أسمريت .. فتاة في المزاد السري - 7

من وحي قصص تهريب واختطاف البشر في شرق السودان
هذه السلسلة هي تحقيق كتب في العام 2013 ونشر في جريدة الخرطوم، وهو مبني على قصة حقيقية عشت جزءاً كبيراً من تفاصيلها بين مدينتي كسلا والخرطوم، مع تغيير أسماء الشخوص.
(20)
التطورات الأخيرة وتحول الظاهرة إلى إختطاق أزعج كثيراً السلطات الأمنية في منطقة شرق السودان، وبدا واضحاً لها إن بعض منسوبيها متورطون في عمليات التهريب والاختطاف والبعض كان ينتسب في وقت سابق إليها وآخررون يدعون الانتساب إليها. لذلك كان عليها بذل مجهود أكبر لحصار الظاهرة ومحاربتها. فتلك العمليات التي تجري تتطلب اختراقاً من قبل عصابات التهريب والاختطاف وسط بعض ضعاف النفوس من منسوبي تلك الأجهزة لإستغلال سلطاتهم في التغطية على تلك النشاطات مقابل مبالغ مالية مجزية، وهو ما أثار القلق لدى تلك الأجهزة.
الصورة: معسكرات اللجوء بؤر لنشاط عصابات الإتجار بالبشر
فالعصابات لديها من الإمكانيات والأجهزة والسيارات والأسلحة ما يمكنها من القيام بنشاطاتها وباكتمال تلك الجزئية المتعلقة بالتغطية و(تسليك الطريق) أمام حركتها تستطيع القيام بعملياتها في إطمئنان أكثر.
رغم نجاح السلطات الأمنية في القبض على بعض منفذي حالات التهريب والاختطاف إلا أن العمليات لم تتوقف. بل صارت ظاهرة مقلقة من كثرة تناولها بواسطة وسائل الإعلام المختلفة، مما دفع بولاية كسلا لإصدار تشريعات قانونية متشددة لمواجهتها، واسترعت انتباه المفوضية العليا للاجئين التابعة للأمم المتحدة مما اضطر المفوض السامي لزيارة مدينة كسلا للوقوف على حقيقة الظاهرة بنفسه ومناقشة محاربتها مع المسؤولين.
بطبيعة الحال إختراق تلك العصابات، وبما يتوفر لديها من أموال وقدرات، للأجهزة الأمنية وشراء بعض ضعاف النفوس فيها ليس بالغريب ويدخل ضمن برنامج عملها. ففي ليبيا كان أغلب السماسرة الناشطين في تهريب البشر والاتجار بهم من منسوبي أجهزة الأمن والشرطة، إذ يستلمون الضحايا ويحتجزونهم في بيوت خاصة ويرغمونهم على الاتصال بذويهم لتوفير مبالغ كبيرة مقابل إطلاق سراحهم. الذين يدفعون الفدية يتم نقلهم إلى مدن الساحل لتتولاهم مافيا مهمتها ترحيلهم عبر البحر إلى سواحل إيطاليا وجزيرة لامبيدوزا مقابل ألف إلى الفين دولار للرأس الواحد.
وفي مصر –قبل الثورة وبعدها- تورط ضباط أمن مصريين في تلك العمليات المتعلقة بتهريب البشر إلى إسرائيل، الذين يرتبون للراغبين في الهجرة السفر إلى سيناء أو العريش بإدعاء العمل في فنادفها، ليستعينوا بالبدو في مهمة ترحيلهم إلى قرب الحدود الاسرائيلية لينجحوا في اجتيازها أو تلتقطهم نظارات القناصة لتصيبهم طلقاتهم في مقتل.
(21)
بدت الصورة واضحة لدى أسمريت وهي تستمع إلى قصة الفتاة والشاب الذين كانا قد سبقوهما في المنزل المحتجزين داخله. كانا من ضمن اللاجئين الأرتريين المقيمين في معسكر شقراب منذ أكثر من عام في انتظار إجراءات إعادة التوطين. ومعسكر شقراب –الذي تشرف عليه مفوضية شؤون اللاجئين، كور- يعتبر من أكبر المعسكرات التي تستوعب تدفقات اللاجئين المتواصلة على شرق السودان، حيث يتم فيه إجراءات الفحص للقادمين واعتمادهم كلاجئين ومنحهم بطاقات للحماية.
المعسكر المفتوح يفتقر للضوابط الأمنية ويختلط فيه اللاجئون بالسكان الذين تربطهم مصالح تجارية بسوق المعسكر، مما جعل الدخول إليه والخروج منه غير قابل للضبط من قبل القوى الأمنية قليلة العدد المناط بها حراسة المعسكر. تلك بقعة من الأرض مغرية بالنسبة لعصابات تهريب البشر في المرحلة الأولى حيث نشط فيها السماسرة الذين يتولون تسهيل خروج اللاجئين من المعسكر للجهات التي يقصدونها سواء إلى داخل المدن السودانية الكبرى أو السفر إلى اسرائيل.
المعسكر بأعداده الكبيرة التي تصل إلى عشرات الآلاف، يفتقر إلى أبسط مقومات الحياة الكريمة، خاصة في السنوات الأخيرة، ورغم الجهود الكبيرة التي تبذلها منظمات العمل الطوعي والمفوضية العليا للاجئين التابعة للأمم المتحدة بتواجدها المكثف في الشرق لهذا الغرض، لكن الوضع يزداد سوءاً داخل المعسكر بسبب الأعداد المتزايدة وتراجع الخدمات. وهو ما يضطر السلطات المختصة منح الكثير من اللاجئين أذونات عمل في المناطق القريبة لتحسين اوضاعهم المعيشية، والبعض يخاطر بمغادرة المعسكر المفتوح للبحث عن فرص عمل وإقامة في المدن التي يعملون فيها دون إذن من السلطات.
الفتاة والشاب تم اختطافهما قبل يومين من داخل معسكر شقراب، ولا يدري أحد منهما السبب، لكن الشبكة تعلم إنهما سيجنيان من ورائهما مبالغ طائلة وذلك للمعلومات التي رصدوها عنهما التي تفيد بعلاقتهما بذويهم الموجودين في أوربا. هذه النقطة الأكثر إغراءاً في سجلات المخطوفين.
لم يكونا أول مخطوفين من داخل المعسكر، بل تحولت إلى ظاهرة أثارت قلق المنظمة الدولية والسلطات الأمنية لما صاحبها من أعمال عنف متبادل، بعد أن قرر اللاجئون حماية أنفسهم في الفترة الأخيرة.
(22)
اكتمل إجراء المختطفين الخمس الاتصال بذويهم في مناطق مختلفة في اوربا، وحددت الشبكة مبلغ 25 ألف دولار مقابل إطلاق سراحهم وإعادتهم إلى معسكر شقراب وإلا سيرمونهم داخل الحدود الأرترية لتستلمهم السلطات هناك. وأصاب أسمريت بعض من القلق من قدرة شقيقها محاري توفير المبلغ في الفترة التي حددها الخاطفون. وجرت بعدها اتصالات عديدة بين الشبكة وذوي المختطفين الذيين رفضوا دفع هذا المبلغ في بداية الأمر بحجة عدم قدرتهم على توفيره، ليظهر في المشهد "تسفاي الأول" المقيم في الخرطوم، وهو من الأرتريين المعروفين لدى الخاطفين وكثير من الأرتريين باعتباره ناشط ومتابع لقضايا الاختطاف التي جرت قبل ذلك وساهم في التوسط بين الأطراف المختلفة. علم تسفاي الأول بحادثة اختطاف الخمس بعد أن اتصل به بعض ذوي المختطفين ليشرع في الاستقصاء والبحث عن قناة للاتصال بالخاطفين.
ربما لحسن حظ المخطوفين أن الشبكة تراجعت كثيراً في الآونة الأخيرة جراء محاصرتها وسد منافذ التهريب إلى خارج السودان الذي صار كبير المخاطر وعالي (السعر)، فصارت اكثر مرونة في التفاوض حول المبالغ المالية التي تطلبها فدية لرهائنها. وتحولت إلى احتجاز مخطوفيها في الداخل وإطلاق سراحهم بفدية أو تسليمهم للسلطات السودانية التي كانت محاكمها عادة ما تعيدهم إلى بلدهم وتسلمهم لسلطاتها، وفي أقصى حالات اليأس والتوتر يمكن بكل بساطة أن تقتلهم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق