اغتيال السفير الأمريكي في الخرطوم - 6 - العصفور في النخلة على النيل

التقط مكتب فتح بالخرطوم خبر الدعوة التي سيقيمها سعادة السفير السعودي وعميد السلك الدبلوماسي في السودان، عبدالله الملحوق، بمناسبة إنتهاء مهمة القائم بالأعمال الأمريكي كريتس مور، وفي ذات الوقت إستقبال السفير الأمريكي الجديد كليو نويل. لم يكن بالإمكان أحسن من ذلك، بل هي فرصة ذهبية فتحت شهية أعضاء أيلول في العاصمة الخرطوم وقياداتها في شارع الخرطوم ببيروت للإسراع في الإعداد والتحضيرات لعملية إقتحام السفارة السعودية واحتجاز المدعوين للحفل.

الصورة: نميري يستقبل السفير الأمريكي

وانتقلت الشفرة "العصفور في النخلة على النيل الخميس فاتحة مارس"، تلك الشفرة التي التقطتها أجهزة الأمن السودانية ولم تستطع فكها، والعصفور كان السفير الأمريكي أما النخلة فترمز للسفارة السعودية بينما النيل هو الخرطوم.

زاد فواز ومجموعته من حركتهم وهم يرصدون شارع 31 بالعمارات، حيث يقع مبنى السفارة السعودية ويسكن السفير. ولم ينسوا المتابعة اللصيقة لعربات السفارة الأمريكية، خاصة العربة التي تخص القائم بالأعمال. ها هو مسرح العملية يقترب من الإكتمال مع اقتراب موعد الحفل، وهو توقيت لم يكن يحلم به الفدائيون. ففي هذه الأيام ستجري في السودان أول احتفالات لعيد الوحدة الوطنية والتي ستقام فعالياتها في مدينة جوبا بحضور الرئيس نميري وضيفه الامبراطور هيلا سلاسي.

أعدت مجموعة الخرطوم العاصمة نفسها جيداً، واكتملت إستعداداتها المطلوبة، وقد رسمت خريطة كاملة للموقع المستهدف وما يحيط به من بنايات ومداخل ومخارج. لم يكن صعباً عليها حتى معرفة تفاصيل مبنى السفارة السعودية من الداخل. فالمبنى يقع على شارع رئيسي، وفواز يعرف تفاصيله بحكم رئاسته لمكتب فتح في الخرطوم، وعلاقته ببعض السفراء العرب الذين يتعاطفون مع القضية الفلسطينية، وكانت السعودية بقيادة الملك فيصل على رأس الداعمين لفتح.

غير أنه يقع على شارع رئيسي وشارعين جانبيين، يحيط بالمبنى سور على ارتفاع مترين من الأرض، من ناحيته الغربية التي تقع على شارع جانبي وناحيته الشمالية التي تجاور ثلاثة مباني يسكن إحداها سوداني "مصطفى" والآخر يسكنه أجنبي من الدول الأوربية والأخير خالي من السكان. من الناحية الشرقية وفي أقصى الشمال الشرقي يوجد مكتب إستقبال يفضي إلى المبنى الرئيسي لمكاتب السفارة، أما الناحية الجنوبية فهي الواجهة الرئيسية للسفارة حيث يقف المدخل الرئيسي المفضي، عبر ممر أنيق تحفه بعض شجيرات الزينة والأزهار، إلى القاعة الكبيرة التي تقام فيها حفلات الإستقبال وتقوم أمامها حديقة تتوسطها نافورة مياه ويقع خلفها المبنى المخصص لسكن السفير السعودي المكون من ثلاثة طوابق.

هكذا إذاً تم رسم مسرح عملية الهجوم بدقة وتفاصيل. ولم يكن على فواز سوى انتظار إشارة من شارع الخرطوم ببيروت حيث تجري الإستعدادات هناك على قدم وساق. فقد إختارت قيادة المنظمة ستة من عناصرها الفدائيين وأخضعتهم لتدريبات خاصة بالعملية في موقعها التدريبي في شمال مدينة صيدا إلى أن يحين وقت استدعائهم.

وكما يجري عادة، لم يكن الفدائيون الذين تم اختيارهم يعرفون طبيعة المهمة التي سيكلفون بها ولا الموقع الذي سيذهبون إليه، سوى طارق جميل الذي تم اختياره لقيادة العملية عسكرياً. أما البقية وهم جمال حسن مصطفى، خالد إبراهيم، ماهر خليل، صالح محمد ومفلح قاسم، فكان عليهم الإنتظار حتى اللحظات النهائية من الإعداد ليتم إطلاعهم على التفاصيل.

فدائيون وأسلحة في الخرطوم

الخروج من مطار بيروت بأسلحة لم تكن تشغل بال قيادة منظمة أيلول كثيراً، كانت لهم طرقهم في تجاوز الحواجز الداخلية للمطار حتى صعود الفدائيين سلم الطائرة المصرية المتجهة للخرطوم عبر القاهرة. ولكن ما كان يشغلهم هو تجاوز عقبة التفتيش في مطار الخرطوم، فالعملية تحتاج لأسلحة ليست متوفرة لديهم في مكتب فتح، وأي عقبة في الطريق ستنسف كل الفكرة وستقود إلى نتائج عكسية. لذلك كان كرم ورزق في غاية القلق وهم يتلقون إشارة مغادرة الفدائيين لمطار بيروت، ومتوقع وصولهم للسودان بعد ساعات بالطائرة المصرية التي ستهبط اولاً في القاهرة ثم تواصل رحلتها.

لكن كانت لفواز رؤية أخرى، لذلك بدا مستقراً وهادئاً. فهو يعلم تعاطف السودانيين مع القضية الفلسطينية، وبصفته رئيساً لمكتب فتح كان قد خلق علاقات عديدة مع مسؤولين ومواطنين سودانيين في مختلف المواقع في الخرطوم. 

قال لهما عشية وصول الفدائيين، ليخفف من التوتر الذي أصابهما: سيكون كل شيء على ما يرام، لن يتم تفتيش الحقائب وستدخل الأسلحة بأمان.

عاملان مهمان ساعدا في دخول الحقائب المحملة بالأسلحة عبر المطار دون أن يتم اكتشافها، أولهما كما توقع فواز حيث للقضية الفلسطينية والمناضلين الفلسطينيين وقع السحر عند المسؤولين والمواطنين، وهو جواز كاف لدخولهم دون أية إجراءات تفتيش. أما العامل الثاني فهو موعد وصول الطائرة المصرية، التي تصل عادة في الفجر حيث يغالب العاملون في المطار بمختلف مهامهم الإرهاق والنعاس قبل أن يسلموا مهامهم لطاقم عمل آخر عند حلول الصباح.

كان فواز يدرك كل ذلك بخبرته وقراءاته، فترجل من العربة اللاندروفر التي تحمل لوحة دبلوماسية قرب مدخل صالة الوصول فجر الثامن والعشرين من فبراير، يرافقه رزق بينما بقي كرم داخل السيارة. تقدم فواز من ضابط للشرطة أطلعه على شخصيته الاعتبارية، فما كان من الضابط إلا القيام ببقية الإجراءات هاشاً باشاً بمساعدته لهؤلاء الفلسطينيين. وعبر الستة فدائيين بحقائبهم المفخخة بوابة المطار إلى أحضان فواز ورزق وهم يستنشقون هواء صباح الخرطوم العليل، والطقس في خواتيم أيام الشتاء يلفها بلفحات من البرد، لكنهم قادمون من بيروت حيث الطقس أشد برودة.

ليس هناك وقت؛ استغل القادمون سيارة أجرة "تاكسي" إضافة لعربة مكتب فتح يرافقهم رزق إلى قلب الخرطوم متجهين إلى فندق "الأرز"، وكأنهم لا يريدون أن يبارحوا لبنان حتى إسماً. لكن كان الفندق مشغولاً ولا توجد به غرف خالية ليتجهوا من هناك مباشرة إلى مكاتب منظمة فتح، لتفريغ حقائبهم من الأسلحة وأخذ قسط وافر من الراحة دون ان يقحمهم فواز في أجواء العملية هذا اليوم. وإنتقل الستة بعد ذلك ليقضوا بقية اليوم والليلة في فندق روكسي.

الأول من مارس اليوم الموعود

صباح اليوم التالي التقى الجميع داخل المكتب، وعلى طاولة طويلة تحلقوا حول خريطة مسرح الأحداث، ليشرح لهم فواز تفاصيل العملية التي سينفذونها مساء اليوم. كان كرم يتدخل من فترة لأخرى لإلقاء مزيد من الضوء على بعض النقاط، إضافة إلى توسع المهمة بعد الإقتحام، فالسفير الأمريكي لن يكون وحده المستهدف وهذا خاضع لتقدير قائد المجموعة. وتم توزيع المهام على الجميع إضافة لكرم، باعتباره المسؤول السياسي عن المجموعة، ورزق كملحقين من منظمة أيلول بالخرطوم. 

المهمة الأولى كانت من نصيب صالح محمد حيث كانت تعليماته أن يدخل فوراً خلف المبنى والسيطرة على المدخل وعدم البقاء طويلاً، مع مراعاة السور وعدم خروج او دخول أي شخص. وإذا تطلب الأمر عليه استخدام سلاحه فوراً. كما إن عليه إدخال الأشخاص المتواجدين بالحديقة إلى داخل الصالة باسرع وقت ممكن. وكان تسليحه مسدسا إضافة لقنبلة "قرنيت".

أما جمال حسن مصطفى فكان عليه الدخول فوراً إلى داخل الصالة، وتأمين الحقيبة التي يحملها في الصالة والمحافظة عليها. وعليه أن يعين فوراً موقعه بالداخل، والعمل على إغلاق جميع النوافذ والأبواب جيداً. وعليه أيضاً إسعاف أي شخص يصاب. وكان سلاحه بندقية كلاشنكوف وقنبلة يديوية "قرنيت".

وكانت مهمة ماهر خليل اقتحام الصالة والدخول فوراً إلى الباب الداخلي وحراسته بشدة مستعيناً بالبندقية الكلاشنكوف وقنلبتين يدويتين.

كرم "أبو غسان" تم تكليفه بأن يكون المسؤول السياسي للعملية، وهو من سيقوم بالتفاوض مع الجهات المختصة ويعرض المطالب التي يشملها البيان المعد لذلك. وعليه الدخول للصالة بعد ماهر، وكانت من مهامه تصنيف وفرز السفراء وكذلك مسؤوليته شد وثاق السفراء المطلوبين والسيطرة على الهاتف وإخضاعه لإمرته فقط. وكان تسليحه مسدساً وقنبلة يدوية.

طارق جميل كان يعلم إنه القائد العسكري للعملية قبل وصوله للخرطوم، وأكد الاجتماع على ذلك. وكان عليه إصدار الأومر بشدة وبعنف على كل الموجودين في الصالة وبصوت قوي. ثم عليه توزيع المهام لبقية الفريق واتخاذ القرار في حالة حدوث أي ثغرات أو تطورات غير محسوبة بعد مشاورة كرم ورزق.

 وكانت مهمة خالد إبراهيم أن يحمي رزق ومساعدته في الدخول للصالة والتمركز حسب أوامره. كما عليه السيطرة على الحديقة وإطلاق النار في حال حدوث أي مقاومة من حرس السفير الأمريكي. وكذلك إغلاق باب المدخل بإحكام وبسرعة. وتسليحه بندقية كلاشنكوف وقنبلة يدوية.

رزق كانت لديه عدة مهام، في مقدمتها السيطرة التامة على حرس المدخل وتقدير الموقف، ومن ثم الالتحاق فوراً بقائد المجموعة في الداخل. كما عليه تولي مهمة الحراسة المشددة ومساعدة كرم في شد وثاق السفراء المطلوبين. وعليه أيضاً السيطرة على الخارجين بإخراجهم الواحد تلو الآخر، وعدم السماح بدخول أي شخص وعدم إقترابهم من أي شخص. وكان مسلحاً بمسدس وقنبلة يدوية.

مفلح قاسم كانت مهمته المساعدة في الحراسة والتعامل مع أي تدخل من الخارج، وكان تسليحه بندقية كلاشنكوف وقنبلة يدوية.

شدد فواز على المهام مرة أخرى قبل أن يغادر بعد منتصف النهار إلى منزله، ويعد نفسه للحاق بالطائرة المغادرة إلى ليبيا قبل وقت تنفيذ العملية بساعتين، حيث سيكون "العصفور في النخلة على النيل" بعد أن اطمئن على كل الترتيبات الضرورية.

استفادت هذه الحلقات من:

أرشيف جريدتي الصحافة والأيام الصادرتين إبان تلك الأحداث.

تقرير وزارة الخارجية المودع لدى دار الوثائق القومية (احداث أيلول الأسود في الخرطوم .ز الواقعة وردود الأفعال).

مذكرات أبو داؤود.

بعض المقالات والمتابعات في الصحف والانترنت.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق