السودان ليس بعيداً
المرحلة ما بعد ليبيا كشفت بوضوح التحالف المخابراتي العالمي ودوره في صياغة أسس جديدة للعالم المعاصر، تحالف يتميز بإمتلاك المعلومات وتوظيفها وإدارتها لترتيب العالم متجاوزاً كل الحدود السياسية والفكرية والأيديولوجية. ويمكنه في سبيل ذلك أن يصنع او (يصطنع) بنفسه المعلومات لاستخدامها لهذا الغرض إن لم تتوفر له. في نفس الوقت تظل الأحداث جارية داخل الحدود السياسية للبلدان، ولتهتف الشعوب بسقوط الأنظمة أو بسقوط أمريكا، لا يهم، وليضع الرؤساء الدول التي يعادونها تحت أحذيتهم على شاشات الفضائيات وهذا أيضاً لا يهم، ولتتحرك الجيوش هنا وهناك وهذا أيضاً لا يهم طالما ظلت قبضة التحالف المخابراتي العالمي مسيطرة.
إعادة الاستقرار ومحاصرة القاعدة تبدأ بنزع فتيل التوتر في المناطق الملتهبة، والترتيب لنظام حكم مستقر في ليبيا. الوضع في ليبيا يبدأ بدعم موقف المجلس الانتقالي سياسياً لبسط سيطرته على الوضع السياسي في الداخل، وتقويته إقليمياً ودولياً بحيث يكون هو الممثل الشرعي لليبيا خارجياً، ومن ثم وضع الترتيبات اللازمة للسيطرة على المليشيات الإسلامية الكثيرة التي تعتبر بوابة مفتوحة لمشروعات إرهابية قادمة يمثل رأس رمحها تنظيم القاعدة.
السودان ليس بعيداً عن هذا الحلف، بل في قلبه، طالما ظل بموقعه الاستراتيجي وبما يجري فيه من احداث لها تأثيرها على الإقليم والعالم. وهذا ليس بسر نذيعه ونتباهى بامتلاكنا له عن مدى تعاون جهاز المخابرات الوطني السوداني مع اجهزة مخابرات دول أخرى بما فيها الCIA، وإنما سقناه من تصريحات ادلى بها قيادات الجهاز أنفسهم. وبالرغم من كون السودان يمثل، في ظاهره، أرض خصبة يمكن ان ينمو فيها تنظيم مثل القاعدة ويتمدد إلى دول أخرى في المحيط الإقليمي لطبيعة عدم الاستقرار التي لازمته طويلاً وانتشار التيارات الدينية السلفية والمتشددة، بل وتغلغلها داخل نظام الحكم بعد إنقلاب الجبهة الإسلامية القومية في العام 89، إلا أنها تعتبر تيارات غير متجذرة في أصول المجتمع السوداني بتنوعه وتطور علاقاته السياسية والاجتماعية.
إزاء هذا الوضع كان لا بد للسودان أن يكون طرفاً، وأن يستفيد من الوضع القائم في إعادة ترتيب البيت الداخلي في ظل إعادة ترتيب البيت الإقليمي بعد أحداث ليبيا وذهاب نظام القذافي. مقابل المساهمة السودانية كان لابد أن تشمل تلك الترتيبات السودان. على المجتمع الدولي أن يبدو أكثر مرونة تجاه النظام في الخرطوم في عدة محاور، أولها محور السلام وقضية دارفور التي ظلت تقض مضجعه، وثانيها جرح انفصال الجنوب وتداعياته بما فيه جبهة الحرب الجديدة في جنوب كردفان والنيل الأزرق.
العلاقة بين ليبيا ودارفور ليست وليدة بداية الحرب فيها بين الحكومة والحركات المسلحة مطلع الألفية الثالثة، وظلت تتأثر دوماً بعلاقة الخرطوم وطرابلس أثناء فترة حكم القذافي تصاعدا وهبوطا. وكان لليبيا اليد الطولى في دعم الحركات الدارفورية المسلحة –أو على الأقل بعضها- مما قوى من شوكتها وتسببها في صداع دائم للنظام في الخرطوم. وشهدت الفترة منذ فبراير 2002 تصاعداً مستمراً للعمليات العسكرية بين الطرفين، بالرغم من محاولات الإختراق التي يبذلها المجتمع الدولي في سبيل تحقيق السلام، لكن السلاح المتدفق والمساحات الميدانية والإقليمية والدولية التي كسبتها الحركات المسلحة، وتبني الحكومة للمنهج العسكري والأمني في التعاطي مع الأزمة ساهما في تفاقم الوضع وتصاعد وتيرة القتال.
مع التطور الجديد في ليبيا ونهاية حكم القذافي، والمخاوف التي بدأت تقض مضاجع المجتمع الدولي بسبب الإنفلات الكبير في ليبيا وتسرب كميات كبيرة من الأسلحة داخلها وعبر حدودها إلى دول الجوار، إضافة للهاجس الدائم منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر والخوف من القاعدة في ظل توفر كثير من المعلومات عن نشاطاتها في تلك المنطقة ووجودها في ليبيا نفسها، كان لا بد من إعادة ترتيب الأوضاع الأمنية لتشمل كل الإقليم بما في ذلك السودان وبؤره المتفجرة.
المسرح الميداني في دارفور كان أول المتأثرين بإعادة ترتيب الأوضاع الأمنية في الإقليم. وكان للتحركات الأمنية بقيادة مخابراتها الجديد لسد المنافذ أمام محاولات دخول قائد تنظيم القاعدة الجديد "أيمن الظواهري" إلى المنطقة، والتخوفات الغربية والأمريكية المصاحبة للتداعيات الليبية على مصالحها في البترول الليبي وخوفها من لم الشمل "القاعدي" وسواحلها على مرمى حجر من الشواطئ الليبية، أن يدخل السودان ضمن دائرة الإهتمام وفق رؤية جديدة. وجاء ذلك برداً وسلاماً على الحكومة في الخرطوم لتقل بعدها –بشكل ملحوظ- وتيرة الإهتمام التي كانت تسبغها الدوائر العالمية على قضية دارفور، وتضرب الحركات المسلحة في عصبها، ويصبح التعامل مع الخرطوم بخصوص هذه القضية داعماً للخطوات التي تقوم بها حسب رؤيتها للسلام في دارفور.
وبالتزامن مع الأحداث في ليبيا، كان الحدث الأهم في السودان هو الإعداد لإعلان دولة جنوب السودان بعد نتائج الاستفتاء التي جاءت لصالح الإنفصال. وبما أن كل التوقعات كانت تشير إلى حجم المخاطر الإقليمية والداخلية الناجمة عن هذا الحدث، حاول المجتمع الدولي ضمان تجاوزه بشكل آمن كبداية لنهاية النزاعات المسلحة في تلك المنطقة. لكن تاتي رياحه بما لا تشتهي السفن، فقد اندلعت الحرب في جنوب كردفان، بعد إخماد نيرانها في أبيي مؤقتاً وتدخل المجتمع الدولي فيها بقوات أثيوبية. وتمتد نيران الحرب لتشمل منطقة النيل الأزرق، والمنطقتان متاخمتان للحدود مع جنوب السودان.
نشأت أزمتان في آن واحد نتيجة لتداعيات إعلان دولة الجنوب، الوضع المتوتر بسبب القضايا العالقة بين البلدين، وقضايا جنوب السودان الجديد، في مقابل أزمتين في جنوب السودان إحداهما التوتر المشترك والثانية مشكلاته الداخلية المتأزمة (اقتصادياً وأمنياً). المجتمع الدولي أبدى إنزعاجه من تلك التداعيات في وقت هو اكثر حاجة لإستقرار المنطقة. لذلك أظهر رغبته الجادة وعبر تصريحات حاسمة إنه لن يقف إلى جانب العمل المسلح ويرغب في الضغط على كل الأطراف للجلوس للتفاوض.
هذا الموقف أربك حسابات الحركة الشعبية في الشمال، فبالرغم من موقف الجنوب المتعاطف معها –على الأقل- بحكم إنتمائها إلى حركة واحدة قبل خروجها عن الحركة الأم عقب الإنفصال، إلا أن الموقف الجنوبي الجديد سيرتبط بعلاقته مع الشمال ومصالح الدولة الجديدة. وغير هذا فإن سطوة المخابرات العالمية ستشمله دون شك في سبيل إعادة الترتيبات تلك، بل هي بدأت بالفعل بانتشار القوات الأمريكية في المنطقة لمحاصرة جيش الرب اليوغندي.
لكن تلك المخابرات التي ستحكم العالم، لا يهمها من سيحكم البلدان، فهي ربما تكون متصالحة مع النظام في الخرطوم طالما هو مساهم معها في تحقيق برامجها وخططها وأهدافها. وهي ربما لن تدعم أي محاولات لإزالته بالقوة، او كما عبرت الولايات المتحدة بأنها مع إصلاحه في اتجاه التحول الديمقراطي، لكنها لن تقف إلى جانبه إذا ما فرض الشعب رأيه وعمل على تغييره. في هذه الحالة سيتعامل جهاز المخابرات العالمي مع الواقع الجديد مثلما فعل مع العديد من الدول والأنظمة الحاكمة، ليضمن سير خططه في سبيل تحقيق أهدافه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق