اغتيال السفير الأمريكي في الخرطوم - 11 - تنفس الصعداء في بحر من الدماء

نجح اخيراً الرئيس اللبناني صائب سلام في الجمع بين النائب الأول رئيس الجمهورية اللواء محمد الباقر أحمد ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية السيد ياسر عرفات تلفونياً. جرت محادثة طويلة بين الرجلين، أكد فيها عرفات مساعي منظمة التحرير الفلسطينية الجادة لوضع حد للأزمة، وأنهم نجحوا في التوصل إلى إتفاق مع جماعة أيلول الأسود لإنهاء الأزمة بعد التطور الأخير وإعدام الدبلوماسيين الغربيين المحتجزين.

الصورة: غلاف الكتاب

من جانبه أكد نائب الرئيس السوداني إنهم ملتزمون بما جاء في بيان مجلس الوزراء وانهم يطالبون الفدائيين بالإفراج عن الرهائن المتبقين وتسليم أنفسهم للسلطات السودانية، وضمان أن تجرى لهم الجهات العدلية محاكمات عادلة.

في ذلك الوقت –من مساء السبت الثالث من مارس- كان شارع الخرطوم ببيروت يشهد جدلاً بين قادة الجماعة، إلى أن توصلوا إلى صياغة رسالتين للخرطوم العاصمة. وبنهاية المحادثات بين اللواء الباقر والسيد ياسر عرفات وصلت برقية عاجلة من سفارة السودان ببيروت تشير إلى تلك المحادثة التلفونية بينهما، وتحمل بين طياتها رسالتين من جماعة أيلول الأسود.

الرسالة الأولى كانت موجهة إلى الرئيس نميري، جاء فيها:

تحية طيبة وبعد،

تقديراً منا لشعب السودان العظيم والذي وقف مع شعبنا في جميع المحن ولوقفتكم الشجاعة من شعبنا في مجزرة أيلول .. نضع شبابنا أمانة في أعناقكم .. واثقين من أنهم سيعاملون معاملة المناضلين الثوار.

.. أيلول الأسود ..

أما الرسالة الثانية، وهي التي احتوت على مفتاح حل الأزمة، كانت موجهة للفدائيين من جماعة أيلول الأسود في السفارة السعودية. جاء فيها:

من هشام ..

إلى طارق وأبو طارق وأبوغسان وجميع الأخوة ..

انتهت مهمتكم – أفرجوا عن السفير السعودي والقائم بالأعمال الأردني وتقدموا إلى السلطات بشجاعة وثبات لتقفوا أمام الشعب السوداني والعرب والرأي العام العالمي .. تشرحون قضيتكم. 

المجد والخلود لشهداء نهر البارد والبداوي شهداء الطائرة الليبية.

لم ينتظر اللواء الباقر وأعضاء لجنته طويلاً، بل سارعوا فور تلقيهم البرقية التي وصلت في وقت متأخر من الليل بواسطة الخارجية إلى الاتصال بالفدائيين في السفارة. قرأ عليهم اللواء الباقر ما جاء في الرسالة من قيادتهم. كانت الشفرة المتفق عليها واضحة ضمن الرسالة، فتهللت وجوه الفدائيين وهم يتنفسون الصعداء، وأبلغوا اللواء موافقتهم الفورية على التسليم والشروع في إجراء الترتيبات اللازمة. كان الترتيب الأول هو إخراج الجثث وتسليمها للسلطات السودانية، ثم تسليمهم أنفسهم والإفراج عن الرهائن.

تسليم الجثث

كانت السلطات قد وضعت ترتيباتها لاستلام الجثث قبل إعلان تسليم الفدائيين أنفسهم، ففي مساء السبت من نفس اليوم تلقى الدكتور الجراح مصطفى نور الهدى، بقسم الجراحة بالمستشفى العسكري بأمدرمان، محادثة تطلب منه أن يكون مستعداً لتسلم الجثث من السفارة السعودية بالخرطوم، وطلب منه أن يبقى في مقره إلى أن يتم الاتصال به مرة أخرى.

لم يتلق المحادثة إلا عند الساعة الواحدة من صباح الأحد، اتصل به الضابط المناوب بأن يكون مستعداً وذلك بأخذ عربتي اسعاف لنقل الجثث، وان يرافقه ثمانية جنود إضطروا للبس جلالايب وبنطلونات وقمصان لأن الفدائيين طلبوا أن يكونوا مدنيين.

إنتظروا من الواحدة صباحاً حتى الخامسة صباحاً حيث طلب منه التحرك بالعربتين إلى الخرطوم والوصول في غضون عشرين دقيقة. وبوصولهم الخرطوم إلتقوا بنقيب  في الجيش وضح لهم طريقة السير نحو السفارة السعودية، وطلب منهم ان يكون سيرهم بطيئاً.

عندما وصلوا إلى مبنى يبعد نحو 30 متراً من السفارة السعودية التقى بهم الضابط المسئول عن محاصرة السفارة وشرح لهم كيفية الدخول إلى السفارة. في تمام الساعة السادسة وربع تم الاتصال بالفدائيين كما تم إبلاغهم بالمايكرفون أن الطبيب قد وصل. فردوا عليه بأن يدخل منفرداً.

توجه د. مصطفى نور الهدى نحو مبنى السفارة بخطوات حذرة، وكلما اقترب من الباب الرئيسي اشتم رائحة متصاعدة لجثث آدمية، وعندما بلغ باب السفارة سمع نداء بالمايكرفون يسأله:

- هل أنت د. مصطفى.

فأجاب:

- نعم.

تقدم أحد الفدائيين ووضع قناعاً واقياً على وجهه وسلم عليه بحرارة وردد قائلاً:

- تفضل .. تفضل.

وعندما تجاوز الباب إلى الداخل سأله كرم:

- أين الإسعاف؟ وأين من سيحملون الجثث؟

رد عليه:

- أريد اولاً ان أرى الجثث، أعرف مكانها وأحدد طريقة نقلها ثم استدعي الإسعاف.

وفي شيء من الاستنكار قال له أحد الفدائيين:

- هل أنتم غير مقتنعين بإعدام الرهائن، ووجود الجثث؟

رد عليه الطبيب:

- ليس الأمر الاقتناع من عدمه، إنما أنا كطبيب علي أن أدخل أولاً لرؤية الجثث وتحديد ما يجب اتخاذه على ضوء معاينتي المباشرة، ثم استدعي من سينقلونها.

وبنهاية حديثه القاطع تقدمه أحدهم إلى البدروم بينما سار آخر خلفه. كانت أولى ملاحظات الطبيب أن الجثث ملقاة في بركة من الدماء، وأن أيديهم مقيدة بحبل بلاستيكي، لكن أقدامهم غير مقيدة. كل واحد من القتلى في زيه الكامل. ولاحظ أن آثار الرصاص في الجزء العلوي من اجسادهم في الوجه والصدر، كما لاحظ أن إحدى يدي المستشار الأمريكي شبه محطمة. كما لم تكن هناك آثار عنف أو مقاومة.

ولأنه لم يك يعرف السفير الأمريكي أو يلتقي بالمستشار الأمريكي أو يشاهد القائم بالأعمال البلجيكي، بدا الطبيب يسأل عن اسم كل واحد منهم ووظيفته. لاحظ الطبيب أنهم عندما يأتون على ذكر اسم مور المستشار الأمريكي تتسم لهجتهم بالحدة والضغط، ووصفوه بأنه صهيوني، وأانه وراء مؤامرة اللد وأنه هو المقصود.

كما قالوا له إن البلجيكي درس في جامعة الاسكندرية ويتقن اللغة العربية، وعندما احتجزوه كرهينة، كانوا يسألونه باللغة العربية ولكنه تعمد أن يرد عليهم باللغة الإنجليزية حتى كشفوا له أنهم يعرفونه وأنه يتعامل مع أعداء العرب.

بعد الانتهاء من معاينة الجثث، صعدوا مع الطبيب إلى غرفة الجلوس. أثناء ذلك قال له أحدهم:

- إن مهمتنا انتهت عند تنفيذ حكم الإعدام على الدبلوماسيين الثلاثة، والسفير السعودي والأردني بخير.

والتقى الطبيب بالسفير السعودي الذي طمأنه على احواله، ثم التقى بعدها بالقائم بالأعمال الأردني الذي بدا أيضاً بخير. وعلم بعدها من الفدائيين مرة أخرى ان مهمتهم انتهت وانهم يضعون الأسلحة في الطابق العلوي، كما أنهم أزالوا الألغام من حول السفارة. بعدها استدعى السفير الطبيب سيارتي الاسعاف التي حملت الجثث ونقلها إلى مشرحة مستشفى الخرطوم.

الاستسلام

مع خروج سيارات الإسعاف من البوابة الرئيسية للسفارة، جمع الفدائيون أسلحتهم في مكان واحد داخل السفارة. خرجوا بعدها واحداً تلو الآخر ليجلسوا مجتمعين في الحديقة القائمة أمام قاعة الاحتفالات الكبرى التي شهدت بداية الأحداث بالسفارة. كان المسؤولون السودانيون يقفون بالخارج، وقوات الأمن على أهبة الاستعداد تحسباً لأي طارئ. إنها اللحظات الأخيرة ليتنفس الجميع الصعداء بعدها بعد أيام عصيبة لم تكن في الحسبان.

أول من اجتاز بوابة السفارة إلى الداخل النائب الأول لرئيس الجمهورية اللواء محمد الباقر أحمد يرافقه وزير الداخلية الرائد ابو القاسم محمد إبراهيم ورئيس هيئة الأركان اللواء أركانحرب طيار عوض خلف الله، بعدها دخلت القوة المكلفة بإلقاء القبض على الفدائيين ليتم نقلهم إلى مكان خصص للتحفظ عليهم إلى حين البدء في إجراءات التحقيق معهم.

في تمام العاشرة والنصف صباحاً وقف السفير السعودي عبدالله الملحوق بزي بلاده الوطني الأنيق ليخاطب أول مؤتمر صحفي بعد الأحداث، شرح فيه ما جرى من أحداث في الأيام الماضية إلى أن تم إعدام المحتجزين الغربيين. أما القائم بالأعمال الأردني فلم يخاطب الصحفيين، واكتفى بالقول إنه من الطبيعي أن يكون هناك توتر في بداية فترة احتجازهم، وقال إنه لم يدر أي حديث او نقاش بينه وبين الفدائيين.

في ذات الوقت أصدر وزير الإعلام والثقافة والناطق الرسمي باسم الحكومة السيد عمر الحاج موسى البيان الثاني أمام مجلس الشعب حول عملية الهجوم على السفارة السعودية، جاء في ختامه:

سيدي الرئيس

السادة الأعضاء ..

يسرني أن أخطر مجلسكم الموقر بأن منظمة أيلول الأسود قد استجابت لمطلبنا –فقد سلمت الجثث وأطلقت الرهائن وسلم أعضاء المنظمة أنفسهم إلى السلطات السودانية.

ونحن نجتاز العقبة الأخيرة يتحمل الشعب السوداني ورئيسه المفدى كل تبعاتها – وهي الموازنة بين أن يكون بين أيدينا فدائيون وبين إلتزامنا الدولي نحو ما حدث في السفارة السعودية، ولكن السودان شعباً وقيادة سيقتحم العقبة الأخيرة كما اجتاز الأولى بكل العقل والتروي والهدوء والإلتزام وضبط النفس.

والله معنا وهو الهادي إلى سواء السبيل وإلى سواء الرشاد ولكم الشكر.

ختام سينمائي

نقل جثمانا الدبلوماسيين الأمريكيين إلى الولايات المتحد الأمريكية وكان في رفقتهما كل من وزير الخدمة والإصلاح الإداري السيد عبد الرحمن عبدالله والسفير عبد العزيز النصري، اللذان التقيا فيما بعد الرئيس الأمريكي نيكسون وقدما له التعازي نيابة عن الحكومة والشعب السوداني. وفي ذات الوقت نقل جثمان الدبلوماسي البلجيكي إلى القاهرة يرافقه السفير صلاح عثمان هاشم.

بدأت التحقيقات مع أعضاء منظمة أيلول الأسود الثمانية تمهيداً لتقديمهم للمحاكمة، التي اعترف فيها الفدائيون بتفاصيل العملية التي نفذوها في الخرطوم. فتح بلاغ في مواجهة المتهمين بالرقم 4724 بقسم الخرطوم جنوب، ووجهت لهم الاتهامات تحت المواد التالية التي تلاها ممثل الاتهام في مرافعته الختامية بتاريخ 9 يونيو 1974: 

(78/ 251)   من قانون العقوبات، الاشتراك الجنائي في القتل العمد.

 (391) من قانون العقوبات، التعدي الجنائي بعد إعداد العدة لتسبيب الأذي أو الاعتداء على أي شخص أو حجزه بغير وجه حق.

 (441) من قانون العقوبات، التهديد بتسبيب الموت أو الأذى الجسيم. 

 (288)من قانون العقوبات، الإعتقال غير المشروع. 

 (410) من قانون العقوبات، استعمال محرر مزور على أنه صحيح.

 (7/49) و(32/49) من قانون الأسلحة والذخيرة والمفرقعات لاستيراد أسلحة نارية واستعمالها بدون ترخيص.

في الرابع والعشرين من يونيو 1974 إصدرت المحكمة قرارها بالسجن المؤبد على المتهمين، بعد إدانتهم بالتهم الموجهة إليهم. في نفس اليوم رفع القرار للمحكمة العليا التي أيدت القرار. رفع بعدها الحكم إلى السيد رئيس الجمهورية جعفر محمد نميري مع توصية بالنظر في تخفيضه.

أصدر الرئيس نميري قراراً بتخفيض الحكم لسبع سنوات بدلاً من المؤبد، على أن يسلم المحكومون لمنظمة التحرير الفلسطينية بالقاهرة، حيث يوجد مكتبها الرئيسي هناك. كان تبرير نميري للأمريكان الذين غضبوا من هذا القرار، إنهم يعتبرون منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل للشعب الفلسطيني وبالتالي هم من سينفذون الحكم على المحكومين.

أودع المحكومون في أحد سجون القاهرة، وبعد فترة تمكن إثنان منهم من الفرار.

استفادت هذه الحلقات من:

أرشيف جريدتي الصحافة والأيام الصادرتين إبان تلك الأحداث.

تقرير وزارة الخارجية المودع لدى دار الوثائق القومية (احداث أيلول الأسود في الخرطوم .ز الواقعة وردود الأفعال).

مذكرات أبو داؤود.

بعض المقالات والمتابعات في الصحف والانترنت.

هناك تعليق واحد:

  1. شكراً أستاذ أمير.. تابعت السرد المشوق لحدث مهم.. لفت نظري الموقف العروبي واستقلالية القرار للحكومة السودانية في ذلك الوقت..

    ردحذف