حواش الذاكرة وتضاعيفها - 2

حاشية ثانية

هل حدث أن ضربك جارك ولم تنظر إليه أمك شذراً؟؟ هنا مدرسة تربية مختلفة. جميع كبار حي السكة حديد في أي محطة من محطاتها يساهمون في تربيتك وتقويمك، إضافة للمنزل والمدرسة. ويمكن لأبيك أن يضربك قبل أن يعرف سبب عقاب جارك لك ومن ثم يبحث عن السبب ليعالجه بطريقته الخاصة. هذا ما حدث لي في يوم خريفي عندما أوسعني جارنا ضرباً وهو يقبض علي متلبساً بالتعرض لإبنته. لم أكن وحدي ذلك اليوم، وإنما برفقة شقيقها خالد نتسكع بين شوارع الحي منتصف النهار ونخوض في بقايا المياه الراكدة بعد فجر ماطر لا زالت بقايا سحبه تتبختر في الفضاء.

الصورة: هكذا مضت بنا الحياة

كانت شادية قادمة من المدرسة تتمخطر بثوبها الأخضر المطرزة أطرافه بالأبيض، وكأني بها بربيعها المشع تنافس بهجة الخريف وزحمة ألوانه التي تملأ الأرض، نظرت إلى كلينا باستعلاء فهذا عامها الأول في المدرسة الابتدائية ومدت لسانها في سخرية، مؤكدة تفوقها علينا فقد ارتادت عالماً فارق الطفولة إلى رحاب عالم القراءة والكتابة والدفاتر المدرسية، وهي التي كانت قبل عدة أيام تتوسل إلينا لكي نسمح لها باللعب معنا. كانت مزهوة بنفسها بعد عودتها من المدرسة وهي تحاول عبور الطريق المؤدي إلى المنزل. رمقتنا بنظرة جعلتني أُخرج من جوف الطين أكثره لزوجة وأقذفه في وجهها وثيابها. كنت في قمة نشوتي وأنا أقذفها بكرة الطين تلك وخالد يصفق بكلتا يديه وهو يقفز فرحاً ومتعة، وخالد لا يدري إن ذلك الطين يحمل محبة لذلك الوجه الجميل وهو يسارع في الوصول إلى أطرافه ليلطخه. كانت شادية جميلة دون شك، ووجهها الطفولي مشبع بالحياة والشقاوة معاً، هذا الوجه هو ما ربطني بخالد أكثر وفتح أمامي بوابة أعذار للقفز على جدران البيت، فالوقت الذي يستغرقه سلوك الطريق إلى الباب الخارجي يبدو طويلاً جداً ومملاً، أو هو ما صورته لي روح أعوامي الخمس.

هكذا ضبطنا والد شادية بالجرم المشهود، من حيث لا ندري، وسؤال بريء يطل بين أطراف قبضته التي أحكمها على يدينا ما الذي أتى به في هذا الوقت المبكر، وكيف لم ننتبه لقدومه ونحن نعب كفينا بالطين لنصبه على محبوبتي؟. وكأنما انسل من بين جدران بيوت السكة حديد ببدلته الرسمية التي بلون الطوب الأحمر الباهت الذي يميز تلك المباني. أكثر ما يميز بيوت السكة حديد المنتشرة على طول أرصفة المحطات هو الطوب الأحمر والنظام الهندسي والتخطيط المتشابه وأشجار النيم، البيوت تشير مباشرة إلى الدرجات الوظيفية لقاطنيها أم أشجار النيم فغير ظلها الذي نستظل به أثناء هجير الصيف ونحن نمارس طفولتنا لعباً ولا يبارحها الصبيان والشباب بعد الظهر، لكن اليوم كان لها شأن سيظل عالقاً في ذاكرتي ولن يترجل عنها. استل منها والد شادية فرعاً رقيقاً مرناً بيده اليسرى بينما لا زالت يمناه تحكم قبضتها على كلينا خالد وأنا، وانهال علينا ضرباً مبرحاً. بين صياحنا الذي شق عنان السماء في ذلك الظهر، أطلت أمي من بين فرجة الباب الخشبي الأخضر ووجها مليء بالهلع على صغيرها الذي يصرخ بهذا الصوت، وما أن رأت جارها ينهال علي بالضرب وفرع النيم ينتقل من جسدي إلى جسد خالد إبنه حتى انفرجت أساريرها وارتسمت ابتسامة ماكرة على شفتيها ملأت صدري الصغير حنقاً وجاءني الوحي بأن كيدهن عظيم فعلاً، فأنا أضرب بسبب تلك الفتاة اللعينة وأمي تبتسم في وجهي بمكر. تلك الإبتسامة بمثابة إعلان رسمي للانتقال إلى مرحلة أخرى واستخدام منهج ووسائل أخرى بعد أن طفح الكيل وتحملت رذالتي لقرابة الخمسة أعوام.

لم تكن شادية حالة فريدة من نوعها اندلقت في مجرى شرايين دهشة الطفولة، فكثيرات هن شادية. لكن مثلما تلك القابلة اللعينة التي أخرجتني من رحم أمي، كانت قبضة والدها ولسعات فرع النيم على جسدي لا تشبه ضربات أبي ولا أمي وهما يستشيطان غيظاً بسبب شقاوتي، وامتزاجها بابتسامة أمي الماكرة اللئيمة حفرت سطراً مختلفاً داخلي. ومثل كل الأشياء ظلت شادية في نظري لعبة ملفتة للانتباه أسعى للاستحواذ عليها باستثارة غضبها واستفزاز سنتين من عمرها تتفوق علي بهما. ومثلما كنت أعض بلثتي على حلمة ثدي أمي بمتعة شديدة، خاصة حين تنتفض وتنزعه بقوة في انزعاج ثم تلقمني حليبها مرة أخرى، كنت أشتهي أن أعض بأسناني على شادية، لكني كنت محتاراً في أي جزء من جسدها أغرس أسناني. تعلقت بهذه الرغبة أكثر في نهارات الخريف الغائمة وصباحات الشتاء القارس حين أستيقظ مبكراً لأنتظرها وهي تتمخطر في ثوب المدرسة الجديد وحذائها اللامع وأكثر ما يثير غيظي تلك الحقيبة التي تحملها على كتفها. ودائماً ما أرسم على وجهي ذلك التعبير المتجهم الذي يمكن أن يثير حنقها، فتنظر إلي ثم تهرب بنظراتها وهي تسارع الخطي.

قبل ان ينتهي العام الدراسي الذي لا ناقة لي فيه ولا جمل، أعلن والدي نية السفر. هكذا مضت بي الحياة منذ أن وقف والدي أمام لجنة الاختيار للخدمة المدنية عقب استلامه نتيجة الشهادة الثانوية. كان أول الداخلين لمقابلة اللجنة رغم أن الجدول معد حسب الحروف الأبجدية للدخول، ولهذا الأمر قصة ظل يرددها امتناناً لمعلميه في المدرسة الوسطى بمدينة شندي. إذ صادف أن كان منسق التسجيل للدخول أحد معلميه في تلك المرحلة، فما أن رأى إسمه بين المتقدمين للوظائف في الخدمة المدنية، وكانت وظائف خالية لكل المؤسسات والهئيات الحكومية، حتى وضعه على سلم القائمة. اختار والدي العمل في هيئة السكة حديد من بين عدة مؤسسات مطروحة، وكانت الهيئة وقتها تضم إلى جانب السكة حديد هيئة المواني البحرية والنقل النهري، وأعلنت اللجنة فوراً قبول ترشيحه، وخرج بعدها مباشرة ليقف أمام لجنة الاختيار أخرى خاصة بمشروع أنزارا الزراعي في الاستوائية وتم قبوله وحدد له موعد للسفر. 

اختار وظيفة السكة حديد متحملاً مسؤولية البقاء قريباً من والدته "جدتي" التي ظلت تعمل وتعول أبناءها لسنوات منذ وفاة زوجها في وقت مبكر من طفولتهم، والمساهمة في رعاية إخوته إلى جانبها. تم توظيفه في أول درجات السلم كمساعد مفتش لتبدأ رحلته ورحلتي. كتبت مرة في هذا الشأن، إن أبي اختار هذه المهنة التي أتاحت له فرصة مشاهدة السودان من أقصاه إلى أقصاه في كل الاتجاهات وفوق ذلك يستحق راتباً شهرياً نظير علمه، ولكنها أتاحت لي نفس الميزة مجاناً أن أشاهد ويتشرب وجداني ثراء التنوع واكتشاف خصائصه وتتسع ذاكرتي باتساع مساحة السودان جغرافياً وثقافياً واجتماعياً.

الستة أعوام الأولى من عمري لم أنشيء خلالها علاقات دامت أكثر من عام  لكنها لم تسقط من الذاكرة بكل تفاصيلها. كانت علاقتي أقوى بجدران البيوت والأزقة والطرقات الواسعة أكثر متانةً. من فرط تشابه مباني تلك المحطات التي تنقلت إليها بصحبة والدي، أخال أنني لم تغادر إلى مدينة أخرى، ولها سحرها الخاص  وسطوتها التي تفرضها على ساكنيها وخصوصيتها التي تميزها عن مساكن بقية المدينة الفاخر منها والشعبي. سحر وسطوة تنسرب إلى داخل الوجدان فتراهم يتكلمون لغة واحدة رغم تباين جغرافيتهم، فمن حلفا إلى جوبا ومن أقصى الشرق إلى نيالا ينطقون لغة خاصة بهم  لا يشاركهم فيها أحد، ومشاعرهم تنبع من وجدان القطار من عصر الفحم الحجري إلى عهد ماكينات الديزل، ويتنفسون برئة جماعية رائحة واحدة رغم تعدد المناخات. لا يشعر أحد بالغربة وإن تنقل من مدينة وأخرى طالما احتوته تلك المباني، إلا القادم لأول مرة لكنه سرعان ما يغادره هذا الإحساس بفعل ذلك السحر. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق