”جلدة عاشرة“
”إن الحياة خلية خاصة جداً، وكلما ازداد فكر الإنسان صغرت الأمتار المربعة التي يجدها تحت تصرفه. أما أهم ما في الموضوع فأن يعرف كيف يقيم في ذاته هذا التوازن الذي يجعل العالم واسعاً كالسماء“.. هكذا يقول الروائي الإيطالي فاسكو براتوليني في روايته ”أخبار شعبية“ على لسان الراوي.. أو هكذا كان حالي –ورفاقي- عندما قررت قيادة الحركة الشعبية في الجبهة الشرقية نقلنا من سجن ”ربدة“ إلى سجنها في ”خور ملح“.
مع مضي الوقت قد اخترقنا، بفعل منظم، كل محاولات حصارنا داخل أسوار السجن الشوكية، وساعدنا في ذلك بؤس السجن، وخلوه من أي مورد ماء، مما يجعل إدارته تضطر إلى السماح لنا بجلب ماء الشرب –كما تفعل مع السجناء الآخرين- من الآبار (”الجمامات“) القائمة على المجرى المائي الموسمي الذي يلتف حول منطقة ”ربدة“، ومن خلفنا بندقية الحارس مشهرة.. استطعنا إقامة ذلك التوازن المطلوب، وزيادة مساحة العالم حولنا بما يكفي، ولكن –دون شك- ليس باتساع السماء.
في غدونا ورواحنا ذاك، كثيراً ما كنا نلتقي بمعارف لنا، سواء من الفصائل المسلحة الأخرى، أو من مقاتلي الجيش الشعبي الذين لم تلقِ بهم الأقدار داخل السور الشوكي، أو بعض من رفاقنا في التحالف، الذين آثروا البقاء في منطقة ”ربدة“.. كل أولئك كانوا يمثلون لنا دعماً معنوياً ومادياً، رغم ذلك الحصار.. حتى إصبع الحارس، الذي ظل يرافقنا في رحلتنا اليومية، صار يبتعد قليلاً عن الزناد، إلى أن وصل مرحلة أن يسمح لواحد منا الانطلاق للسوق الواقعة على الضفة الأخرى من المجرى النهري.. تلك هي المرحلة التي ربطتنا بالعالم خارج منطقة ”ربدة“، وصرنا نتواصل عبر رسائل شفاهية مع قيادتنا، عبر مدينة كسلا، حتى وصلنا مرحلة التواصل عبر الرسائل المكتوبة.. كل ذلك ومخابرات الحركة الشعبية مستغرقة في النوم على أذنيها..!!
كانت تلك مساحة كافية لنحدث ربكة ما، وعلينا استغلالها.. ظللنا نستمع من كل الذين إلتقيناهم لما تطلقه قيادة الحركة في الجبهة حول أمر اعتقالنا، وما تحاول أن تبثه من مبررات.. مثل خطورة عودتنا للسودان، ونحن نحمل كل تلك المعلومات الخطيرة عن المعارضة.. هذا في الوقت الذي وصلت فيه المفاوضات بين الحركة الشعبية وحكومة الخرطوم مرحلة جرد الحساب على كافة المستويات الأمنية والعسكرية والاقتصادية والسياسية، وما تبقى كان مجرد رتوش لتجميل وجه كل منهما.. أو أن علينا الانضمام للحركة –أو أي تنظيم سياسي آخر في حال مخاطبتهم للقوى الأخرى- لدورنا ”الكبير“ الذي قمنا به خلال مرحلة النضال، وأننا أصحاب ”قدرات“ لا يستهان بها، بل يجب الاستفادة منها.. وهل يتم هذا رغم أنفنا..؟!
طرحنا لقيادة الحركة، عبر رسالة شفاهية نقلها إليهم بعض رسلهم الذين كنا نلتقيهم داخل السجن، فكرة كانت ستساعدهم في الخروج من مأزقهم وورطة وجودنا في ظل هذا الوضع بينهم.. طرحنا عليهم إطلاق سراحنا فوراً لما سيحققه ذلك من مكسب سياسي بالنسبة للحركة في مرحلتها المقبلة، بعد ملابسات اعتقال الإرتريين لنا، أو معاملتنا كمواطنين متواجدين داخل منطقة يسيطرون عليها ويديرونها مثلها والجبهات الأخرى، إلى حين التوقيع النهائي على اتفاق السلام، إن كانوا لا يستطيعون إطلاق سراحنا نهائياً وفتح الطريق لعودتنا لأهالينا. كانت الفكرة ورطة أكبر بالنسبة لهم، خاصة بعد أن أذعناها في تلك المساحة التي خلقناها.
لكن يبدو انهم، مع افتقارهم للحس السياسي، فقدوا الحس ”الثوري“ بعد تلك الرحلة المضنية والطويلة من النضال، فقد كان ردهم كاشفاً لعقلية استمرأت الاستخفاف بعقول الآخرين، عندما قالوا انهم لا يستطيعون ذلك، لأن علينا في هذه الحالة العودة إلى الإرتريين كلاجئين، وأنهم لا يستطيعون التكفل بمسألة طعامنا وسكننا، ولا توفير الحماية لنا..!!
مسألة عودتنا كلاجئين في إرتريا، نعلم ويعلمون إنها ليست مستحيلة فقط، حتى أثناء بقاءنا في إرتريا لم نفكر فيها، ولا في تلك الإغراءات بالهجرة من بوابتها إلى تلك ”البلاد التي تموت من البرد حيتانها“.. فقد كان وجودنا فيها مرتبط بظروف سياسية محددة.. أما وقد انتفت أسباب بقائنا فيها، فإن وجهتنا هي السودان.. فلا نحن سنقبل ذلك، ولا الجبهة الشعبية الحاكمة في إرتريا ستقبل بوجودنا، بعد أن واجهت تلك الضغوط من أجل إطلاق سراحنا.. أما مسألة حمايتنا وأكلنا وشربنا، فقد كان هذا هو العيب الأكبر.. أن لا تستطيع الحركة الشعبية- بجلالة قدرها- ذلك.. كان ما قيل مثار استهجانٍ أكثر منه مثاراً للضحك -بالنسبة لنا- رغم أننا ضحكنا لهذا القول.. حسبناها، إن استقطعت قيادة الحركة الشعبية في الجبهة الشرقية من تعيينها الشهري عشرة حبات ”عدس“ وخمس ذرات ”شكر“ وعدة جرامات من ”الدقيق“ وقليل من ”الزيت“ -الذي تبيعه- لاستطاعت توفير معاش مائة شخص، ناهيك عن أربعة أو خمسة..!! والغريب أننا كنا نأكل ما يمكن أن نسميه ”وجبتين“ داخل السور الشوكي، وكنا نستظل تحت تلك السقيفة التي أقمناها من الأغصان والكرتون، ونتوسد بعض الجوالات الفارغة التي حصلنا عليها مع مرور الأيام، وكانت تحمينا تلك البنادق التي تحرسنا في ذات الوقت، والتي يحملها مقاتلون في الجيش الشعبي، وليست بنادق جيش آخر.. كل هذا يحدث، ولكن نحن داخل السجن.. إذاً المسألة ليست كما يقولون.
وأشير هنا إلى العديد من المظاهر التي تطبعت بها القيادات في الجيش الشعبي أو ”البنجات“ (ومفردها ”بنج“)، على الأقل في الجبهة الشرقية، وأهمها استغلال التراتبية العسكرية لخدمة مصالح شخصية تخص هذا القائد أو ذاك، وينسحب ذلك حتى على مستوى القيادات الدنيا من ضباط الصف.. هذا يدعمه الغياب الكامل للضوابط القانونية –أو تغييبها- التي تحكم العلاقة بين الأفراد، فمن السهل جداً أن يقودك إلى السجن مزاج رتبة أعلى لم ترق له شخصيتك، ناهيك أن تخالف تنفيذ أوامره الخادمة لمصالحه، وليست تلك التي تخص العمليات العسكرية.. ويمكنك أن تبقى بين أحضان السور الشوكي إلى أن ”يعتدل“ مزاج الرتبة الأعلى، وسيكون حظك في أسوأ حالاته إن غادر القائد المعني المنطقة لأي سبب من الأسباب، وإذا طال غيابه، فما عليك سوى انتظار لجنة عليا، لا يدري إلا الله متى ستنعقد، لتنظر في مشكلتك.
إلاَّ السلاح.. ممنوع بيعه أو التصرف فيه هنا في الجبهة الشرقية.. أما التعيينات فتباع ”على عينك يا تاجر“، أو تحت مسميات وبنود إدارية تفتح المجال على أوسع نطاقاته للاتهامات بالتلاعب بعائداتها، كما يروي أفراد الجيش الشعبي الذين يتوقون إلى حياة مثل تلك التي يعيشها قادتهم (على بؤسها) و”لم تكن متاعب العمل ولا مشقات الوجود، ولا آلام كل ثانية لتكبح غريزتهم“ كما يقول الإسباني سباستيان جوان في روايته دروب الليل.. وهذا ما يرويه لي أحد الملازمين المعتقلين داخل السور، وهو من الذين التحقوا بالجبهة الشرقية ضمن قوات ”Timber“، أن سبب وجوده هنا هو بيعه لسلاح كان قد حصل عليه في معركة خاضها ضد القوات الحكومية في منطقة ”رساي“، ولم يكن قد مضى على وجوده في الجبهة سوى عدة أسابيع.. يقول في حسرة مقهور: ”إننا في الجنوب نعيش من بيع السلاح الذي نحصل عليه في المعارك التي نخوضها ضد القوات الحكومية والمليشيات التابعة لها. الجيش الشعبي لا يصرف لنا مرتبات، ولكن يسمح للواحد منا ببيع كل الأسلحة الخفيفة التي يحصل عليها بعد أن يودع واحدة منها لدى مخزن السلاح الخاص بوحدته وأي أسلحة ليست من فصيلة الأسلحة الخفيفة. لقد أمضيت حوالي السنتين هنا في الجبهة الشرقية، أكثر من سنة ونصف منها بين الأسوار ولا أحد يريد أن يفتي في أمري.. ينتظرون اللجنة العليا التي ستأتي من الجنوب بعد انتهاء المفاوضات مع الحكومة. كل ذلك بسبب أنني بعت قطعة سلاح واحدة بعد أول عملية عسكرية خضتها ضد القوات الحكومية“.. ويواصل في استهجان: ”لن تستطيع القيادة هنا أن تفعل لي شيئاً بل ستنتظر إلى أن يأتي قائد الجبهة (كوماندر توماس سريليو)، يقولون إنه سيحضر قريباً في رفقة وفد كبير من قيادات الحركة العليا. حتى قضيتكم هو من يستطيع أن يحسمها.“
كنا في بعض الأحايين، أثناء سعينا بين صفا منابع الماء ومروة السور الشوكي، نلتقي بالعديد من قيادات الحركة العليا في الجبهة الذين ظلوا يتهربون من لقائنا مباشرة، نلتقيهم ويلتقوننا دون رغبة منهم في ذلك، وكأننا العدو الأول لهم..!! إلى أن كان ذاك اليوم الذي التقينا فيه (مجدي سيد أحمد وياسر وأنا) بالمقدم ”ياسر جعفر“، وكان في تلك الفترة يمثل قائد الجبهة في ظل الغياب الذي امتد لفترة طويلة لقائدها المكلف ”كوماندر توماس سريليو“ لأسباب متعلقة بجولات التفاوض واللجان المصاحبة لها.. هكذا وجدنا أمام عربته التي يقودها، دون سابق إنذار، أو من حيث لا يحتسب، وبقدر ما حاول أن يتفادى لقاءنا، بقدرما كان الطريق ضيقاً جداً.. لم يكن من مناص أن يوقف عربته ويترجل –وهو الذي كان يتردد على مكتبي في مقر المكتب التنفيذي للتجمع الوطني الديمقراطي بأسمرا لأنجز له بعض الأعمال التي تخص الجيش الشعبي، ولكن ماذا نقول غير ما يقوله الفرنسيون: ”Ci la vie“.. وها هو يسلم علينا بحرارة مفتعلة، أدهشت كل من كان على الطريق في تلك الأثناء، حتى حارسنا أصابته لعنة الدهشة فلم يدر أيصوب بندقيته نحونا ونحن مغمورون في أحضان قائد الجبهة أم يقف في الوضع ”جنباً سلاح“..!؟ وبين هذه وتلك قال له ”مجدي“: «نحن نعلم الوضع الذي أنتم فيه بسببنا». فرد عليه: «أنتم مجرد أمانات عندنا».. فقلنا معاً: «لسنا أمانات، بل ودائع عندكم»..!! ووعد بأن يلتقينا في وقت لاحق، ولكن لم تكن لديه الشجاعة الكافية لذلك..!!
سيدي رئيس الحركة الشعبية..
من السهل أن نرتكب الأخطاء، ولكن الاعتراف بها ومعالجتها، ومن ثم تجاوزها، يتطلب شجاعة لا تتوفر سوى لدى الذين يدركون أن الحياة هي المعلم الأكبر. وأننا، طالما على قيد الحياة، سنظل مجرد تلاميذ فيها. أما الذين يقفون موقف المعلمين الأبديين ويقفون عند حد هذا السقف، فلن يعترفوا بأخطائهم ولن يسعوا لتجاوزها وبالتالي لن يتعلموا منها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق