واحدة وثلاثون جلدة على مؤخرة رجل - 6

"جلدة تاسعة"

السيد رئيس الحركة الشعبية ..

لم تكن كل أيامي في سجن ربدة تحمل طعم المرارة، بل أهم ما أكدته لي وما تلمسته (وكذلك المجموعة التي رافقتها خلال تلك الفترة)، وهي قناعة ترسخت لي بسبب تربيتي وما أتاحته لي الظروف من معرفة، أن ما يتسبب فيه كثير من المتعلمين والمثقفين والقيادات سواء السياسية أو العسكرية بممارساتهم الذاتية النزعة لضمان بقائهم في مواقعهم وإستمرار خدمة مصالحهم هو أس البلاء، وأن أبناء هذا السودان ينتمون إلى بعضهم وأنهم متى ما تعايشوا -تحت أي سقف حتى السجن- سريعاً ما يكتشفون ذلك وأن كل السحابات عابرة لأن أسبابها غير منسجمة مع واقعنا ولا تعبر عنه، خاصة تلك المتعلقة بشعاب الإستعلاء وما يقابلها ما هو معلق بحبال الدونية.

الصورة: غلاف الكتاب

سرعان ما اكتشف أفراد حراسة السجن المناط بهم مراقبتنا، الذين نراهم ونتعامل معهم يومياً، إضافة للمسجونين من مقاتلي الجيش الشعبي سواء من الضباط أو الأفراد، إكتشفوا أننا موجودون هنا بلا سبب (لم تستطع قيادتهم إطلاعهم على حقيقة الأمر وهو أنهم ينفذون رغبة المخابرات الإرترية وأن بقاءنا هو بناء على إتفاق بين قيادتهم في الجبهة الشرقية والإرتريين). إكتشفوا ذلك وسرعان ما انعكس في تعاملهم اليومي معنا، خاصة أننا لسنا مجهولي الهوية لا على المستوى الشخصي ولا على المستوى التنظيمي في ذلك الوسط، بل معروفون وسط قطاعات كبيرة على المستوى القيادي والقاعدي لديهم. ولكن عليهم تنفيذ التعليمات حسب ما تصدر إليهم إبتداء من تفتيشنا وجلدنا وكيفية معاملتنا داخل السجن، ثم تلك الإشارات -التي تنم عن سذاجة فاضحة- المرسلة إلينا من قِبَل القيادة.

أول تلك الإشارات التي أرسلتها لنا عبر ممثليها، الذين يمكن إدخالهم السجن بذرائع مختلفة ومختلقة، هي إختلاف القيادة على أمر إعتقالنا، وأن القائمين على ذلك هم (القيادة الشمالية) في الجبهة في إشارة للمقدم "ياسر جعفر"، ونفي أي صلة (للقيادة الجنوبية) بهذا الأمر في إشارة للمقدم "بيونق" و"أوغستينو مدوت" قائد جهاز الاستخبارات الذي تخضع له إدارة السجن. كان الغرض من تلك الإشارة هو تحقيق شيئين، ثانيهما هو (شخصنة) قضية إعتقالنا في سجن الحركة وربطها بشخص محدد وأن لا علاقة للحركة وقيادتها بهذا الأمر، وأولهما هو إحداث إرباك داخلنا بإبراز صراع وهمي وسط القيادة حول هذا الأمر. جاءت هذه الإشارات بعد أن إكتشفت قيادة الجبهة الشرقية ضعف فطنتها السياسية، وانها تورطت وورطت معها كل الحركة الشعبية بعد أن فاحت رائحة عرقنا ومعاناتنا لتصل إلى أصقاع نائية لم تكن تتوقعها، برغم أنها المدافع الأول عن حقوق الإنسان في السودان القديم وفضحها المستمر للإنتهاكات التي تمارس في ربوعه، ووعدها بوطن خالٍ من أي إنتهاكات لحقوق الإنسان في السودان الجديد.

ثاني تلك الإشارات هي رغبة الحركة الشعبية في (ضم) عدد كبير من العناصر (الشمالية) إلى صفوفها، بعد وضوح مآلات مشروع السلام واقتراب بشائر الاتفاق عليه وتوقيع وثيقته النهائية. وكان أن عرضوا علينا الإنضمام لها بواسطة رسلهم مرة، وصراحة مرة بواسطة قائد سجن "خور ملح" الذي تم ترحيلنا إليه (ولهذا الحديث موضع آخر) وكان العرض مخزٍ جداً، وهو أن مسألة خروجنا من السجن مرتبطة بموافقتنا على الإنضمام للحركة الشعبية، وكان ترحيلنا إلى "خور ملح" نوع من الضغط علينا. وجاء في ديباجة العرض أننا من الشباب الوطني المتميز وإن إسهاماتنا في العمل المعارض تشهد على ذلك سواء على المستوى السياسي والإعلامي أو على الصعيد العملياتي العسكري، وأنه لا مناص من الإنضمام للحركة إذا كنا بصدد تحقيق رؤانا فهي حصان المرحلة المقبلة. هذا أو البقاء إلى أجل غير مسمى داخل أسوار السجن وإستمرار الإهمال الغذائي والصحي. هذا حدث رغم أننا معروفون بإنتمائنا السياسي، ومعروفة هي الأسباب التي قادتنا إلى سجن الحركة الشعبية. وكانت المخابرات الإرترية قبل تحويلنا إلى سجن الحركة الشعبية قد وضعتنا أمام عدة خيارات هي أن نبقى داخل الأراضي الأرترية كلاجئين أو الإنضمام إلى أي حزب سياسي سوداني آخر غير "التحالف" أو مغادرة أراضيها إلى السودان. وعندما رفضنا العرضين الأولين وقررنا المغادرة إلى السودان –وكنا نعلم أن الخيار الأخير مجرد كرت مراوغ- وضعونا قيد الاعتقال كما هو مخطط أصلاً. يبدو أن قادة الحركة في الجبهة الشرقية إلتقطوا هذا الخيط ليلعبوا بأسلوبهم وطريقتهم معه.

إنه أسلوب أسواق النخاسة –سيدي الرئيس- لقد جسَّوا عضلاتنا المعرفية والفكرية، وبقي لهم أن يجسَّوا زيولنا ليطمئنوا إلى بنيتنا الجسمانية وأننا مؤهلون للذبح. وكما يقولون "ليس هكذا تورد الإبل"، فإن هذه الطريقة الإستقطابية تكشف تماماً تصور الحركة الشعبية لقدراتها وقوتها وأنها قادرة بتلك القوة على إرغام أياً من كان على السير في طريقها طالما هو تحت سيطرتها، وليس كما قال الدكتور منصور خالد في كتابه أهوال الحرب وطموحات السلام "بالتأكيد لم تبد الحركة رغبة في، كما لم تبتغ، أن يتصدر لواء السودان العمل الوطني على حساب أي قوى وطنية أخرى، أو يقفز فوق رؤوس القوى السياسية مجتمعة. ليست هي أيضاً بالغباء الذي تظن معه بأنها يمكن أن تستأثر بالساحة السياسية السودانية كلها، وهي التي لا تستأثر بالجنوب." 

إن ما حدث لنا وحده كفيل بنسف رغبة الدكتور منصور خالد في التأكيد على أن الحركة، وليس لواء السودان، (لأن مشروع لواء السودان فشل –كما ذكر الدكتور في ذات الكتاب- خاصة بين العناصر التي كان يفترض أن تنجذب طبيعياً نحوه) لا تسعى إلى تصدر العمل الوطني على حساب غيرها. وللتنظيمات السياسية التي عملت في الجبهة الشرقية، جنباً إلى جنب معها، تجارب تذكر بالكثير (والذي ساتعرض لبعضها في حينه) الذي يؤكد على نسف تلك الرغبة.

كان لزاماً علي –وعلى الآخرين معي- التعامل مع هذا الموقف، ولنا تجربة مماثلة مع المخابرات الأرترية عندما حاولت بشتى السبل إثناءنا عن موقفنا في الذهاب إلى وطننا. وكان صمودنا وثباتنا على هذا الموقف هو مفتاح هزيمة كل محاولات كسرنا وتطويعنا، رغم ما كانت تلوح به الجهتان من إمكانية تصفيتنا الجسدية، وكان ذلك ممكناً لولا عناية إلهية وإنتشار خبرنا ليعم القرى والحضر بسبب تدخل بعض المنظمات وتدخل بعض البعثات الدبلوماسية في العاصمة الإرترية أسمرا من أجل إطلاق سراحنا وعلى رأسها البعثة الفرنسية وسفيرها شخصياً.

رفضنا –جماعياً- الإنضمام للحركة الشعبية ليس لسبب سوى أننا لا نزال ننتمي إلى اتجاه سياسي ولا يعني أن النظام الأرتري لا يرغب في وجوده داخل أراضيه بأنه إنتهى، ثم أنه لا يمكن أن ننضم إليها ونحن داخل سجنها، الشيء الذي يعني حرماننا من أي خيار آخر طالما نحن تحت سيطرتها هذا من جانب، وقلنا لمبعوثيها إننا لا يمكن أن ننضم للحركة ونعمل تحت مظلتها لأن ذلك سيكون مجرد إنتهازية متى ما اتيحت لنا فرصة للخيار يمكن بكل بساطة أن نتركها غير آسفين هذا من الناحية الأخرى، ثم إننا أصلاً ضد سياسة "التكويش" التي تتبناها الحركة كمنهج إستقطابي.

أجزم –سيدي الرئيس- أنك كنت ستتخذ نفس، وتطرح ذات الرؤية، ولو أدى بكم ذلك للهلاك، إذا ما قدر لك وكنت في موضعنا ذاك. ولقلت ما أكتبه أنا الآن حول أن قيادة الحركة الشعبية في الجبهة الشرقية كانت من الضعف السياسي وعدم الفطنة بحيث لا تقدر على مواجهة متطلبات المرحلة الجديدة، إن ظلت تتمسك بمنهجها ورؤاها واعتبارها بأنها (الجنس الآري في السودان) والعرق السياسي الأكثر نقاء في الساحة مما يدفعها لتصفية أصدقائها ودفعهم إلى مواقع الخصومة قبل خصومها. أوليس هذا هو السودان القديم بعينه الذي ظلت تحاربه الحركة الشعبية ودفعت فيه ما دفعت من دماء وعرق ودمار.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق