اغتيال السفير الأمريكي في الخرطوم - 7 - الاقتحام .. أو إذا وقعت الواقعة

فيما كان أعضاء منظمة أيلول الأسود يخططون لعمليتهم في مكاتب فتح، كانت الخرطوم تزينت بأهازيج الفرح صباح اليوم الأول من مارس، فغداً يحل الثاني منه وهو يوافق احتفالات البلاد بالذكرى الأولى لوقف الحرب في الجنوب وأعياد الوحدة الوطنية بعد توقيع إتفاق أديس أبابا بين الحكومة السودانية وقوات الأنيانيا. وبالرغم من أن الاحتفالات الرسمية ستجري في مدينة جوبا إلا أن الخرطوم نالت نصيبها من الفرحة بوصول الإمبراطور هيلاسلاسي الأول، إمبراطور أثيوبيا، إلى مطار الخرطوم لمشاركة السودانيين بهجتهم وهو راعي الاتفاق.

الصورة: غلاف الكتاب

لم يتوقع أحد أن الشارع الذي سيمر من خلاله موكب الرئيس نميري وضيفه الإمبراطور من المطار إلى قصر "الشعب" وسط عاصفة من الهتافات الجماهيرية، ستشهد الشوارع المتفرعة منه مساء اليوم أحداثاً مختلفة لا علاقة لها بتلك الأجواء الإحتفالية. فقد كانت بؤرة الاهتمام الأمني مركزة على طول هذا الشارع من المطار إلى القصر، دون أن يفطن أحد إلى الجانب الآخر من الصورة، وبالتحديد في الرقعة المحيطة بشارع 31 العمارات "إمتداد الدرجة الأولى" حيث السفارة السعودية.

السفير السعودي عبدالله الملحوق عميد السلك الدبلوماسي بالخرطوم، اختار وقتاً مناسباً لإقامة حفل وداع القائم بالأعمال الأمريكي. وهو يعلم أن هناك مناسبة أخرى أكثر أهمية تنتظر السادة السفراء وممثلي البعثات الدبلوماسية في ذات المساء، حيث يقيم الرئيس جعفر نميري حفل عشاء رسمي بحدائق قصر الشعب على شرف الأمبراطور هيلا سلاسي، وهم مدعوون إلى جانب كبار رجالات الدولة. لذلك ما أن اقتربت الساعة من الخامسة مساءاً حتى كان شارع 31 يمتلئ بالسيارات التي تحمل لوحات دبلوماسية لمختلف الدول التي لديها تمثيل في الخرطوم، عدا قلة غابت لأسباب مختلفة. فمثلاً السفير الأثيوبي الذي كان من المستهدفين في تلك العملية ببسبب موقف بلاده من القضية الفلسطينية وعلاقتها المميزة مع إسرائيل، فقد كان حضور الإمبراطور إلى الخرطوم وإلتحاقه بوفده سبباً كافياً لإعتذاره للسفير السعودي عن حضور الحفل. أما السفير المصري الذي غاب أيضاً فلم يكن هناك سبباً معروفاً لغيابه.

في تلك الأثناء كانت الترتيبات والتحضيرات لحفل قصر الشعب أخذت لمساتها الأخيرة من القائمين على أمرها، لكن هناك ترتيبات أخرى تجري داخل مكتب منظمة فتح. بتجاوز عقارب الساعة السادسة و10 دقائق مساءاً والشمس تفارق سماء الخرطوم، استعد الثمانية أعضاء المنتسبين لأيلول الأسود، وحملوا أسلحتهم المتنوعة في العربة اللاندروفر التي تخص المكتب متحركين في اتجاه السفارة السعودية. وكانت الساعة السابعة إلا ربعاً مساءاً هي ساعة الصفر المقررة للهجوم على الحفل المقام هناك.

بداية تنفيذ العملية

الشارع الضيق الذي تنتشر على جانبيه سيارات السفراء لم يشكل عائقاً أمام الحركة السريعة للعربة اللاندروفر، لكن السيارة اللاندروفر اصطدمت بعربة لمواطن سوداني صادف مروره في ذلك الوقت. قائدها لم يكترث للامر ومضى في طريقه إلى أن توقفت أمام بوابة السفارة في الوقت الذي كان فيه بعض السفراء يقفون في الخارج في انتظار سياراتهم. ترجل أربعة من الفدائيين –حسب الخطة المرسومة- وأشهروا أسلحتهم نحو الواقفين على الرصيف من السفراء الأجانب وأمروهم بالعودة أدراجهم داخل السفارة، بينما أطلق إثنان من المقتحمين زخات رصاص في الهواء ألجمت كل من يفكر في شيء مخالف. وبدا الأمر كأنما لا يحتاج لكل ذلك الرصاص، إذا سرعان ما عاد الجميع إلى الداخل، وسيطر الفدائيون على الموقف بإحكامهم سد المنافذ الخارجية للمبنى ووصولهم للصالة التي جرت فيها مراسم الحفل.

في أثناء إطلاق النار أصابت رصاصة القائم بالأعمال البلجيكي الذي كان يهم بالخروج لحظتها فنقلوه إلى الداخل، توجه بعدها كرم لجمع الموجودين داخل القاعة للتأكد من هوياتهم بعد احتجازه للسفير السعودي. وبسرعة شديدة حدد المسؤول السياسي للعملية كرم أهدافه، وهم القائم بالأعمال الأمريكي المحتفى به والسفير الأمريكي الجديد الذي جاء ليخلفه والقائم بالأعمال البلجيكي المصاب والقائم بالأعمال الأردني إلى جانب صاحب الدار. وحسب الخطة المرسومة تولى رزق مسألة إخلاء السفارة من الأشخاص غير المطلوبين فقام بإخراجهم الواحد تلو الآخر، بعد أن سلمهم نسخة من البيان الذي يحوي مطالبهم.

زوجة السفير السعودي تتذكر

رفضت زوجة السفير السعودي السيدة عصمت الملحوق الخروج وفضلت البقاء إلى جوار زوجها في هذه المحنة، ولا تزال تلك الفترة عالقة بذهنها، بل ونشرتها ضمن كتاب عن تجربتها الطويلة مع زوجها في مختلف بلدان العالم باسم "الدبلوماسية واجهة ومواجهة". رغم قدرة الزمن على التخفيف من وطأة ما تختزنه من آلام، فإن السيدة عصمت لا تزال تعيش في خضم التجربة، «فهذا جرح لن يندمل وسيبقى معي إلى الأبد ما دمت حية وما دام طفلي الشاب محمد يتحرك أمامي وهو الذي دفع ثمن تجربة السودان كلها منذ أن وصلنا إلى هذا البلد في مهمة دبلوماسية تتعلق بزوجي، حيث ساهم ارتفاع الحرارة في الخرطوم وتأخر الطبيب عن الوصول إلى إصابة محمد وهو لا يزال طفلا بخلل دماغي. واكتملت المصيبة عندما تسبب انقطاعه عن تناول مادة الكورتيزون أثناء الحصار الذي تعرضنا له  ثلاثة أيام على أيدي المسلّحين إلى ماء أزرق في عينيه أدّى إلى ضعف شديد في بصره."

وتواصل "أذكر كل ما جرى وكل كلمة قيلت، لا تغيب عني عيون الرهائن القلقة وهم  في طريقهم للمرة الأخيرة إلى القبو ليدفعوا حياتهم ثمناً لأمر لم يقترفوه. أصواتهم المخنوقة لحظة إطلاق رشق ناري كثيف لا أنساها أبداً... روائح الموت ولحظات الخوف... أتذكر كل ذلك وأنا قوية وأتعامل مع ما جرى كدرس علّمني الصبر وقلة الخوف ومعالجة القلق بالإيمان والتضحية في سبيل من نحبهم ومن يحتاجون الى المساعدة في لحظات الضعف وتحديد المصير."

وعن ما استفادته من تلك التجربة تقول السيدة عصمت "خرجت منها أقوى أمتلك قدرة على مواجهة الصعاب. شخصيتي تبدلت وصرت مسؤولة أكثر وفخورة أكثر بالدور الذي لعبته تجاه جميع من كان في هذه الورطة، بدءاً من زوجي مروراً بالرهائن الأربعة القائم بالأعمال الأميركي الذي كنا نقيم الاحتفال على شرفه لمناسبة انتهاء مهماته، إلى جانب السفير الأميركي الجديد الذي لم يكن بعد قد تسلّم مهمته، والقائم بالأعمال البلجيكي والقائم بالأعمال الأردني، وصولاً إلى المسلحين أنفسهم الذين تعاطفت مع قضيتهم رغم أسلوبهم الخاطئ في إيصال رسالتهم. لكن في المقابل أخذت مني هذه التجربة  معنى الفرح الذي كان إبني محمد يمثله لي والذي كان ضحية مهمة زوجي في السودان وأدائه واجبه المهني بطلب من حكومة المملكة."

وتواصل زوجة السفير السعودي "في الواقع كل ما فعلته يومها كان عفوياً، لكن لو عاد بي الزمن ووضعني في التجربة نفسها لقمت بما قمت به تماماً، صحيح أن البعض لاموني على التضحية غير المحسوبة بنفسي فيما أنا المسؤولة عن أربعة أطفال، إلا أنني يومها لم أتصرف بلغة الحسابات وإنما بدافع إنساني ومن منطلق تربيتي وأخلاقياتي التي فرضت عليّ الوقوف مع زوجي في محنته فأبيت المغادرة وتركه يواجه مصيره وحده وكنت مدفوعة بعاطفتي دون أن أحكّم عقلي. وكانت إحدى بناتي هي أول من وضعني أمام السؤال الصعب: «ماذا لو كان مصيرك أنت ووالدي الموت على أيدي الخاطفين يومها؟ ألم تفكري بنا وكيف لنا أن نعيش دون أبوين وما المصير  الذي ينتظرنا»؟ لقد قمت بما أملاه علي ضميري تجاه زوجي والرهائن الأربع الذين كانوا معنا وتجاه الخاطفين، ولن أبدل في أي تصرف كما لم أندم على أي شيء لأنني فعلت وزوجي كل ما في وسعنا، علما أننا كنا بدورنا مهددين وغير ضامنين بقاءنا على قيد الحياة. وكنت أيضا في قرارة نفسي متأكدة أن الحكومة السعودية سترعى عائلتي إذا أصابنا مكروه أنا وزوجي."

البيان ومطالب أيلول الأسود

شد المكلفون وثاق السفيرين الأمريكيين والقائم بالأعمال البلجيكي وتوجهوا بهم نحو البدروم أسفل المبنى لاحتجازهم هناك، بينما بقي السفير السعودي والقائم بالأعمال الأردني في الطابق الأرضي تحت الحراسة دون أن يشدوا وثاقهم لكنهما وضعا تحت الحراسة المشددة. واتصل كرم بالسلطات السودانية لإبلاغها بمطالبهم، حينها أدركت وزارة الداخلية حقيقة ما حدث. وجاءت مطالب ايلول الأسود كما يلي:

اولاً:

الإفراج فوراً وخلال 24 ساعة عن القائد أبو داؤود ورفاقه الستة عشر.

الإفراج عن رافع الهنداوي ومحمود الخليلي وكل العسكريين المحتجزين في سجون الأردن.

الإفراج عن خمسين معتقلاً في سجون الأردن على أن يكون من ضمنهم الأخوات المعتقلات والمناضلون خطاب وأبو علي خالد وأبو الهيثم وغازي الخليلي وحمدي مطر ومعروف حسن عارف وصالح رأفت وفوزي حسن وسعود أحمد عبدالكريم واحمد محمود إبراهيم والشيخ عزالدين ومحمد سعيد.

ثانياً:

أن تفرج الولايات المتحدة الأمريكية عن سرحان بشارة سرحان فوراً.

أن تفرج دولة الإحتلال الصهيوني عن الأخوات المعتقلات في سجونها الفاشية.

ثالثاً: أن تفرج الحكومة الألمانية عن مجموعة بادرن ماينهوف ووزيلي بول وديتر، المعتقلين في سجون ألمانيا لموقفهم المؤيد للثورة الفلسطينية، مقابل الإفراج عن الرهائن.

لم يكن ينقص وزارة الداخلية في مثل هذا اليوم إلا هذا، وبدا واضحاً الإرتباك الأولي الذي خلفه الحادث المفاجئ في أجندة السيد النائب الأول لرئيس الجمهورية وزير الداخلية اللواء محمد الباقر أحمد، وتطلب الموقف استدعاء عاجل للوزراء لعقد جلسة طارئة لمجلسهم. إتخذ الاجتماع قراراً بمواصلة إحتفالات عيد الوحدة الوطنية كما مرتب لها، ويغادر الرئيس نميري مع ضيفه الإمبراطور هيلا سلاسي صباح غدِ الجمعة إلى جوبا التي تقام فيها الإحتفالات. وكون المجلس لجنة ثلاثية من السادة اللواء محمد الباقر أحمد النائب الأول لرئيس الجمهورية ووزير الداخلية والرائد أبو القاسم محمد إبراهيم وزير الصحة وعمر الحاج موسى وزير الإعلام والثقافة لتكون حلقة الاتصال بين الحكومة والفدائيين.

وطار الخبر وذاع وعم القرى والحضر، ليحقق إقتحام السفارة السعودية في الخرطوم بواسطة عناصر أيلول الأسود أول أهدافه، وهو وضع القضية الفلسطينية في أول جدول الأخبار العالمية.

إستفادت هذه الحلقات من:

أرشيف جريدتي الصحافة والأيام الصادرتين إبان تلك الأحداث.

تقرير وزارة الخارجية المودع لدى دار الوثائق القومية (احداث أيلول الأسود في الخرطوم .ز الواقعة وردود الأفعال).

مذكرات أبو داؤود.

بعض المقالات والمتابعات في الصحف والانترنت.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق