أسمريت .. فتاة في المزاد السري - 3

تهريب واختطاف البشر في شرق السودان
هذه السلسلة هي تحقيق كتب في العام 2013 ونشر في جريدة الخرطوم، وهو مبني على قصة حقيقية عشت جزءاً كبيراً من تفاصيلها بين مدينتي كسلا والخرطوم، مع تغيير أسماء الشخوص.
(8)
خمسة أشهر مضت وكثير من الروايات التقطتها أذنا أسمريت عن قصص الهروب من المعسكر، قبل أن تكتشف اختفاء إحدى معارفها. عالم آخر بدات تتضح ملامحه، وملعب سري لا علاقة له بالمقامرة كانت تجري فيه مغامرات من نوع آخر والجنرالات منهمكون في ملذاتهم. لا يكترثون كثيراً لظاهرة الهروب التي طالت حتى بعض القيادات الوسيطة، فالحياة مستمرة بالنسبة لهم.
الصورة: ناجية من التعذيب في سينا- موقع سويس إنفو
الهاربون يختفون بمغامراتهم، لولا أن بعضهم لا ينجح في ذلك حين تلقي دوريات الاستخبارات القبض عليهم ويرمى بهم في السجون الحدودية المنتشرة، ومن حظ (أو سوء حظ) الفتيات وصغار السن أنهم لا يقضون وقتاً طويلاً في تلك السجون حيث يعاد تصديرهم إلى معسكر ساوا لقضاء فترة العقوبة المقررة ولتلقي التدريب العسكري بعدها.
هناك عيون أخرى على طاولة أخرى تدار فيها تلك العمليات تراقب حركة المستهدفين، وتستطيع الوصول إلى سجلاتهم في حذر شديد في غمرة الصخب الدائر. وينفتح المشهد على قصص متناقضة، وأحاديث تتنقل في جوف الليل تغري بالهروب دون أن تثير الشبهات. فالواقعون في جحيم قبضة الاستخبارات لم يكملوا الرحلة لخواتيمها، حتى يشهدوا بأنفسهم على ذلك، بينما الدوائر الرسمية تلقي بقصص الرعب على قارعة الطريق أملاً في الحد من ظاهرة الهروب.
(9)
تغير المشهد كثيراً عن سابقه لعوامل كثيرة، حين كانت الصفقات تعقد بين المهربين التقليديين والراغبين في الهروب، وهو ما حاوله محاري شقيق أسمريت على أمل أن يستلم حوالة مالية من إبن عمه الموجود في إيطاليا تعينه على ذلك. وبعد يأسه وفشله في التواصل مع كبروم فضل أن يتصل به بعد وصوله السودان، ظل محاري يرتب لشهور في كيفية تنفيذ عملية الهروب مع زملائه، وجمع كثيراً من المعلومات عن الطرق التي يمكن أن يسلكوها دون أن يقعوا في قبضة حرس الحدود، ولا في قبضة السلطات السودانية.
- علينا الوصول إلى معسكر اللاجئين في ود شريفي.
الوصول إلى معسكر اللاجئين هو طريق العبور إلى الحلام الكبرى لدى اللاجئين منذ أيام الثورة ضد الحكم الأثيوبي، والأحلام الكبرى تتحقق بالسفر إلى أوربا في إطار برامج إعادة التوطين. كانت الحرب الدائرة أيام الثورة سبباً في لجوء أعداد كبيرة من الأرتريين إلى السودان، مما جعل المنظمة الدولية تعتبر السودان منطقة عمل مهم بالنسبة لها في إطار برنامجها الخاص باللاجئين، معتمد في ذلك على اتفاقية جنيف لعام 51 والاتفاقيات الإقليمية الخاصة بذلك.
لكن بمرور الوقت تحول اللجوء، وإغراء الهجرة إلى خارج القارة الأفريقية، إلى هدف جعل من السودان نقطة عبور فرضت إنشاء معسكرات وتكوين مفوضية حكومية خاصة باللاجئين للتنسيق مع المفوضية العليا للاجئين التابعة للامم المتحدة. وزاد الطينة بلة تدهور اوضاع حقوق الإنسان والوضع الاقتصادي والسياسي في إرتريا، لتشهد الحدود موجات هروب توازي تلك التي شهدتها إبان فترة الثورة.
هزم محاري ورفاقه الخوف من تنفيذ عملية الهروب، سيراً على الأقدام، ولكن خوفهم من الوقوع في قبضة السلطات السودانية كان أكبر لاحتمال أن تعيدهم إلى بلدهم مرة أخرى، وهو ما حدث لبعض سيئي الحظ. عشعش ذلك الخوف في أذهانهم رغم حفظهم للمواد الخاصة بذلك في اتفاقية جنيف، حيث أصبح الإلمام باتفاقيات حقوق الإنسان من المواد الثقافية التي يتداولونها سراً. وكلما يطمئنون انفسهم بقراءة الجزء الأول من المادة (33) الذي ينص على " حظر الطرد أو الرد حيث  لا يجوز لأية دولة متعاقدة أن تطرد لاجئا أو ترده بأية صورة من الصور إلي حدود الأقاليم التي تكون حياته أو حريته مهددتين فيها بسبب عرقه أو دينه أو جنسيته أو انتمائه إلي فئة اجتماعية معينة أو بسبب آرائه السياسية". يراودهم الخوف مرة أخرى وهو يرددون "جهرا" الجزء الثاني من المادة التي تشدد "علي أنه لا يسمح بالاحتجاج بهذا الحق لأي لاجئ تتوفر دواع معقولة لاعتباره خطرا علي أمن البلد الذي يوجد فيه أو لاعتباره يمثل، نظرا لسبق صدور حكم نهائي عليه لارتكابه جرما استثنائي الخطورة، خطرا علي مجتمع ذلك البلد."
(10)
كل الحكاوي وحتى همسات القادة العسكريين حول الهروب مرت على أذني أسمريت وهي قابعة في ذلك الركن من تلك السقيفة منهمكة في تحضير القهوة نهاية كل أسبوع أو متى ما استدعاها الجنرال. وكانت تلك الأحاديث الليلية المغرية تتسلل إلى مخدعها، وسجلها مشجع طالما لديها اخ شقيق وأقرباء في أوربا.
هبت من نومها فزعة وهي تتذكر قصة صديقتها التي دفعت مبلغاً يوازي الخمسة آلاف دولار لتهريبها إلى إسرائيل، كانت أمها كثيراً ما ترددها أمامها وهي تضغط عليها للبقاء بجوارها. دفعت هيلين ذلك المبلغ لعصابة مختصة بتهريب البشر ضمن آخرين، حين تحولت لمهنة أكثر إغراءاً وربحاً من تهريب البضائع التجارية. وردت قصتها في كثير من المنتديات بعد أن تناولتها بعض الصحف المصرية حين وجدتها السلطات المصرية هائمة في صحراء سيناء تعاني ما تعاني.
وتبدأ قصتها منذ اتفاقها ذاك وانتظارها إلى أن وجدت نفسها مستلقية داخل صندق لعربة بوكس، مع الآخرين، تغطيها شبكة من حبال غليظة وبجوارهم شخصان ملثمان يحملان أسلحة اوتوماتيكية إضافة للسائق وآخر بجواره. لتبدأ الرحلة بإنطلاق العربة بسرعة الريح عابرة الحدود، لعدد من الساعات لا تتذكره بسبب تلك المعاناة التي كادت ان تدخلها في غيبوبة. وسلكت العربة مسارات يعرفها سائقها جيداً عبر سلسلة جبال البحر الأحمر، ولا يتوقف إلا في نقاط محددة لأخذ قسط من الراحة وقضاء الحاجة وتناول وجبتين يومياً، حيث استغرقت الرحلة ثلاثة أيام. بعدها عبرت العربة الحدود السودانية المصرية والمشهد هو ذات المشهد، تلك السلسلة الجبلية الممتدة على طول الساحل الغربي للبحر.
في نقطة محددة توقفت العربة وسط وادي بين الجبال، وجرت اتصالات بهواتف "ثريا" أسفرت عن تسليم زمام الأمر لمجموعة من بدو سيناء، وتعود العربة راجعة على جناح السرعة وتختفي من الأنظار. وتبدأ رحلة أخرى ومعاناة جديدة، حيث انطلقت العربة الجديدة ليوم كامل ليتغير المشهد كله بعد وصولهم لموقع تبدو عليه آثار حركة محدودة. طلب "الزعيم" من الجميع واحداً تلو الآخر الاتصال بذويهم في أوربا لتسديد مبلغ خمسة آلاف دولار لكل منهم حتى يكتمل الجزء الأخير للعملية. أسقط في يد هيلين والآخرين إلا أن الاتصالات جرت ونجح البعض في العبور إلى الضفة الأخرى ووصلوا إسرائيل، بينما عثرت الشرطة المصرية على هيلين وهي بحالتها المزرية تلك.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق