ود الشيخ لا زال متفائلا

يعرف سعيد أبو النحس إسم عائلته المتشائل بأنه نحت من كلمتين هما المتشائم والمتفائل، إختلطتا على العائلة منذ مطلقتهم الأولى القبرصية (جدتهم)، ويقال أن أول من أطلق عليهم هذا الإسم هو تيمورلنك شخصياً بعد مذبحة بغداد الثانية. وذلك لما وشوا بجده أبجر بن أبجر، وأنه، وهو على متن فرسه خارج أسوار المدينة، إلتفت فشاهد ألسنة اللهب، فهتف: بعدي خراب بصرى!

وفي إطار محاولاته تأكيد ذلك يحكي سعيد أبو النحس المتشائل موقفاً عائلياً مثيراً عندما كان أخوه البكر يعمل في ميناء حيفا، فهبت عاصفة اقتلعت الونش الذي كان يقوده وألقته في البحر فوق الصخور، فجمعوا رفاته الممزق بدون رأس ولا أحشاء، وكان عريساً في شهره الأول. فقعدت عروسه تولول وتندب حظها وبجوارها والدته تبكي في صمت. ثم إذا بوالدته تستشيط غضباً وتضرب كفاً بكف وتصيح قائلة: "مليح أن صار هكذا وصار غير شكل"، فذهلت العروس وحدها دون بقية العائلة (ولم تكن من العائلة)، وصاحت في وجه والدة سعيد: أي شكل بعد هذا الشكل يمكن أن يكون أسوأ منه؟ فأجابتها الأم: أن تخطفي في شبابه يا بنية. أي أن تهرب مع رجل آخر. ويقول سعيد أبو النحس: والحقيقة أنها هربت بعد سنتين مع رجل آخر، وكان عاقراً.فرددت والدته لازمتها: فلماذا لا نحمده؟ ويتساءل سعيد أبو النحس: فأيهم نحن، المتشائمون أم المتفائلون؟

هكذا يحكي الروائي الفلسطيني الراحل إميل حبيبي في روايته "الوقائع الغريبة في حياة سعيد أبي النحس المتشائل" عن بطله العائد إلى فلسطين بعد فترة اللجوء التي قضاها في لبنان، لتختطفه كائنات فضائية يروي من خلالها حالة كونه فلسطينياً في دولة إسرائيل. وبين إختطاف سعيد فضائياً ووصية إميل حبيبي بأن يكتب على قبره "باق في حيفا"، يتسلل صديقي ود الشيخ الذي حكيت لكم في السابق أطراف من الأحداث الغريبة والطريفة التي وقعت له أثناء حياته.

لكن صديقي هذا لا يتطلع إلى السماء ولا كائناتها الفضائية وكأنه يستهدي بقول شاعرنا حميد " الجاتا جاتا من الأرض ما جاتا من تال السما"، فلا زال يهيم على وجهه مكباً على الأرض بعد النحس الأول الذي واجهه عقب إنقلاب 1989، حين ألقي القبض عليه متهماً بالتنصر والتبشير بالمسيحية، وهو ما رويته لكم في حكاية ود الشيخ النصراني. ولا أدري ما صلة بعض خصائل عائلة سعيد أبي النحس المتشائل بصديقى ود الشيخ، لكن بعض ما يرويه سعيد عن خصال عائلته حيث يقول "فهذه شيمة عائلتنا النجيبة، أن نظل نبحث تحت أقدامنا عن مال سقط سهواً من صرة عابر سبيل لعلنا نهتدي إلى كنز يبدل حالنا الرتيبة تبديلا". يكاد ينطبق عليه فعلاً.

بالرغم من ان سعيد صار فضائياً وتجاوز واحدة من خصال عائلته "البحث تحت أقدامه"، إلا أن صديقي العزيز ليس بمؤمن المرة. فهو لا زال متمسكاً بتلك الخصلة آملاً في الإهتداء إلى كنز يبدل حاله الرتيبة تبديلا. فهو بعد أن ضرب أخماساً بأسداس في رحلته مع النحس الذي لازمه أثناء بحثه عن الذهب في نهر النيل، وقد قضى سنوات من عمره يحفر مرة بيديه ومرات بآلات مساعدة (حتى الآن يصر أن لديه بئر ملكه في تلك المنطقة سيعود إليها متى ما وجد إمكانيات تقنية أحدث)، بعد أن ضرب أخماسه تلك بالأسداس قرر الهجرة شرقاً وهذه المرة إلى صعيد القضارف باعثاً الأمل الذي ما فارق خياله قط رغم ركام النحس الذي ظل يلازمه.

يحكي سعيد المتشائل "ومن أسرار العائلة أنه في زمن خروج الأتراك ودخول الإنجليز، خرج عمي لجدي من بيته في القرية الفلانية- نحن مثل الماسون، لا يمكن ان نفشي أسرارنا العائلية- وكان ينظر إلى أسفل كعادتنا. فاصطدم رأسه بحجر في بيت خراب. وكانت جمجمته صلبة. فتدحرج الحجر من مكانه. فانكشفت أمامه هوة تغضنت في سفحها درجات هبط عليها. فإذا بظلام خفاش. فقدح زناد فكره، فقدح زناده فاستضاء. فرأى لحوداً رخامية أخذ يفتحها فإذا فيها جماجم وبقية عظام، وغاليات ذهبية دسها في دكة سرواله، حتى فتح لحداً أكبر من الآخرين، فإذا فيه، مع الجمجمة التي كانت، كما قيل، أصغر حجماً من بقية الجماجم، تمثال من الذهب الخالص للخان مانجو، أكبر إخوة هولاكو، الذي صرعته الدوزنطاريا وهو يغزو الصين".

أقسم أن صديقي ود الشيخ لم يقرأ رواية "الوقائع الغريبة في حياة سعيد أبي النحس المتشائل" لإميل حبيبي، ولكن إليكم ما حدث له عندما ولى وجهه شطر منطقة الحواتة قرب القضارف. فهو بعد زواجه الميمون، وبهذه المناسبة فقد كان الوحيد الفائز في معركة الإنتخابات الماضية المضروبة، فبعد تجواله أثناء الحملة الانتخابية في العديد من أقاليم السودان إلتقى بشريكة حياته، وكان أن عقد قرانه على خلاف سعيد المتشائل وقصته مع (يُعاد)، ولقصة زواجه هذه حكاية طويلة ليس هذا بمجالها. لكن تلك اللحظة الفارقة في حياته هي ما بعث الأمل داخله مجدداً ليقرر السفر إلى تلك المنطقة بالإتفاق مع بعض معارفه الذين اشطرت عليهم حصوله على جاهز كاشف للمعادن هذه المرة. وهذا يعد تقدماً تقنياً في مجال عمله بعد أن نال التعب من أصابع يديه أثناء فترة العمل البدائي السابقة.

وليس كما حدث لعم سعيد الذي ساعدته الصدفة في إكتشاف كنوز تلك المقبرة، فقد إختارت مجموعة ود الشيخ البدء في البحث عن الذهب وغيره من النفائيس في مقابر العنج. وقد شاع أنهم يدفنون موتاهم بكنوزهم في الزمان الغابر. وبعد خمس وعشرين محاولة، وبين بقايا خمس وعشرين مقبرة لم يجدوا شيئاً. لكن الغريب في الأمر أن لعنة أشبه بلعنة الفراعنة أصابتهم، حيث أصبحوا طريحي الفراش جميعاً وفي وقت واحد تهتز أجسادهم من أثر حمى الملاريا، وكاني بهم يرددون وهم في قمة مأساتهم قول المتنبئ:

وزائرتي كأن بها حياء *** فليس تزور إلا في الظلام

بذلت لها المطارف والحشايا *** فعافتها وباتت في عظامي

يضيق الجلد عن نفسي وعنها *** فتوسعه بأنواع السقام

كأن الصبح يطردها فتجري *** مدامعها بأربعة سجام

وقبل أن يكتمل شفاؤهم تماماً عاودوا الكرة مرة أخرى، ليكتشفوا أن مجموعة أخرى من الباحثين عن الذهب قد سبقوهم إلى ذات المكان وعثروا–حسب رواية ود الشيخ- على أكثر من ثلاثة كيلو جرامات من الذهب. ليكتفوا بهذا القدر من البحث في هذه المنطقة ويقرروا الانتقال إلى منطقة أخرى، وجدوا فيها بعض الباحثين عن المعدن الأصفر اللامع يعملون بالطرق التقليدية البدائية.

وكعادة ود الشيخ التي ربما كانت ذات صلة بعائلة سعيد المتشائل وخصالهم، لم يتملكه اليأس تماماً من النحس الذي يلازم خطواته فقرر أن ينتبذ وفريقه ركناً قصياً من جبل إختاره كمحاولة أخرى لاختراق بوابات الأمل والتفاؤل. صعدوا إلى قمة ذاك الجبل، وبعد بذل وعطاء وجهد وعرق إمتد من الصباح الباكر وحتى منتصف النهار، اكتشفوا نسبة جيدة من المعدن النفيس شجعتهم على أخذ قسط من الراحة. عادوا، يملأهم التفاؤل هذه المرة، إلى القرية على أمل العودة إلى الجبل مرة أخرى عصراً.

لم يثنهم التعب ولا بقايا الملاريا البائتة في عظامهم من العودة وصعود قمة الجبل حيث البئر التي حفروها بعدما إنحرفت الشمس قليلاً ناحية الغرب مؤذنة بدنو وقت العصر. وما أن أطلت وجوههم داخل البئر التي بلغوها بآخر أنفاسهم حتى وجدوا ثعباناً ضخماً متكوراً في منتصفها يبدو أنه وجد مكاناً مميزاً لقيلولته. آثروا الإنتظار إلى أن تنتهي قيلولة ذلك العارض ويغادر موقعه ليبدأوا الحفر، لكنه لم يبرح موقعه إلى أن ذابت الشمس في الأفق ليعودوا أدراجهم ودواخلهم تردد "الصباح رباح" حيث لا مجال ولا مكان لليأس.

في صباح اليوم التالي عادوا مبكرين إلى حيث موقع عملهم ولحسن الحظ كان السيد الثعبان الضخم قد غادر، ليواصلوا الحفر إلى أن وجدوا حجراً يلمع ذهباً، فأخذوه لمزيد من الفحص وتحديد النسبة التي يحتويها الحجر من المعدن الثمين. ولما عادوا لمواصلة الحفر وجدوا السيد الثعبان بضخامته يتمتطى وسط البئر.

هنا لابد من تكتيك آخر، فكان أن لجأ صديقي ود الشيخ إلى أحد الشيوخ في المنطقة وهو يجرجر خلفه "عتوداً" من أجل أن يبذل ذلك الشيخ جهده لإبعاد الثعبان عن البئر. ولا أريد أن أسترسل فيما فعله ذلك الشيخ ولكن عند عودتهم للبئر لم يجدوا الثعبان، ليتواصل الحرف إلى أن بلغوا هذه المرة مراحل تزايد فيها الأمل الكبير بالعودة المظفرة وهم يحملون عدة كيلو جرامات لامعة بين أيديهم، ولكن ما أن بدأت تباشير اللون الذهبي تلوح في أفق "شق" بلغوه بشق الأنفس حتى ظهر الثعبان مرة أخرى. ولا تزال المشاورات والمفاوضات جارية للبحث عن مخرج يبعد عنهم هذا العارض.

هناك تعليق واحد:

  1. عجيب أمر ودالشيخ.. صاغته الحياة ليكون مبعثاً للدهشة من فطرته والتي تجعله أقرب إلى حكمة "ود تكتوك"، رغم المفارقات الطريفة التي غلفت تجاربه "المتشائلة".. والأعجب من كل ذلك تقديمك الساحر للشخصية والموقف ممزوجة بما لديك من كنز معرفي وثقافة ذات صلة بالموضوع.. شكراً أستاذنا أمير..

    ردحذف