في تذكر د. عصام محمد صالح إبراهيم - من دفاتري القديمة

أمير بابكر عبد الله

بهرب منك لي رضاك

ومن أجلك بحاول أنساك

أمهد ليك تتخلص مني

ألقى خطاي تجمعني معاك

لرائعة الراحل إبراهيم عوض ذكرى أثارها الزميل الصديق "هندي".

فمن عمق التاريخ جاءني صوته قبل نحو ستة أشهر، بعد ظهر رقم اتصال غريب على شاشة تطبيق الواتساب.

قلت: مرحبا

قال لي: إزيك يا أمير، أنا هندي.

الصورة: من فيس بوك

وكانت في تلك الأيام دائرة معركة تستخدم فيها كل وسائل الضرب تحت الحزام بين "الهندي عز الدين" وخصومه، وأنا خارج لتوي من "معمعة" الكتابة لصحف الخرطوم بعد أن تم إخطاري من قبل إدارة تحرير جريدة "التغيير" بإيقافي عن الكتابة لأغادر بعدها مباشرة السودان.

فخطر في بالي من آثار تلك المعركة الإسم. فقلت للطرف الآخر باستغراب: الهندي عزالدين؟؟!! واستغرابي لأني لا أعرف الهندي عزالدين شخصياً وربما لا يعرفني هو حتى إسماً يكتب في صحف الخرطوم.

لأسمع ضحكة طويلة من الطرف الآخر: الهندي عز الدين بتاع شنو يا زول؟ أقول ليك هندي .. هندي.

واستجمعت ذاكرتي، بسرعة غير معهودة، اطراف خيوط الصوت الذي لم يشنف أذناي منذ أكثر من ربع قرن.. إنه زميل الدراسة ورفيق جلسات الأنس والسمر وإبن الجزيرة المشاغب "هندي" ودكتور الاقتصاد الآن، لأردد بصوت مسموع: يا مقطوع الطاري من وين ظهرت؟ ودارت الذكريات وصالت بين ثنايا حديثنا الذي استمر طويلاً، ليتواصل حديثنا بعدها على فترات متقطعة.

المهم ظهر إسمه على شاشة الواتساب أول امس، لتردني رسالة منه وتواصلت الدردشة بيننا إلى أن كتب لي ضمن جملة عابرة إسم "أمير عصام".

ارتبكت وأنا أقرأ الإسم، وداخلني شك لأكتب له مستفسراً: تقصد المرحوم "عصام"

كتب لي: وإنت ما عارف إنو المرحوم عصام أطلق إسمك على أحد أبنائه؟

يا الله .. يا الله

تحملت آلام المرض الذي يعصف بجسدي هذه الأيام، وجلست بعد أن كنت مستلقياً وأنا أدردش مع "هندي"، وعادت لي الروح.

عصام محمد صالح إبراهيم

الدكتور عصام إبن نائب دائرة حلفا والمحس في انتخابات 1986، عمنا محمد صالح إبراهيم، الذي اختطفته يد المنون وهو في قمة عطائه. لا حول ولا قوة الا بالله، كلما أهرب من هذه الذكرى يأتي من ينكأ مخزون الألم داخلي.

لكنه هذه المرة ألم طغت عليه فرحة هذه المعلومة، مشاعر مختلطة وأنا أعلم بعد اكثر من عشرين عاماً أن صديقي الحبيب عصام أطلق اسمي على أحد أبنائي.

وتتدفق الذكريات

كنت آخر مرة ألتقيه فيها داخل أروقة مستشفى الخرطوم مطلع التسعينيات، وكانت وقتها تتعالى صيحات "أمريكيا روسيا قد دنا عذابها"، كان طبيباً عموميا. وقال لي سأتخصص في الأمراض العقلية والعصبية. أعلم أنه سينجح في مجاله الذي اختاره، فهو رغم جمود قلبه عندما يمسك بالمشرط ليفتح جرحاً في جسد الإنسان وتماسك يديه وهو يقطب ذات الجرح بعد انتهاء العملية الجراحية، يمتلك قلباً آخر مفعم بالنكتة والمرح ويحمل صدراً آخر يملأه الفن والطرب.

منذ الصغر أستمع إلى الفنان الراحل إبراهيم عوض، فقد كنت حكماً بين خالتي التي تعشق غناءه وخالي الذي يعشق غناء الفنان صلاح أبن البادية، وكنت أنا الحكم بينهما.

لكن أغنيات إبراهيم عوض لها مذاق خاص بصوت الدكتور عصام، فبرغم طوله الفارع ووجه الذي تميزه التقاطيع النوبية بوضوح إلا أنه عندما يصدح بالغناء تختلف الأشياء، وهو لا يحب غناء صلاح ابن البادية مما رجح كفة خالتي لاحقاً.

كانت نواحي شارع ميكلوخا ماكلايا في موسكو تتمايل طرباً، عندما يأتي المساء ونعود من صالات الدراسة، على أنغام صوت عصام، فمن "البلوك" الثاني وحتى البلوك العاشر كنا نتجول معاً إلى أن التحق بمجموعتنا هندي ورفاقه وعلى رأسهم الصديق عبدالبديع بابكر محيسي" له الرحمة والمغفرة"، ولعامل السن لابد أن أذكر اسمه هنا.

وعندما نكون في غرفتنا التي نسكنها معاً، قبل أن ينتقل كل منا إلى السكن الخاص بكليته، كانت كل أغنياته التي يطربنا بها على أنغام آلة العود الذي يجيده صديقنا الدكتور أشرف البنا، كان يغنيها لصورة علقها على إطار جذاب يحمل داخله رسم إبنة خاله التي يحبها والتي تزوجها بعد عودته والتي أنجبت "امير عصام". تلك الصورة داخل الإطار التي لم تفارقه قط.

وكانت أغنيته المحببة التي كثيراً ما يرددها "عزيز دنياي"، ويكاد وجهه يختفي لتطغى عليه كلمات الأغنية إلى أن يصل إلى :

بهرب منك لي رضاك

ومن أجلك بحاول أنساك

أمهد ليك تتخلص مني

ألقى خطاي تجمعني معاك

كنا نقف حينها ونهتف لعمق المعنى ولمحاولتنا الهروب المستمر من حالة الغربة التي نعيشها وكل يغني إلى ليلاه.

شكراً عصام فقد أكرمتني حياً، وها أنت تعيد إلي روح الكتابة وتكرمني بعيد رحيلك. وشكراً هندي

والتحية لـ"أمير عصام" ولوالدته ولبقية الأسرة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق