، رطلين من الزبد السائح. بوقت قصير، قبيل مغادرتي البلد، تزوج "الشيخ أبوسن" زوجة جديدة شابة، في حوالي الرابعة عشر من العمر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق