من طفل الرمال إلى ليلة القدر حدثت تحولات فسيولوجية كبرى للشخصية الرئيسية للروايتين الغرائبيتين اللتين أبدعهما خيال الشاعر والروائي المغربي الطاهر بن جلون. وهو الروائي الذي احتفت به الأوساط الفرنسية خصوصاً التي يكتب بلغتها والأوربية عموماً هذا غير العربية. وهو –أيضاً- الفائز بجائزة غونكور الفرنسية العريقة عن روايته ليلة القدر أو "الليلة المقدسة". فبعد أن كان أحمد متمتع بحقوقه الذكورية الزائفة التي أكسبها له والده وسط العديد من البنات اللائي أنجبهن من ظهره ومن رحم إمرأة (زوجته)، حين يصر أن يكون مولوده الثامن ذكراً حتى لو جاء أنثى بعد سبع إناث.
يرزق الوالد بفتاة لكنّه يرفض الأمر الطبيعي وينفي هويتها الأنثوية ويسمّيها أحمد ويعلن أمام الجميع قدوم إبنه المنتظر الذي ليس هو في الحقيقة سوى فتاة ستسمى زهرة. وهكذا تنشأ الفتاة في زي فتى وتحيا خلف القناع الذكوري الذي اختاره لها والدها. إلا أن هذا الأمر ظل يعذب الوالد الذي لم يستطع أن يغفر لنفسه هذا الإثم الذي ارتكبه عبر انتهاكه حقها الطبيعي ويقرّر التكفير عنه في ليلة القدر فيعتق ابنته محرّراً اياها من قيود "الذكورية" ومعيداً اليها انوثتها.
ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان كانت "ليلة القدر" حين اختار الأب أن يعتق ابنته ويزيل عنها القناع الذي أخفاها وراءه طوال عشرين سنة، في زي فتى يدعى "أحمد"، وأراد أن يحررها من الوهم الي رافقها طوال تلك السنوات.
حين أعتقها أوصاها أن تعيش قدر ما تستطيع. منذ تلك اللحظات تغيرت حياة "أحمد" وصارت إلى تفاعلات جديدة وبدت الأيام القادمة بألوان جديدة. ولما توفي والدها تجرأت في صلاة الجنازة أن تسأل نفسها، عن الرغبة الحيوانية التي تخالج الرجال الذين يصلّون وراءها لو علموا أن امرأة تجثو أمامهم. تترك "زهرة" (كما سماها أبوها ليلة القدر) المنزل وتخرج الى حياةٍ جديدة لا تعرف شكلها ولا حجمها، وحين تتنفس هواء الحرية تدرك أنها ما عادت قادرة أن تميّز "الواقعي من الخيالي".
لم تكن ليلة القدر بالنسبة لحبوبتي بت الأفندي شبيهة بتلك التي أبدعها الطاهر بن جلون، وإن كان طرف الحكاية هو شقيقها الوحيد (عليه رحمة الله) الذي جاء أخيراً بعد أربع بنات لجدنا الأكبر عبدالرحمن الأفندي. وهي قصة شبيهة بتلك التي جرت لأحد القرويين الذي ظل يبذل الدعاء إلى الله بصوت عالي منذ أن دخلت العشر الأواخر من رمضان، وكان دعاؤه بأن يرزقه الله في هذه الليلة المباركة بشحنة كاملة لوري (عيش) ذرة، لدرجة أصابت جاره (المطموس كما تقول حبوبتي) بالإزعاج، حيث لا يستطيع النوم من صوت جاره الذي يقض مضجعه كل ليلة. فكانت ليلة السابع والعشرين من رمضان، حين تربص به (المطموس) وهو في غارق في قمة دعوته لله في تلك الليلة مؤملاً في شحنة لوري العيش، فأضاء هذا (بطاريته) وقفز من على السور وأقترب من الحجرة التي يدعو فيها جاره بصوته العالي. قلد (المطموس) صوت اللوري وكأنه قادم من بعيد في تلك اللحظة من الثلث الأخير من الليل، ثم وجه ضوء (بطاريته) إلى حيث يجلس الجار في (مصلايته) وينتشر الضوء في كل الحجرة. ومع صوت ماكينة اللوري صاح صاحبنا في السائق: "المخزن من هذه الناحية، المخزن من هذه الناحية"، وربما ما زال يوجه في سائق اللوري حتى الآن.
كانت حبوبتي بت الأفندي تصوم على جرعة ماء وإن كان هناك ما تبقى من مشروب (مديدة الذرة)، وتفطر على بلحة وقليل من البليلة وصحن عصيدة (بملاح روب)، ففي تلك القرى لا مجال لرفاهية أكثر من ذلك في شهر رمضان، أما الحلو مر فهو المشروب الثابت في مائدتها. وتقيم ليلها إما تحت تلك السقيفة البلدية أو في الحوش الواسع الذي تركه لها أبوها عليه رحمة الله، تفعل كل ذلك بعد إطمئنانها على عنزاتها مصدر غذائها الرئيسي (اللبن). كان كل أهل القرية يقيمون صيامهم هكذا ولم تكن لتشذ عنهم.
بعد إن استلقت بت الأفندي وقد بلغ بها الصيام مشقة، هو بالغها دون شك، في آخر أيامه أيام العتق من النار، إنتابتها حالة من فيضان سعادة غامرة إذ هي أدركت رمضان وما زالت تؤدي فروضه في تلك السنة وتختمها بعد صلاة العشاء بالقيام. ومع هدأة الليل كانت تمني نفسها بأن تحظى بحضور ليلة القدر وهي مستيقظة وفي كامل نشاطها ووعيها، حتى تطلب ما تشتهي والله قريب يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، ناهيك عن الدعوة في مثل تلك الليلة العظيمة. لم يكن أحد من حولها يدرك امنيتها في تلك الليلة، ولكن كان شقيقها وإبن أخت له (شقي) يراقبان الوضع وقررا أن يدبرا لها مكيدة شبيهة بمكيدة صاحب اللوري. فما أن حلت العشر الأواخر حتى زادت الحبوبة من جرعة تعبدها، إلى أن جاءت تلك الليلة حين تآمر عليها شقيقها وإبن أخته وهما يحملان البطارية ويتربصان بها وهي في حالة سجود، ليوجها ضوء بطاريتهما علي السجادة، ولأننا لا نعلم ما ظلت تهمس به من دعوات إلى بارئها فربما تنزلت عليها الملائكة بإذن ربهم في تلك اللحظات عليها، وربما تحققت دعواتها، لكنها –أطال الله عمرها- لا زالت تعتقد أنها حظيت في تلك اللحظة بليلة القدر.
البخلاء والصوم
دخل شاعر على رجل بخيل فامتقع وجه البخيل وظهر عليه القلق والاضطراب ، ووضع في نفسه إن أكل الشاعر من طعامه فإنه سيهجوه .. غير أن الشاعر انتبه إلى ما أصاب الرجل فترفق بحاله ولم يطعم من طعامه .. ومضى عنه وهو يقول:
تغير إذ دخلت عليه حتى .. .. فطنت .. فقلت في عرض المقال
عليَّ اليوم نذر من صيام .. .. فاشرق وجهه مثل الهلال
ومن ذلك ما قال أبو نواس يهجو الفضل قائلاً:
رأيت الفضل مكتئبًا .. .. يناغي الخبز والسمكا
فأسبل دمعة لما .. .. رآني قادمًا وبكى
فلما أن حلفت له .. .. بأني صائم ضحكا
وفي باب الغزل العفيف يقول زين القضاة السكندري في القطائف:
لله در قطائف محشوة
شبهتها لما بدت في صحنها
من فستق دعت النواظر واليدا
بحقاق عاج قد حشين زبرجدا
اللهم نسألك بعد العتق من النار في هذه الأيام المباركات، أن تظلل وطننا بالسلام، وأن تحفظه موحداً وتبعد عنه من لم يرحم عبادك من الحكام، وأن تقيه شر الفتن وتنعم على شعبه بالحرية والديمقراطية والوئام.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق