المؤتمر الوطني ومأزق الربيع العربي


أمير بابكر عبدالله
استيقظ المؤتمر الوطني على كابوس الثورات العربية، بعد أن نام عشية صبحها مطمئناً بقراءته لكل الأوراد والتعاويذ، واطمأن على يقظة القائمين على أمر حراسته  من شر شياطين المعارضة والجماهير، وبعد أن تأكد ان كل الأنظمة المحيطة به في تمام الصحة والعافية. استيقظ المؤتمر الوطني ليجد إنقلاباً حدث من حوله، داخل بلدان تحكمها أنظمة ما كان لأحد أن يتصور أن تتداعى بهذه الطريقة، وكل منها تداعى على طريقته المميزة.
جاء المؤتمر الوطني –أو للحق الحركة الإسلامية- إلى الحكم وعينه على عدة تجارب ضمنها فصول كتاب "المرشد للحكم الأبدي". نالت التجارب السودانية في مقاومة الأنظمة الاستبدادية حظها الوافر بين طيات تلك الفصول، وتدارس الكتاب تكتيكاتها ومساحات حركتها ومنافذ اختراقاتها وفعالية آلياتها، ووضع لها الخطط المناسبة للتعامل معها، وأصبح من المحفوظات من كثرة تكراره.
لكن ما احتواه الكتاب "المرشد" من فصول كتبت ب"الحبر السري"، وبالتفصيل، جاء عن الأنظمة التي يمكنه الاسترشاد بها في مسيرته نحو الحكم الأبدي، إضافة لما تراكم لديه من خبرات محلية، كانت تغطيه تلك الشعارات الدينية وتدثره رايات الجهاد والمصاحف المرفوعة باسم "المشروع الحضاري". وكان من الطبيعي والمنطقي أن ينظر حوله فلا يجد سوى الأنظمة العربية ذات الكفاءة العالية في صياغة هذا النوع من الحكم.
ولأنها مكتوبة بالحبر السري، كان من السهل على المؤتمر الوطني التنكر لتلك الفصول في كتابه، والخروج عليها، بل وأكثر من ذلك التبجح بمناهضة تلك الأنظمة التي اهتدى بكتابها، والإدعاء بدعم مناوئيها والسعي لإسقاطها. فمن نظام صدام حسين في العراق، والذي ساندته الإنقاذ علناً، ونظام بن علي في تونس ونظام مبارك في مصر ونظام القذافي في ليبيا ونظام الأسدين (الأب والإبن) في سوريا، كتبت الإنقاذ وحزبها الحاكم لأكثر من عقدين تلك الفصول.
ورغم التناقض الظاهري بين شعارات المشروع الحضاري وتوجهات تلك الأنظمة، إلا إن بنيتها السلطوية متطابقة وعقليتها المتسلطة واحدة. التأكد من ذلك لا يحتاج لكبير عناء، فالأنظمة العربية المشار إليها، التي اهتدى بها نظام المؤتمر الوطني، كانت تحكم بكتاب واحد، يعتمد في حراسته على القهر والتسلط على الشعوب التي يحكمها، وبآليات موحدة. كانت تلك الأنظمة تعتمد في سلطانها وتسلطها على قوة أمنها وجيشها وقوانينها التي تصكها في سبيل "حكمها الأبدي"، ولكن بصيرتها، لأنها عمياء، لم تكشف لها أن تلك الأجهزة لن تصمد طويلاً أمام الغضب الشعبي ومن بين أسباب ذلك إنها قائمة على بشر هم في خاتمة المطاف من صلب الشعب، يعانون ما يعاني ويصابون بما يصاب مهما بذلت لهم من امتيازات.
كشفت الثورات العربية أوهام واحلام "الحكم الأبدي"، وهشاشة بنيانها البوليسي الذي اعتمدته، فسرعان ما تهاوت أركان تلك الانظمة ليس لأنها فاقدة للعمق الشعبي فقط، بل لأن الشعب وتطلعاته ورغباته، آماله ورفاهيته ليست من أولياتها، بل ليست في برامجها على الإطلاق. فدور الشعب لديها هو مصدر رزقها وثرواتها، تمتصه حتى لا تبقي منه شيئاً، وتستخدمه في تحقيق غاياتها، تقهره وتتسلط عليه وتزرع فيه الخوف وتقتل داخله كل تطلع للحرية والرغبة في العيش الكريم، بأفقاره وتجويعه وحرمانه من أبسط حقوقه لكي يظل طوع بنانها.
ولأن المؤتمر الوطني قرأ تلك الوصفة السحرية وحفظها جيداً، كان يتطلع –على الأقل- أن يكون شبيهاً للحزب الوطني في مصر، حاكماً بامر الرئيس إلى الأبد، فطبق تلك الوصفة من كتاب " المرشد إلى الحكم الأبدي" بحذافيرها. وبعيداً عن تصدير ثورته ودعمه للمتطرفين وحتى محاولة اغتيال الرئيس المصري –وقتها- حسني مبارك، كان المؤتمر الوطني معجباً بنظيره الحزب الوطني في مصر وبكيفية سيطرته على الساحة السياسية هناك منفرداً بالسلطة مع مسحة ديكورية لزوم واجبات الحداثة و"الديمقراطية" ومظاهر "الحرية". وكانت عينه على الأنظمة في عراق صدام وسوريا الأسد وليبيا القذافي، نموذجاً لحكم الحزب الواحد الشمولي القابض، حزب السلطة، مهتدياً بها.
لم ينزعج كثيراً للكيفية التي غادر بها صدام الحكم فالعنصر الخارجي غير مقلق بالنسبة للمؤتمر الوطني، فهناك ما يمكن إدارته تحت الطاولة. كما إن الطريقة التي أسقط بها نظام الحكم العراقي بدت معزولة بعد أن حققت غاياتها، ولا يمكن أن تكون نموذجاً قابل للتطبيق في كل الأحوال، وحال العراق غير حال السودان لدى المجتمع الدولي. وكان مطمئناً لدوام حال النظام في مصر وليبيا وسوريا، أما تونس فلم تكن في حساباته مثلما لم تكن في حسابات الكثيرين أن تكون فاتحة الثورات ونفاجها.
الثورات العربية جعلت نظام المؤتمر الوطني الحاكم مكشوفاً عارياً إلا من عوراته، وهذا ما جعله يهب من نومه مذعوراً مرعوباً. وهو الان يحاول بكل ذكاء (المستهبلين) أن يتنصل من التزامه بحرفية تطبيقه لنموذج كتاب "المرشد إلى الحكم الأبدي"، وفي لعبة ساذجة ومكشوفة يهاجم تلك الأنظمة على استحياء.
اكتشف المؤتمر الوطني ان القبضة الأمنية والمظاهر البوليسية لن تغني عنه من الأمر شيئاً، وهو يرى أمامه انهيار تلك الأنظمة وكيفية مواجهة الجماهير لها رغم جبروتها وتفوق أجهزتها البوليسية القمعية. اكتشف أن القهر والتسلط لهما نهاية مهما طال الزمن، وأن ما ظنته تلك الأنظمة خوفاً مستوطناً لدى شعوبها ما هو إلا وهم زائف. ليجد نفسه في مأزق حقيقي ادخلته فيه تلك الثورات، مأزق إنهارت معه احلامه بالحكم الأبدي بذات المنهج، وهو الآن أمام مفترق طرق يحاول أن يتجاهلها بوقوفه ثابتاً عن حد ذلك المفترق، بأن لا يتراجع أو يتقدم.
الطريق الأول سيقوده إلى نهايته، إن حاول إعادة انتاج نفسه في صورة أخرى بذات الأدوات والاليات ومنهج التفكير. وهو ما سيحاول التشبث به بشتى السبل في الوقت الحاضر، ويصر على المضي فيه قدماً متوهماً خضوع الأجهزة الأمنية والعسكرية لسلطاته للأبد، وأنها ستنجيه من الزوال. وطبيعة الأشياء تقول إنها أجهزة دولة في النهاية وليست أجهزة حزبية، وهو ما تجاهلت حقيقته الأنظمة العربية السابقة. فهي إما أن تتحول إلى جانب الشعب وتطلعاته وتجذر لقوميتها وانتمائها لكل الوطن لا لبرنامج حزب، أو تنهار كما حدث في ليبيا ويحدث في سوريا الآن بانسلاخ كثير من أبناء سوريا منها.
الطريق الثاني سيقوده إلى المشاركة الحقيقية مع كل القوى السياسية في البلاد إلى صياغة مشروع وطني، يؤسس لدولة المستقبل ويخرج بالبلاد من كبواتها المتتالية وعزلتها إلى آفاق السلام والاستقرار والتنمية. وهو طريق يمثل نهاية لمناهج التطرف والاستعلاءن ويعني نهاية المؤتمر الوطني بشكله الذي عرفناه طوال عقدين. وهي نهاية ليست خاسرة بل رابحة، لأنها ستحقن الدماء اولاً، وتقود للاستقرار ثانياً، وهما مطلوبات ضرورية لبناء الوطن. الذين حباهم الله ببصيرة عمياء من قيادات المؤتمر الوطني سيعدون ذلك هزيمة مريرة وشخصية بالنسبة لهم، وسيكابرون في رفض كل الحقائق، وهذا سيقود إلى:
الطريق الثالث الذي لا يمثل نهاية المؤتمر الوطني فحسب، بل نهاية الوطن وتفرقه بين القبائل، وفتح الباب عريضاً أمام خيارات غير مرغوب فيها وإيجاد الذرائع للتدخل الدولي، وحينها لن يجدي المشروع الحضاري، ولا النهج الديمقراطي لأنها مرحلة سيكون فيها قادة المؤتمر الوطني خاضعين مباشرة للاجنبي، أو بالأحرى لن يكون هناك مؤتمر وطني، ولن تكون هناك دولة يمارس فيها سلطته كما يشتهي.
الثورات العربية التي يحاول المؤتمر الوطني ركوب موجتها، او كما قال احد قادتها "إذا قامت الثورة في السودان سنكون من يقودها"، هو شبيه لما فعله القذافي قبل شهور عندما توسط الجماهير الثائرة على حكمه وخرج معها ليقودها، ليحدث له ما حدث بعدها ، أو كما أشار أحدهم قبلي، تلك الثورات هي التي قضت مضاجع قادة المؤتمر الوطني وادخلتهم في مازق حقيقي. فأسباب إنطلاقها هي ذات ما يجري في السودان في ظل حكم المؤتمر الوطني من فساد  يقابله إنتشار جوع وفقر ومرض بين العامة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق