"ولست أقول هذا بأية نزعة فردية، فأنا لا أجد قيمتي وذاتي وهويتي إلا في خضم النضال الذي يقوده شعبنا وقواه الثورية، إلا كمناضل يعبر عن قيم وتطلعات واهداف ذلك النضال، إلا عبر تاريخ شعبنا ومعاركه الشجاعة التي بذل ويبذل فيها المال والجهد والنفس دون تردد في سبيل الحرية والديمقراطي والتقدم الاجتماعي، إنني جزء لا يتجزأ من هذا التاريخ المجيد وهذه القيم والتطلعات النبيلة. إن هدف السلطة من تقديمي لهذه المحاكمة ليس شخصي بالدرجة الأولى وإنما مواصلة مساعيها لمحو التاريخ الذي أمثله والتطلعات التي اعبر عنها .. ولكن هيهات".
كان ذلك جزء من مرافعة المرحوم الأستاذ التجاني الطيب أمام محكمة أمن الدولة مطلع ثمانينات القرن الماضي، عندما ألقت أجهزة أمن النظام المايوي الديكتاتوري القبض عليه بعد أن دوَّخها وقض مضجعها بإصراره على ممارسه مهامه وهومختفي تحت الأرض منذ النهاية الكارثية لانقلاب يوليو 1971. الشيء الوحيد الذي ظل منتظماً ومقاوماً من أجل البقاء كان جريدة "الميدان" التي رأس تحريرها الراحل التجاني الطيب، كان ذلك يعبر عن إرادة صلبة وقدرة على التحمل لا تتوفر إلا في أشخاص نادرين من أمثاله عجنوا الشيوعية بسودانيتهم.
لن أضيف جديداً في سيرة الراحل أستاذنا التجاني المضيئة، التي يعرفها القاصي والداني، إلا بسرد واقعة يعود تاريخها إلى قرابة النصف قرن. عندما قال للشهيد عبد الخالق محجوب "إنك لا تصلح أن تكون سكرتيراً للحزب الشيوعي إذا كنت تنفعل بهذه الدرجة ولمثل هذا الموقف، فالطريق الذي اخترناه يقود إلى حزَّ الرقاب" ممراً أصبعه على رقبته في إشارة لذلك.
تلك الواقعة –وواقعات أخر- التي يرويها والدي في لحظات صفائه ويعمل على توثيقها كتابة في الوقت الراهن، جرت في مدينة وادي حلفا. كان والدي مكلفاً بالحفاظ على وترحيل الراحل عبد الخالق محجوب إلى أن يجتاز الحدود إلى مصر للحاق بمؤتمر للأحزاب الشيوعية في موسكو في النصف الأول من الستينيات، في وقت كانت تبحث عنه القوات الأمنية لمنعه من ذلك. تم الاتفاق على اجتيازه الحدود عن طريق البر وبواسطة عربة لوري والتنسيق هناك داخل الأراضي المصرية لاستقباله بواسطة آخرين.
ظهر الأستاذ التجاني فجأة في وادي حلفا وهو الرجل الثاني في الحزب الشيوعي السوداني، وكان في طريقه إلى مصر أيضاً في مهمة حزبية، ليجتمع مع عبد الخالق وصاحب العربة اللوري وهو عضو في الحزب الشيوعي ووالدي، الذي يعمل في وادي حلفا حينها، في المنزل حيث يختفي عبد الخالق. وكان الاجتماع حيث جلس الأربعة حول طاولة، لمتابعة الترتيبات النهائية لخطة السفر.
شرح صاحب اللوري الموقف، وقال إن العربة لن تكون جاهزة في الموعد المحدد. كان ذلك يعني عدة أشياء فالذين سيستقبلون عبد الخالق في الجانب المصري لا يعرفون إلا هذا اللوري الذي يجب ان يصل في تاريخ ووقت محدد والوصول إلى نقطة محددة سلفاً. أي تغيير سيضطر الجيمع إلى وضع ترتيبات جديدة في ظل تلك الظروف المعقدة.
ما أن سمع الراحل عبد الخالق هذا الأمر حتى نهض واقفاً وهو في حالة انفعال وهياج، بسبب الإخفاق في الترتيبات وأمسك بأوراق في الطاولة التي اجتمعوا حولها وقذف بها بشكل عبر عن فقدانه لأعصابه. حدث كل ذلك لمدة ثواني، ليتحدث الأستاذ التجاني في صرامة إلى عبد الخالق بقوله "إنك لا تصلح أن تكون سكرتيراً للحزب الشيوعي ...." وأضاف " إنني سأقدم تنويراً للجنة المركزية بما بدر منك وأطالبك باعتذار رسمي"، فما كان من الزعيم عبد الخالق إلا أن وقف مرة أخرى قائلا للتجاني والآخرين "إذا لم تفعل ذلك لن تكون شيوعياً، وانا بدوري سأقدم اعتذاري الآن هنا وأمام اجتماع اللجنة المركزية وحتى في الجريدة الرسمية".
رحم الله الأستاذ التجاني فقد قدم لوطنه وحزبه وأهله كل عمره دون أن يصدر لأحد إحساس من ولا أذى، فقد كان حقاً كما قال "أعتز بأنني ما زلت مستعداً لبذل كل تضحية تتطلبها القضية النبيلة التي كرست لها حياتي، قضية حرية الوطن وسيادته تحت رايات الديمقراطية والاشتراكية"، ومات دون أن تنتكس رايته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق