اللهم لا نسألك رد القضاء ولكن اللطف فيه - من دفاتري القديمة

قبل المحاكمة

على أيام الرئيس الفريق إبراهيم عبود، وبعد إعتقال منفذي إحدى الإنقلابات العسكرية ضد نظامه (وكانت قد جرت العديد من المحاولات الانقلابية لإزالة حكم الجنرالات آنذاك من قبل منتسبين لنفس المؤسسة العسكرية)، توفي والد أحد منفذي ذلك الانقلاب في مدينة خارج العاصمة حيث ولد وترعرع ذلك الضابط. فكان أن سمحت له السلطات الأمنية بالسفر لأداء واجب العزاء في والده (وتلك سنة من بديع ذاك الزمان جعلت الأحوال تسير هكذا داخل الأجهزة الأمنية بعيداً عن الغل والتشفي والتعسف).


سافر المعتقل إلى المدينة وتلقى العزاء في والده، عليه رحمة الله، وحدث في تلك الأثناء أمر فيه من الطرافة ما يستدعي الوقوف عنده، إذ وقف احد العاملين في السلك القضائي (من أبناء المدينة) منادياً ومحرضاً الجمع بالثورة ضد حكم الجنرال عبود، مردداً العديد من الشعارات التي تدعو لذلك. لم يمض سوى وقت قصير حتى وجد صاحبنا نفسه معتقلاً ومرحلاً إلى الخرطوم بين عشية وضحاها. وهناك وبعد تحقيقات وتحريات أرادت السلطات تسوية الأمر دون ضجة بعد إصرار صاحبنا على إنه لم يقل إلا الحق، فكان أن أعد سيناريو بحيث يذهب صاحبنا إلى معالج نفساني لفحصه وتنتهي القضية عند هذا الحد، ولكنه وقف أمام الطبيب مصراً على أنه ليس بمجنون ولكنه يقول الحقيقة وإنه لا يخشى في ذلك لومة لائم وذلك بحضور الضابط المرافق له في هذه المهمة، ليرد عليه الدكتور بأن من يقول الحقيقة في هذه البلد هو المجنون بعينه. وهذه حقيقة جعلت الدكتور في وضع قيد الإعتقال لولا دفوعاته بأن ذلك من أساليب العلاج النفسي للمريض ليس إلاَّ. قبل المحاكمة عندما ينال المتهم حقوقه بعيداً عن التشفي والتعسف يمكنه الذهاب حتى إلى حبل المشنقة بإطمئنان، أما إذا ما صاحب إجراءات ما قبل المحاكمة صور من التعسف والتحايل والغل وإستخدام السلطات في غير محلها فإن الشخص لن يكون مطمئناً إلى أحكام قاضيه حتى لو كانت قضية رأي. 

وهذا نموذج لمن إعتقد في ظلم قاضيه فقرر أخذ حقه بيده، كما ورد في موقع أردني إلكتروني أن أحد المواطنين أقدم على محاولة دهس ثلاثة من القضاة في محافظة الدلم التي تبعد 20 كيلومتراً عن الخرج أثناء ذهابهم لأداء صلاة الظهر بأحد المساجد القريبة من المحكمة.

وقالت إن المواطن ترصد لأحد القضاة بعد أن رفض حكم شرعي أصدره القاضي بحقه، وترصده خارج المحكمة وعند مشاهدته للثلاثة قضاة حاول أن يدهسهم بسياراته إلا أنهم تمكنوا من الهرب، فما كان منه إلا وأن قام بملاحقتهم بسيارته، ولم يتمكن من اصابتهم بأي ضرر. وقامت الشرطة بتطويق منزل الجاني وألقت القبض عليه وشرعت في استجوابه.

على عكسه تماماً إستسلم آل جور وهو يعلن بعد هزيمته أمام جورج دبليو بوش عام 2000 بقرار من المحكمة الفيدرالية العليا، وهى أعلى محكمة أمريكية بأن هذا القرار ظالم ولكننى سوف أقبله لأنه لا توجد آلية ديموقراطية أخرى للأحتكام إليها.

مصير القاضي الظالم والجاهل

عن بريدة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "القضاة ثلاثة: واحد في الجنة، واثنان في النار: فأما الذي في الجنة: فرجل عرف الحق فقضى به. ورجل عرف الحق فجار في الحكم، فهو في النار. ورجل قضى للناس على جهل، فهو في النار". وتذهب القراءات الخاطئة لهذا الحديث بأن ثلثي القضاة في النار، بينما الصحيح أن المسألة لا تحسب كمياً بل نوعياً.

يذهب رواة التاريخ إلى أن الأمير سيف الدولة الحمداني كان ظالماً ومن دلائل ظلمه إنه كثيراً ما يفرض الضرائب على الناس ويصادر أموالهم أكثر من مرة، بإدعاء سبب الحروب التي كان يخوضها للمحافظة على ملكه. وكان قد ولى قضاء حلب في فترة من فترات حكمه أحد أظلم القضاة وهو أبو حصين الرقي الذي كان يقول جملته المشهورة "كل من هلك فلسيف الدولة ما ملك". وتنبه سيف الدولة إلى قاضيه الظالم بعد طول مدة قضاها في موقعه، فلما سقط قتيلاً في إحدى المعارك داسه الأمير بفرسه وهو يقول "لا رضي الله عنك، فإنك كنت تفتح لي أبواب الظلم". فالقاضي هنا يزين للسلطان الظلم أو يحميه بجوره في الحكم على معارضيه أو من يتظلم منه من المواطنين.

على عكس القاضي أبو حصين، فقد جاءت رواية عن سيدنا علي رضي الله عنه واليهودي والدرع الذي إدعى كل واحد منهما ملكيته. وعندما احتكما إلى القاضي بناءاً على طلب اليهودي، طالب القاضي اليهودي ببينة تثبت إدعاءه ملكية الدرع فقال اليهودي: إنها في يدي. وطالب القاضي سيدنا علي ببينة تثبت إدعاءه ملكية الدرع فجاء بشاهدين أحدهما إبنه الحسين، فرفض القاضي شهادة الإبن "وإن كان من سادة شباب الجنة"، وحكم القاضي لليهودي بملكية الدرع، وبقية القصة معروفة.

وفي رواية عن المأمون إنه أثناء تجواله في مدينة حمص في الشام سأل أحد أهلها عن قضاتهم، فقال له الرجل: إن قاضينا لا يفهم، فقال له المامون: ويحك، كيف ذلك؟ فرد عليه الرجل بأن رجلاً إدعى على آخر مبلغاً قيمته أربعة وعشرين درهماً، وأقر الرجل أمام القاضي بذلك، فطالبه القاضي برد المبلغ إلى صاحبه. فقال الرجل للقاضي: يا سيدي القاضي إنني أمتلك حماراً أتكسب منه كل يوم أربعة دراهم، أصرف درهماً على الحمار ودرهماً على نفسي وأدفع لصاحب المال درهمين حتى إذا جمعت ماله غاب عني الرجل فأنفقتها، ولا أرى خلاص سوى أن يحبس القاضي ذلك الرجل لمدة إثني عشرة يوماً لأتمكن من جمعها مرة أخرى ليأخذ حقه علي. فحبس القاضي صاحب الحق حتى جمع المدعى عليه المال. فضحك المامون من الرواية وعزل القاضي.

من كتاب اشهر المحاكمات

هزمت سبارطة أثينا في حرب دامت بينهما سبعاً وعشرين سنة، وفرضت عليها ضمن ما فرضت نظام الثلاثين مستبداً. وفي هذا الجو من الإحباط والإحساس بالهزيمة تنامت الأحقاد وتصفية الحسابات ولكن العدالة ظلت سارية، حيث عدد القضاة في أثينا يبلغ ستة آلاف مواطن متطوع يتم اختيارهم سنوياً بطريقة عشوائية ويوزعون بعد الإختيار إلى إثنتي عشرة محكمة في كل واحدة منها خمسمائة قاض وقاض.

المحكمة منعقدة في الهواء الطلق في ربيع عام 399 قبل الميلاد، حيث جلس خمسمائة قاض وقاض وفي مواجهتهم رئيس المحكمة ومن حوله حراسه، لمحاكمة متهم اليوم الفيلسوف سقراط، وأن المسؤولين عن اتهامه كانوا ثلاثة : "أنيتوس"، وهو يمثل رجال الصناعة والسياسيين، و"ميلتوس" وهو يمثل الشعراء، و"ليكون" ويمثل الخطباء، واتهموه بالكفر بالآلهة وبإدخال شياطين جديدة إلى المدينة وإفساد الشباب. وهي تهمة عقوبتها الموت وكان سقراط قد بلغ السبعين من عمره. ( وكما يصفه الكتاب) فهو قبيح المنظر بعينيه الجاحظين وأنفه الأفطس ووجهة الممتلئ ناهيك عن ثيابه المهملة والمكونة من معطف صوفي لا أزرار له ولا حزام . وفوق كل ذلك، فإنه لا يمشي إلا حافي القدمين، في الصيف كما في الشتاء. ولد سقراط في أثينا عام 469 ق .م في عائلة تعمل في النحت وعبثاً حاول أبواه تعليمه المهنة . كان لا يميل إلا للحوار ومناقشة الآخرين حول مختلف المواضيع داعياً إياهم إلى التفكير معه والتأمل. كان يجوب المدينة يتحدث إلى المارة ويستوقف الشباب يفقههم في أمور الوجود وجوانب الحياة. وأثينا في ذلك العصر من الديمقراطية، كانت تعج بالفلاسفة ورجال السياسة والأخلاق يسعى الناس إليهم ليأخذوا عنهم اصول الفكر، وكان هؤلاء يتقاضون عن تعليمهم أتعاباً باهظة في معظم الاحيان. أما سقراط فكان يرفض بيع فكره. كان يعتبر أن الفلسفة ممارسة عضوية ويومية، وأنها وبالتالي، نمط حياة. وغنى عن القول أن سقراط لم يكن مواطناً أثينياً كالآخرين . فهو لم يأبه لماديات الدنيا على الرغم من زواجه وإنجابه ثلاثه أولاد، بل كان دائم الزهد في ما يشغل الناس. وهذا ما جعله غامضاً، بل وموضع سخرية في الكثير من الاحيان. غير أنه لم يعدم وسيلة لتوضيح حقيقة أمره، كان يرد على مسامع محاوريه أن حقيقة إلهية تدفعه للتصرف وأن هذه الحقيقة يمكن أن لا تكون سوى ضميره القابع في أعماق نفسه. تلك المشاعر وهذه الأفكار هي التي لم ترق للبعض، وهي التي أوصلته لأن يمثل اليوم أمام المحكمة، باعتبار أنه "يفسد الشبيبة ولا يؤمن بآلهة المدينة "

في بدء الجلسة، ولم يكن في نظام المحاكمات آنذاك ما يسمى اليوم بالادعاء العام ، وقف المدعي الأول مليتوس يتكلم عن مفاسد سقراط في المجتمع. وأعقبه المدعيان الآخران ليكون وانيتوس وكلهم طلبوا الحكم بالإعدام على " العجوز الشرير". ولانيتوس هذا مبرر آخر للادعاء على سقراط فقد كان إبنه تلميذا من تلاميذ الفيلسوف و "مضللاً به" وهذا ما يفسر انشغاله عن صنعة أبيه وهي الاتجار بالجلود. يضاف إلى ذلك أن سقراط تهكم عليه مرة أمام الناس خلال مناقشة جرت بينهما. ومن سوء طالع العجوز ايضاً، أن كريتياس، المستبد الدموي والعميل لسبارطة، كان من بين تلاميذه، في فترة من فترات حياته. إتخاذه كريتياس وآخرين غيره ممقوتين في مجتمعهم تلامذه له هو من قبيل انفتاحه على الجميع، دون النظر إلى آرائهم الساسية والفلسفية أو إلى نمط الحياة التي يعيشون. وباختصار، إن سقراط، بأفكاره ومناقشاته، بدأ يصبح شخصاً مزعجاً، ليس للسلطات فقط، بل للآباء الذين رأى بعضهم أبناءه يخرجون عن طاعتهم ويلحقون بالمعلم.

بعد انتهاء المدعين الثلاثة من كلامهم ، جاء دور المتهم. وكان قد قيل لسقراط، عند اقتراب يوم المحاكمة: «ألا تعد دفاعك وتعنى بإعداده؟» فرد سقراط متجاهلاً: «وماذا كنت أفعل إذن طوال حياتي؟ ما أظنني كنت أفعل شئا إلا إعداد ذلك الدفاع..!» وسأكتفي هنا بما عبر عنه صراحة في المحاكمة على النحو التالي: «يجب أن تعلموا، أيها الأثينيون، لو أني كنت حاولت الاشتراك في شؤون الدولة، لكنت هلكت منذ زمن طويل، دون تحقيق أي مصلحة لكم أو لنفسي...، ليس هناك أي إنسان يمكنه أن يبقى آمنا، إذا عارضكم بأمان وصدق، وحاول منع وقوع تجاوزات كثيرة يمكن أن تحدث في الدولة، ضد العدل والقانون. لذلك يجب على من يريد أن يصارع من أجل الحق، إذا رغب أن يكون آمنا ولو لفترة قصيرة من الزمن، أن يحيا حياته الخاصة بعيدا عن معترك السياسة.»

وقبل أن نرفع يدينا بالدعاء "اللهم لا نسألك رد القضاء ولكن نسألك اللطف فيه" نتساءك ما هو الفرق بين إحترام القانون وإحترام الحكم القضائي؟ وهل الحكم القضائي هو دائماً عنوان للحق طالما رسولنا الكريم قال "قاضي في الجنة وقاضيان في النار"؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق