(1)
هو رمضان شهر الصوم، فكل عمل إبن آدم له إلا الصوم فأنه لرب العالمين وهو به يجزي. وربما من أفضاله علي ان جعلني أكتب، بفضل بركاته، وفاءاً لبعض من ساهم في تكويني نفسياً وذهنياً فابتدرت الكتابة في هذا الشهر وفاءاً لجدتي في اهتراء وجدان الذاكرة، ثم للقطار ولأهل السكة حديد الذين ولدت بينهم، ولن يكتمل الوفاء ونحن نتجاوز أيام الرحمة إلى أيام المغفرة إلا بالكتابة عن أساتذتي الذين علَّموني الكثير في المرحلة الابتدائية في مدرسة بانت بمدينة كسلا، والذين أحييهم جميعاً عبر أثنين من أساتذتي الأجلاء، هما الاستاذ عبدالعزيز سيد أحمد والأستاذ سيف الدين الخير عبدالمجيد. ولكن كيف أرد إليهما ذلك الجميل الذي طوقاني به. ليس هناك من سبيل إلاَّ بواسطة ما غرساه داخلى، وداخل العديد من تلامذتهما، من حب للقراءة ومحاولاتهما المضنية تمليكي أدوات الكتابة. وكذلك عرفاناً برفقة صديقي يس محمد أحمد في تلك المرحلة.
تذكرتهما في هذا الشهر الكريم الذي أتاح لي قراءة رسالة الغفران لأبي العلاء المعري مرة أخرى، وجعلتني تلك القراءة أستدعي من الذاكرة الكوميديا الإلهية تلك الملحمة الشعرية للشاعر الإيطالي دانتي الليغيري التي درستها قبل عقدين من الزمان. وكما هو معروف أن رسالة الغفران قد كانت سابقة لكوميديا دانتي، وجاءت رداً على رسالة مطولة لإبن القارح، على بن منصور الحلبي، وهي رسالة اتجهت للمنحى الروائي بذل فيها رهين المحبسين خيالاً خلاقاً جعل ابن القارح بطلاً لها مرتحلاً في العالم الآخر بين الجنة والنار محاوراً الكثير من الشعراء والأدباء.
ويطرح أبو العلاء المعرى العديد من الرؤى النقدية للشعر العربي آنذاك عبر حوار بطله إبن القارح، الذي تجول في الجنة، وحاور العديد من الشعراء بمن فيهم شعراء الجاهلية الذين غفر الله لهم بسبب إبيات شعر قالوها في عصر ما قبل الإسلام ومنهم من أدركه الإسلام ومن أمثالهم زهير بن أبي سلمى والأعشى وعبيد بن الأبرص والنابغة الذبياني ولبيد بن أبي ربيعة وحسان بن ثابت والنابغة الجعدي.
ولعل من أمثلة الطرافة في تلك الرسالة –رغم النقد الجاد والصارم للشعر- هو لقاء إبن القارح (وبصحبته عدي بن زيد) وهما يبحثان في الجنة عن القنيص، بأبي ذؤيب الهذلي ليجداه يحتلب ناقة في إناء من ذهب، فيقولان: من الرجل؟ فيقول: أبو ذؤيب الهذلي. فيقولان: حييت وسعدت، لا شقيت في عيشك ولا بعدت، أتحتلب مع أنهار لبن؟ كان ذلك من الغبن، فيقول: لا بأس! إنما خطر لي ذلك مثلما خطر لكما القنيص، وإني ذكرت قولي في الدهر الأول:
وإن حديثاً منكِ، لو تعلمينه، جنى النحل في ألبان عوذٍ مطافل
مطافيل أبكارٍ، حديثٌ نتاجها، تشاب بماءٍ مثل ماء المفاصل
فقيض الله لي بقدرته لي هذه الناقة عائذاً مطفلاً، وكان بالنعم متكفلاً، فقمت أحتلب على العادة.
هذا غير حوار إبن القارح مع الشعراء من أهل النار الذين سامرهم والنقد الذي قدمه أبو العلاء المعري لشعرهم وروايته عبره، ومنهم إمرؤ القيس وعنترة بن شداد وبشار بن برد وعمرو بن كلثوم وطرفة بن العبد والمهلهل وتأبط شرا وغيرهم، ليعود مرة أخرى للجنة ونعيمها.
ولعل هناك الكثير الذي قيل حول تأثر الشاعر الإيطالي دانتي الليغيري في كتابته للكوميديا الإلهية برسالة الغفران لأبي العلاء، وبالتراث الإسلامي وخاصة واقعة الإسراء والمعراج. ولكن يعود للعديد من دراسات المستشرقين الفضل في الكشف عن وبعث الروح في رسالة الغفران عندما ألمحوا إليها كمصدر نهل منه دانتي وهو يكتب كوميديته الإلهية. (ولعل الفضل يعود في ذلك إلى المستشرق الإنجليزي نيكلسون والمستشرق الإسباني بلاسيوس الذي أثار ضجة كبرى عندما نشر دراسة بعنوان الإسلام والكوميديا الإلهية اثبت فيها ان الكوميديا الإلهية مقتبسة من رسالة الغفران. وأثار ما ذكره غضبا عارما في أوساط الإيطاليين واعتراضهم. وانصب اعتراضهم على أنه لا يوجد أي دليل على أنه قد أتيح لدانتي ان يقرأ رسالة الغفران باللغة التي يفهمها ولم يحقق اى من المعترضين حينها التشابه بل التطابق بين النصين فى العديد من الحواشى والمواقف والابيات.
ولم يأت هذا الدليل الذى طالبوا به إلا عام 1949، عندما نشر المستشرق الإيطالي تشيروللي دراسة ذكر فيها تفصيلا كيف وصلت رسالة الغفران إلى دانتي.
ذكر أن الفونسو العاشر ملك قشتالة بأسبانيا وكان معنيا بالادب وكل ما هو متبقى من ثوره العرب العلميه والادبيه. أمر بترجمة رسالة الغفران إلى القشتالية في عام 1264 اي قبل مولد دانتي بعام واحد. وفي نفس العام طلب من مترجم إيطالي ترجمتها من القشتالية إلى اللاتينية والفرنسية القديمة لنشرها فيما وراء الحدود الاسبانية. والعامل الحاسم الذي جعل المستشرقين الغربيين يجزمون باقتباس دانتي الكوميديا الإلهية من رسالة الغفران هو التشابه الكبير جدا بين العملين.)
بالعودة إلى الكوميديا الإلهية نجدها أيضاً رحلة يقوم بها الشاعر دانتي الليغيري للعالم الآخر، وتقسم الملحمة الدانتية إلى ثلاثة أجزاء، الجزء الأول هو الجحيم والثاني هو المطهر والثالث هو الفردوس، حيث يصحب دانتي معه في هذا الجزء الشاعر الروماني فرجيل صاحب ملحمة الأنياذة وهي ملحمة شعرية عن العالم السفلي، يذهب البعض على أنها المؤثر الرئيسي لكتابة الكوميديا، يصحبه في رحلة العالم الآخر لمحاورة فلاسفة وأدباء. وفيما يبدأ المعري رحلته بالجنة ثم الجحيم، يبدأ دانتي رحلته من الجحيم ثم المطهر ثم الفردوس.
ولعل ذاكرتي تشهد بأن إهتمام الدارسات النقدية للباحثين في أوربا الشرقية، أبان سيطرة النقد الإيديولوجي، إنطلقت في التنقيب عن كنوز الكوميديا الإلهية من بوابة الجحيم، بما يعزز أهدافاً ينشدونها، أكثر من اهتمامها بالبوابتين الأخريين (المطهر والفردوس). وذلك لأن دانتي عندما كتب ملحمته تلك كانت أوربا عموماً وفلورنسا خصوصاً خاضعة لسيطرة الكنيسة. وخاضت حرباً ضروساً ضدها وضد البابا (الذي جعله في أتون الجحيم في ذلك الأثر الأدبي الرائع)، واتهم الكنيسة بالرشوة والعداوة. فجاء الجحيم في تلك الرحلة الخيالية البديعة كتعبير قوي للرغبة في التغيير وتعرية الكنيسة التي كانت تتاجر بمصالح الناس وحياتهم باسم الدين.
ويبدو الجحيم جحيماً عندما نلاحق بأنفاس متقطعة أصناف التعذيب ووصف الآلام التي تنتظر أصحابه والاوجاع، حيث الناس عراة يلسعهم النحل وتسيل الدماء من عيونهم وتزحف تحت أقدامهم الديدان.
يمكنني القول أن وجه الإختلاف الرئيسي بين رسالة الغفران والكوميديا الإلهية، أن الأولى جاءت بديعة في زمن بدأت فيه ملامح التراجع في الشعر والأدب والفكر العربي تظهر بغير وضوح إلى أن بلغت في مراحل لاحقة عصر الإنحطاط، أما الثانية فقد خرجت من رماد التخلف الذي لازم أوربا في مرحلة العصور الوسطى، لتضع ملامح لعصر التنوير الذي انطلق من فلورنسا التي ولد فيها دانتي الليغيري.
وحري بي الإشارة هنا إلى أن الكوميديا الإلهية للشاعر الإيطالي دانتي الليغيري يكفيها أن تم اختيارها ضمن المائة كتاب التي تركت أثراً خالداً في العالم على مر التاريخ، ولعله من موجبات فخرنا نحن كسودانيين أن كان من بينها رائعة الأديب الروائي المرحوم الطيب صالح "موسم الهجرة إلى الشمال".
(2)
لكما أستاذي الجليلين، عبدالعزيز سيد أحمد وسيف الدين الخير عبدالمجيد، خالص الدعوات بدخول الجنة التي لا يدخلها إلا من شملته رحمة ربي، وان يغفر الله لكما ويعتقكما من النار في هذا الشهر الكريم، ولكما من الفضائل ما يجعلكما مؤهلين لذلك، بل ويدفعني إلى إصطحابكما في رحلة كوميديا الغفران ولن تمرا فيها عبر بوابة الجحيم ولا تسيران فيها حتى عبر المطهر، بل سأدخلكما مباشرة عبر بوابة الجنة لتنعما فيها بالظل الممدود والماء المسكوب (ليس كماء الأمطار التي صارت مستنقعات بين طرقات وأزقة العاصمة فهذه توجد في الجحيم حيث الباعوض والملاريا والدسنتاريا) والفاكهة الكثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة (تلك الفاكهة التي يحرم منها ويمنع في الدنيا من لا قبل له بمقابلة جحيم نيران أسعارها في الدنيا وأنتما تريانها منتشرة بين أزقة المدينة تمد ألسنة السخرية لغير القادرين على شرائها).
ألم يقل الشاعر في المعلم:
قم للمعلم وفِّه التبجيلا كاد المعلم أن يكون رسولا؟
أنتما رسولان في التربية والتعليم، حين كان التعليم غير كسيح يسير على قدمين وصار الان يسير على أربع. تعلمنا منكما كيف نقرأ وكيف نكتب (في السنة الرابعة كانت لنا جريدتنا الحائطية الأنيقة المتنوعة، والتي كان يشرف عليها أستاذنا عبد العزيز سيد أحمد)، وتعلمنا منكما حب المسرح وأذكر أولى المسرحيات التي شاركت فيها مجموعتنا على خشبة مسرح في الهواء الطلق، في احتفال حاشد، وكان موضوعها عن سيدنا عمر وتلك المرأة الفقيرة التي كانت تخدع أطفالها واضعة الحصى على القدر حتى يناموا على أمل أن هناك وجبة عشاء تسد رمقهم آخر الليل. وتعلمنا منكما كيف نفوز في مباريات كرة القدم في منافسات مدارس المدينة وكيف نعود بالكأس بعد مباراتنا النهائية التي واجهنا فيها مدرسة الترعة الابتدائية. تعلمنا منكما كيف نكون مفيدين للآخرين، وكيف نهتم بالعمل العام ونخدم وطننا بكل تجرد. وقتها كان التعليم مجاناً تتكفل به الدولة ودافع الضرائب، أي نحن ندين لدافع الضرائب بالكثير، واكثر من ذلك كنا نستفيد من الوجبات المجانية التي تبرنا بها التغذية المدرسية، وجبات كاملة الدسم تشتمل على اللبن والأجبان والساردين.
(3)
وأنا أقلب دفتر قديم لي يعود إلى بدايات التسعينيات من القرن الماضي، وجدته ضمن مقتنياتي التي حفظتها صدفة من صدف التاريخ، إذا بي أمام العديد من النصوص الأدبية التي كتبتها حينها ما بين القصة والمسرح، أما الشعر فقد كنت زاهداً فيه سوى بعض المحاولات حين تمتلكني حالات جنونه. ولزهدي عن كتابته، ناهيك عن نشرها، قصة طريفة بيني وبين والدي حينما حملت إليه أول شعر نظمته، وأنا وسط نشوة وحالة من الإحساس بإنجاز ضخم يحمل قدمي، وكان الشعر حول صديقي يس محمد أحمد الذي رافقني في المرحلة الابتدائية. قرأها بتمعن ثم نظر إلي شذراً وهو يقول : "أحسن تشوف ليك شغلانة تانية". ولأني على ثقة تامة في تذوق أبي للشعر والأدب عموماً وبدرجة عالية من الحساسية آثرت السلامة.
وبمحض الصدفة أيضاً، عند عودتنا من إرتريا في العام 2005 بعدما عانيناه من وضعنا رهن الاعتقال هناك، وأثناء تنقلنا بين مكاتب الاستخبارات العسكرية من مدينة كسلا وحتى القيادة العامة بالخرطوم وبالتحديد في رئاسة الفرقة بمدينة القربة، التقيت بشقيق صديق طفولتي يس محمد أحمد وهو ياسر الذي كان يقضي فترة الخدمة العسكرية جنديا في القوات المسلحة وصادف أنه يقوم بحراستنا ضمن الطاقم المكلف بذلك، وحين اكتشفت ذلك سألته عن يس فإذا بحزن عميق يكتنفه وهو يقول لي: "لقد استشهد منذ عدة سنوات في الجبهة الشرقية وقد كان ضمن القوات الحكومية التي كانت تقاتل قواتكم المعارضة". إنها حرب أبناء الوطن الواحد، ولك –عزيزي القارئ- أن تتخيل ذلك الموقف المفارقة.
المهم عدت إلى دفتري ذاك لأجدني شارفت على الانتهاء من مسرحية سأورد هنا المشهد الأول من الفصل الأول منها لارتباطه بكوميديا الغفران
المنظر الأول من الفصل الأول
المسرح مظلم .. صوت موسيقى جنائزية وصراخ نسوة يوحي بوفاة أحده.
بعد قليل ضوء متحرك.. ثم يثبت على سرير مسجي في وسط المسرح بينما بقيته لا تزال مظلمة.
يعلو صوت غليظ وحاد:
- من ربك؟
يرد صوت خافت هادئ:
- ربي الله لا إله إلا هو.
- من رسولك؟
- محمد صلى الله عليه وسلم.
- ما دينك؟
- ديني هو الإسلام.
يعلو صوت السائل أكثر:
- هل سددت ما عليك من ضرائب؟
ومع إضاءة كل أرجاء المسرح يهب عبدالدائم من نومه مذعوراً وهو يردد:
- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم .. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق