دكتاتور محمود درويش- من دفاتري القديمة

أمير بابكر عبد الله
والسؤال هنا عن المعايير التي بموجبها صنفت، مرة، تلك (الفورن بوليسي) حكام العالم وميزت بينهم الدكتاتور من غيره. هل ينطبق عليه ما رسمه الشاعر الراحل محمود درويش من ملامح، لأن ديكتاتوره فريد يثير الضحك قبل البكاء. بقراءة قصيدته عن هذا الأمر نجد أن شاعرية محمود درويش الهتافية متحولة هنا، لينقل لنا في اعتيادية فجة ملامح لصورة الديكتاتور التي رسمتها مخيلته دون رتوش.


هنا لا يمكن للشعر أن يجمل الأشياء، أو هكذا القصيدة تمتطي صهوة الحكي المباشر بعيداً عن تلك الصور التي نجمل بها أشعارنا. يدخل بنا محمود درويش مباشرة إلى قلب معركة الدكتاتور عبر خطبه التي أسماها (موزونة). وهي فعلاً كذلك، طالما كان مصدرها وحي دكتاتوري، ففي مناسبة جلوسه يلقي بخطابه الأول ليختار شعبه. الدكتاتور عند محمود درويش هو الذي يختار شعبه، أم الأمر كذلك في كل سيرتهم. ربما كما قال صديقي لصديق مشترك "إن في داخلك دكتاتور صغير"، عندما يشب عن الطوق هل كان سيختار شعبه أيضاً؟
سأختار شعبي 
سأختار أفراد شعبى ، 
سأختاركم واحدا واحدا من سلالة أمى ومن مذهبى، 
سأختاركم كى تكونوا جديرين بى 
إذن أوقفوا الآن تصفيقكم كى تكونوا 
جديرين بى وبحبى ، 
سأختار شعبى سياجا لمملكتي ورصيفُا 
لدربي
سيختار الدكتاتور شعباً محباً وصلباً وعذبا، يستحق أن يمر أمام حدائق قصره، ولكن يبقى السؤال الغريب هنا أن كيف سيكون دكتاتوراً، إذا ما اختار أصلحنا للبقاء فقط أولئك الذين سيدعون له بطول العمر وطول الجلوس على كرسي خيلائه، وهو الذي ضاق ذرعاً بأمية الناس؟ كيف يكون ذلك وكثير من الشعوب ما رزحت ورضخت لحكم دكتاتورها إلا بسبب الجهل والأمية. وزول درويش سيختار شعبه الذي يرغب في حكمه، شعباً من الأذكياء .. الودودين. وتباً لوحل الشوارع. وحدد درويش كيف سيختار هذا الشعب،
سأختاركم وفق دستور قلبي : 
فمن كان منكم بلا علة .. فهو حارس كلبى، 
ومن كان منكم طبيبا ..أعينه 
سائسا لحصاني الجديد. 
ومن كان منكم أديبا .. أعينه حاملا لاتجاه 
النشيد ومن كان منكم حكيمًا ..أعينه مستشارا 
لصك النقود . 
ومن كان منكم وسيمًا ..أعينه حاجبا 
للفضائح 
ومن كان منكم قويًا ..أعينه نائبا للمدائح 
ومن كان منكم بلا ذهب أو مواهب 
ـ فلينصرف 
ومن كان منكم بلا ضجرٍ ولآلىء 
فلينصرف 
فلا وقت عندى للقمح والكدح
يا سيدي إن دكتاتورك طاغية يحكم شعباً من الجهلة، أو هو يتسبب في جهلهم وليستمروا في جهلهم ليصفقوا له ويدينوا له بالولاء وتلك من معايير حكم الطغاة. أما هنا فالأمر مختلف جدا فدكتاتورنا يكره الطغاة –أي والله يكرههم، أتعرف لماذا؟ لأن الطغاة يسوسون شعباً من الجهلة، وهو يضع خطة جديدة باختياره لشعبه، لا كما يفعلون عندكم يختارهم الشعب عن طريق الاستفتاء، لذلك فهو يرى "ومن أجل أن ينهض العدل فوق الذكاء المعاصر" أن لابد من برلمان جديد ولابد من أسئلة جديدة أيضاً، على الشعب أن يسأل ويتساءل هل كل كائن يسمى مواطن؟ إنه السؤال الجوهري في فكر دكتاتور درويش، الذي لا يليق بمثله قيادة اللصوص والعميان والجهلة والشحادين (أظن أحدهم قد قال مرة أن الشعب كان مجرد شحادين)، إنه لا يقبل أن يساوي بين النبلاء وبين الرعاع واليتامى والأرامل.، وهو لا يساوي بين الفيلسوف والمتسول، أتدري لماذا؟ كي لا يقود العوام سياسة هذا الوطن، فأغلبية الشعب هم عدد لا لزوم له. لذلك فهو يقترح نظاماً جديداً لمنع الفتن وهو إختيار أفراد شعبه واحداً واحداً. إن ديكتاتورنا هو الذي ينتخب شعبه وليس العكس كما هو عندكم، لذا فمعاييرنا مختلفة، وهو يختار شعبه، ويعلن في خطاب الجلوس إنه يفعل ذلك
"كى تكونوا جديرين بي.. وأكون جديراً بكم .. 
سأمنحكم حق أن تخدمونى 
وأن ترفعوا صورى فوق جدرانكم 
وأن تشكروني لأنى رضيت بكم أمة لى.. 
سأمنحكم حق أن تتملوا ملامح وجهي في 
كل عام جديد .. 
سأمنحكم كل حق تريدون
حق البكاء على موت قط شريد 
وحق الكلام عن السيرة النبوية فى كل عيد.. 
وحق الذهاب إلى البحر فى كل يوم تريدون .. 
لكم أن تناموا كما تشتهون .. 
على أى جنب تريدون .. ناموا ، 
لكم حق أن تحلموا برضاى وعطفى .. فلا 
تفزعوا من أحد 
سأمنحكم حقكم فى الهواء.. وحقكم فى 
الضياء 
وحقكم فى الـغناء .. 
سأبنى لكم جنة فوق أرضى 
كلوا ما تشاؤون من طيباتى 
ولا تسمعوا ما يقول ملوك الطوائف عنى، 
وانى أحذركم من عذاب الحسد! 
ولا تدخلوا فى السياسـة .إلا إذا صدر الأمر 
عني . . 
لأن السياسة سجني.. 
هنا الحكم شورى ..هنا الحكم شورى 
أنا حاكم منتخب ، 
وأنتم جماهير منتخبة"
وها هي ملامح دولته، فكيف بالله يحكم أهل الفورين بوليسي؟ يعني بتاع درويش ده دكتاتور يحكم عليه بذات المعايير التي جعلتهم يختارون أصحاب الجحيم الذين ذكرتهم، وهو الذي يقول بأنه سينشئ دولتنا الفاضلة، تلك الدولة وبعد انتخابه لشعبه لا سجن فيها، ولن يجد فيها الشعراء ليطلقوا بنات أفكارهم (ولا أولادها) عن تعب القافلة (ولا الصحفيين ولا الأطباء فيها سيدعون بعد ذاك اليوم بأن ظلماً وقع عليهم، فلا رقابة قبلية ولا بعدية، ولا احتجاج على نقص في الأجور فلن تكون هناك أجور أصلاً فالكل في خدمة الدكتاتور). هل يعيش ديكتاتوريو (فورين بوليسي) دون قانون للعقوبات، أها (زولنا ده) سيلغي نظام العقوبات من دولته وليس القانون فقط. وهو لذلك يضع بدائل للمتأففين والمتمردين وهم أحرار:
من أراد التأفف خارج شعبى فليتأفف 
من شاء أن يتمرد خارج شعبى فليتمرد .. 
سنأذن للغاضبين بأن يستقيلوا من الشعب 
فالشعب حر.. 
ومن ليس منى ومن دولتى فهو حر.. 
سأختار أفراد شعبى 
سأختاركم واحدا واحدا مرة كل خمس 
سنين .. . 
وأنتم تزكوننى مرة كل عشرين 
عامًا إذا لزم الأمر 
أو مرة للابد 
هل لديكم ديكتاتور يضع شعبه أمام الاختيار بين بقائه أو عدمه، ولا يستخدم كل الوسائل القمعية من أجل بقائه الأبدي، أما درويش فدكتاتوره كذلك، يمكنه أن يذهب لكن بعد أن يعيد إلى شعبه المنتخب كل من هب ودب:
وان لم تريدوا بقائى ، لاسمح الله 
إن شئتم أن يزول البلد 
أعدت إلى الشعب ماهب أو دب من سابق 
الشعب 
كى أملك الأكثرية .والأكثرية فوضى.. 
أترضى أخى الشعب ! 
ترضى بهذا المصير الحقير أترضى؟. 
معاذك !!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق