أسمريت .. فتاة في المزاد السري - 2

تهريب واختطاف البشر في شرق السودان
هذه السلسلة هي تحقيق كتب في العام 2013 ونشر في جريدة الخرطوم، وهو مبني على قصة حقيقية عشت جزءاً كبيراً من تفاصيلها بين مدينتي كسلا والخرطوم، مع تغيير أسماء الشخوص.
(4)
مرت شهور الفصل الحادي عشر ثقيلة على أسمريت في مدرستها الثانوية، قبل أن تنتقل للفصل الثاني عشر وسط احتجاجات أمها بأن تكتفي بذلك القدر من التعليم تفادياً لذهابها إلى (ساوا)، حيث تكمل سنتها النهائية قبل الجلوس للامتحان الذي يؤهلها للدخول إلى الجامعة.
الصور: فتيات في ساوا - مواقع إلكترونية
غير أنها فقدت زوجها في الحرب وإبنها بعيد عنها منذ سنوات، كانت الأم تنظر إلى إبنتها بحواسها الأنثوية وتخشى عليها من تلك الحكاوي التي تسمعها عما يجري هناك.
قالت الأم في توسل ورجاء لإبنتها:
- أخوك بعيد وسأبقى وحيدة إن تركتني وسافرت إلى ساوا، أرجوك لا تذهبي. لأ أريد أن أفقدكم كلكم.
- سأواصل دراستي يا أمي مهما حصل. والحمد لله محاري بيرسل المصاريف كل مرة والحال أفضل من الأول، وهذه المرة أرسل مصاريف ستة أشهر قبل أن يغادر ليبيا إلى إيطاليا، ووعد بأن يرسل أكثر بعد أن يستقر به المقام هناك.
وواصلت :
- سأذهب إلى ساوا لأكمل السنة النهائية وأدخل الجامعة. لا تشغلي بالك بتلك القصص.
- لكنهم قالوا إنهم يختطفون البنات ويبيعونهم، ألم تسمعي بقصة قريبة جارتنا حتى الآن لا يعرفون مصيرها.
- هذا يحدث في السودان يا أمي، انا ذاهبة إلى ساوا وكلها تسعة أشهر وأعود، فالعطلة الشتوية لا يسحمون لنا فيها بمغادرة المعسكر.
(5)
الكل ينتظر بداية الفصل الدراسي ليتحول معسكر ساوا إلى خلية من النحل من كثرة النشاط والاستعدادات التي تجري لاستقبال طلاب الفصل الأخير من المرحلة الثانوية. لكن اللعبة التي كانت تجري داخل معسكر ساوا كانت لها وجوه أخرى غير الفصول الدراسية والتحصيل الأكاديمي، بل كان المسرح يعد لأشياء أخرى.
كان قادة المعسكر مشغولين بإعداد طاولة الكوتشينة للعب على مصير بعض الفتيات المحظيات اللائي انهين دراستهن دون تحقيق نتائج تؤهلهن للدخول إلى الجامعة. فقد جرت العادة أن يتم توزيع الفتيات –بعد ان يكمان الدورة التدريبية العسكرية- على بعض الأقسام الإدارية في المعسكر أو نقلهن للالتحاق بمعسكرات أخرى بتوصية من قائد معسكر التدريب، أما الأخريات فغالباً ما يرميهن حظهن في المعسكرات المنتشرة على الحدود مع دول الجوار ضمن توزيعات القوى العسكرية إلى مختلف المواقع.
توقفت الحافلة التي تقل الطلاب الجدد ومن ضمنهم أسمريت في منتصف ميدان كبير، قبل أن يتم توزيعهم إلى أماكن سكنهم. في تلك اللحظة وقف عدد من مستقبليهم بملابس عسكرية في انتظار ومن بينهم فتيات بقيادة المشرفة على سكن الطالبات، التي كان عليها أن تحدد المحظيات الجدد ومن ثم متابعة إجراءاتهن بتعليمات مباشرة من قيادتها. سبع محظيات التقطتهن عينا الصقر النسوي ولم تخطئ تلك العين أسمريت بقوامها الممشوق ووجهها الصبوح وابتسامتها الخجولة وهي تتجاوز باب الحافلة  نزولاً إلى الأرض، ولم تدرك أنها في هذه اللحظة صارت واحدة من اللائى سيراهن عليهن في المزاد السري على طاولة كبار القادة في المعسكر بعد أن انفض سامر فتيات السنة الماضية.
(6)
رمت المشرفة على سكن الطالبات الورقة التي تحوي أسماء المحظيات السبع على طاولة الكوتشينة التي تحلق حولها قائد المعسكر ونوابه وبعض القيادات العسكرية العليا، وتعلقت ابتسامة شيطانية على وجهها. جرى سحب الورق وإعلان أسماء الفتيات اللائي سيجري بيعهن سراً حتى انقضاء العام الدراسي، فقد كانوا واثقين من المشرفة في اختيارها دون حاجة لمعاينة مباشرة، السعيد منهم من يجدها عذراء لم يمسسها بشر من قبل، وهذا لا تسأل عنه المشرفة.
دفع العقيد قبروميكائيل بحزمة أوراق نقدية بلغت المائتي نقفة مراهناً على فوزه بأسمريت، التي جاءت على رأس القائمة، في أول سحب لأوراق الكوتشينة إذا ما كسب الجولة. تضاعف المبلغ الموضوع على الطاولة سبع مرات بعد أن ارتفعت حماسة المتحلقين حولها، الرابح سيكسب مبلغ الألف وأربعمائة  نقفة، ثم تتوالى الجولات على بقية المحظيات ويتناقص المبلغ بخروج الرابح في الجولة. هكذا تم الاتفاق على صيغة أول مزاد سري تباع فيه الفتيات هذه السنة، وكان هذا أول الأسواق.
(7)
وجدت أسمريت نفسها في آخر أيام الأسبوع، وبعد انتهاء يومها الدراسي تحت سقيفة أمام غرفة العقيد قبرو ميكائيل بعد أن استدعتها إحدى المجندات، ومطالبة بإعداد القهوة على الطريقة التقليدية لمجموعة من الحاضرين، كانت المشرفة تساعدها في التحضيرات اللازمة قبل شروعها في (قلي) البن. لم يدر بخلدها أنها صارت مملوكة طوال هذا العام لسعادة العقيد، بل كانت السعادة تظهر في تقاطيع وجهها وهي تباشر خدمة وضيافة الآخرين، كعادة أصيلة من عادات أهلها، خاصة وأن الحاضرين  يكبرونها سناً بعقود.
مضى الوقت سريعاً وسط أحاديث الحضور وضحكاتهم، إلى ان بدأوا في الانسحاب واحداً تلو الآخر مع انتهاء طقوس القهوة. مع انتهاء آخر آثار الجلسة العامرة، كان ضوء لمبات النيون يخترق الليل الذي أسدل أهدابه على المكان. همست المشرفة في أذن أسمريت:
- أنت محظوظة، ستقومين بخدمة الجنرال هذه الليلة.
ثم أضافت وإبتسامةة ماكرة تعلقت بأطراف وجهها:
- وإذا نجحت في الاختبار ستقومين بخدمته طوال هذا العام.
لم تستوعب أسمريت ما يحدث إلا بعد أن غابت المشرفة عن أنظارها بعد أن ابتلعها الظلام. تذكرت تلك الليلة أمها وتوسلاتها، وجالت بخاطرها صور شقيقها محاري وحبيبها الذي هرب أيضاً قبل عام إلى السودان ولم تسمع عنه شيئاً بعد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق