الوحدة في التنوع

المقولة التاريخية التي تقول: 

(لا يمكن أن تتقدم اأمة أو تزدهر دون أن تستصحب معها تأريخها وثقافتها وفنونها)

إنطلاقاً من هذه المقولة علينا إستجلاء موقفنا من تاريخنا وثقافتنا وفنوننا، لنحدد من نحن، ونجيب على شرط التقدم والإزدهار الذي ألزمتنا به تلك المقولة، وقد أمسكت بعصب المسألة، بالتوقف عند محطات عدة تميزنا كسودانيين، وقريباً من التساؤل المشروع في هذه الحالة هل نحن أمة مكتملة العناصر بالفعل أم إننا لا زلنا في طور التشكل؟ أم مجموعة شعوب بلا أرضية تاريخية ثقافية مشتركة، وبالتالي يمكن لسامرنا أن ينفض في ظل توفر الظروف الموضوعية لذلك باعتبار أن الذاتية أصلاً متوفرة.

الصورة: خريطة السودان

كمدخل يؤسس لهذا الإستجلاء من الواجب الإشارة لبعض الرؤى الدالة على قراءات ربما تكون مختلفة أو ربما تتفق في بعض مستوياتها مع بعض القراءات الأخرى. السودان بواقعه الجغرافي في التاريخ يختلف عن واقعه الجغرافي اليوم، وبالتالي تأثيرات ذلك التاريخ كثيراً ما تغيب عند قراءتنا لتاريخنا اليوم، إذ نقرأه من حيث الواقع الجغرافي اليوم. فعندما نتحدث عن حضاراتنا القديمة وتاريخنا القديم نحدد ذلك بواقع اليوم مغفلين واقع ذلك الزمان. فمثلاً عندما نتحدث عن مملكة نبتة وحكم بعانخي لمصر العليا نقرأه وفي ذهننا الحدود الجغرافية المرسومة حديثاً، حتى التاريخ الحديث بعد سقوط الممالك المسيحية وقيام الممالك الإسلامية في بدايات القرن السادس عشر نقرأه بعيداً عن التأثيرات والتطورات المحيطة به، ونغفل تصدع منظومة الحكم الإسلامي المركزية وتشظيها إستجابة لعوامل داخلية ثقافية تخص كل منطقة على حدة.

لذلك يمكن قراءة التاريخ واعتبار أن لعناصره (في الوقت الحاضر) دور ووظائف غير مباشرة هي أصلاً عناصر ثقافية في وقتها ولكنها فقدت وظيفتها ودورها المباشر، وكل عنصر ثقافي يكون له دوره ووظيفته المباشرة في الحراك المجتمعي الآن بالضرورة هو عنصر حداثي في بدايته وجد كثيراً من الحواجز ولم يتم قبوله في إطار الثقافة إلا بعد عملية فرز ألوان لما يمكن قبوله أو رفضه ثقافياً. ونضرب لذلك عدة أمثلة عديدة قديمة وحديثة، فالتاريخ الملوكي في منطقتنا والعديد من المناطق الأخرى يتعامل مع دفن الملوك كطقس مقدس حيث يدفن الملك بممتلكاته، ورغم إندثار هذا التقليد لكن لولاه لما استطعنا فك رموز كثير من شفرات التاريخ، بل نتيجة له نشأ علم الآثار ودوره وأثره المباشر في تطور العملية الثقافية عموماً، وباندثار هذا التقليد وتطور المجتمعات تغيرت طرق ووسائل فك تلك الشفرات.و إذا أخذنا تاريخ تطور الغناء في ثقافة الوسط مثلاً نجده غير مقبولاً في مرحلة تاريخية معينة، بل يوصف من يمارسونه بالصعاليك وتبلغ درجة رفضه حد العزل الإجتماعي. الآن المشهد تغير حيث أصبح الغناء والموسيقى جزءاً من أداء حتى القصائد الدينية.

ربما نلاحظ من خلال هذا المدخل المهم بالنسبة لنا أننا في السودان الحالي نقف على أرضية تاريخية ثابتة، المتحول الآن هو الثقافي. تلك الأرضية تقوم عليها حضارات قديمة إمتدت إلى ما قبل التاريخ الميلادي مثل كوش ونبتة ومروي ودخول عناصر مهمة أخرى غيرت من مسار تلك الحضارات كالديانة المسيحية والإسلامية، لتنشأ ممالك وسلطنات أثرت في تاريخ أفريقيا الوسيط وتأثرت بمحيطها كذلك، مثل علوة والمقرة وسنار وتقلي والمسبعات ومملكة الفور وسلطنة المساليت والداجو ووداي وتمبكتو وغيرها. ثم جاء الإستعمار بقوة السلاح (التركي المصري والإنجليزي المصري) ليبدأ مسار جديد في تاريخنا.

إين نحن الآن من كل هذا؟ وهل شكل التاريخ ملامح هويتنا الثقافية؟

علينا أولاً أن نحدد مفهومنا لمسألة الهوية الثقافية لتسهل علينا الإجابة على هذه التساؤلات، ولابد من الإشارة هنا إلى أن الهوية الثقافية هي كائن جماعي حيّ يتغير ويتحوّل أوّلا من الداخل بفعل تغيّر المرجعيات القيمية، وثانيا من الخارج بتأثير تطور علاقات الفرد والمجموعة مع التحوّلات الكونية.

واقعنا الثقافي الآن يقول إننا بلد متنوع الثقافات، وهو واقع موروث ليس مرتبط بهجرات حديثة، بل بهجرات قديمة تمتد إلى مئات السنين إلى الوراء، ومرتبط أيضاً بالواقع الجغرافي للسودان الحالي بحدوده السياسية المعروفة. وهذا التنوع ليس محصوراً في رقعتين جغرافيتين انفصلتا الآن (جنوب – شمال)، كما يحاول أن يصوره البعض لاجئاً للحلول السهلة في التعاطي مع مثل هذه المسألة، بل حتى داخل الرقعتين الجغرافيتين المذكورتين كلٌ على حدة نجد أن هناك تنوعاً ثقافياً واضحاً، ما ينفي مزاعم كثيرة تحدد الإختلاف الثقافي كعنصر أساسي لضرورة الإنفصال بين الشمال والجنوب. هذه المزاعم قادت إلى مفاهيم مثل أن السودان "آفرو عربي" الهوية أو " عربي أفريقي" الهوية، بقراءة تضع فاصلة بين هويتين ثقافيتين، متجاهلة بذلك القراءة الصحيحة للتاريخ والواقع.

الإشارة السابقة إلى مفهومنا لمسألة الهوية الثقافية يقود بالضرورة إلى قراءتنا لما يجري، لنحدد أين نحن الآن. نحن سودانيو الهوية، وهي قائمة على التنوع الذي يجب المحافظة عليه وتجييره لصالح الوحدة. لعل هناك عدة حقائق موضوعية تفرض هذا الواقع:

أولاً: التاريخ القديم، تاريخ مشترك ساهمت فيه كل شعوب السودان آنذاك وإن بدرجات متفاوتة بعضها سلط عليه الضوء كثيراً وأخرى قليلاً.

ثانياً: الهجرات القديمة داخلياً ومن الخارج، تلك الهجرات التي ساهمت في تخلق هذا الواقع. داخلياً يمكن الإشارة إلى نوبة الشمال والجبال ومشتركات اللغة التي أبرزها عدد من الباحثين، وطبيعة المجتمعات في الممالك القديمة مثل كوش ونبتة ومروي. أما التي جاءت من خارج الثقافة السائدة والرقعة الجغرافية المتعارف عليها فكان لها دورها وتأثيرها، وقتها ومستقبلاً، وهي الهجرات ذات الطابع المسيحي والإسلامي. تجدر الإشارة هنا إلى أن الديانات انداحت على سكان هذه المنطقة عندما جاءتهم سلمياً.

ثالثاً: تاريخ الإستعمار الحديث (التركي والإنجليزي المصري)، هذا التاريخ يكشف بجلاء وحدة نضال أهل السودان، وإن تمعنا ملياً في ذلك التاريخ لأدركنا أن الثقافة في فترات الزحف الاستعماري ظلت تقاوم وتحفظ الهوية والخصوصية من مظاهر الاستلاب رغم الهزائم العسكرية. ظلت الهوية قوة روحية جامعة لقيم الوجود التاريخي، فمثلاً لا زال الرث والسلطان هو سيد الموقف ولا زال تعدد الزوجات هو الشائع، وإعتمدت الإدارة الإستعمارية واستعانت بالإرث الثقافي والإجتماعي في بسط سيطرتها على المنطقة.

رابعاً: فشل الإتجاه الأحادي للدولة السودانية الوطنية بواسطة أدواتها وآلياتها في فرض ثقافة واحدة، لتجذر تلك الثقافات والتي تفاعلت طبيعياً مع تلك الوافدة، وسودنت ما صدر إليها ولم يمح سودانيتها (على تنوعها) بقدر ما تأقلم معها. 

التعامل الإيجابي مع هذا الواقع، واقع التنوع الثقافي، يفرض إعتماد آليات مختلفة عن تلك التي تدار بها العملية الثقافية والتي قادت إلى الوضع المتأزم الراهن (استمرار الحرب والصراع حتى بعد انفصال الجنوب). ويبدأ أولاً بالإعتراف به وهذه مسألة حسمت مسبقاً، بل فرضها الواقع نفسه، ثم لابد من إدارتها ديمقراطياً بحيث تبرز ذلك التنوع. هذا يتطلب دولة قائمة على مؤسسات ديمقراطية ومنهج حكم ديمقراطي مؤهل لإدارتها، كما يتطلب حراك شعبي قادر على فرض وإبراز ذلك التنوع.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق