أمير بابكر عبدالله
برغم ما قلناه في المرة السابقة حول ثالوث المُلك (السلطة)، الدين والعسكرية الذي يحكم سيطرته على تطور العقل القاهر، ويحاصر أي انفلات يمكن أن يطرأ على بنيته ووظائفها بإفراز تركيبة من مضادات التطور الإيجابي، تلك التركيبة الصالحة لكل زمان، محافظة على قيمها ومنهجها، برغم ذلك لم تتوقف مسيرة التطور في النظم الاجتماعية عبر تحولات مؤثرة اثناء المنعطفات الكبرى لذلك التطور. كافح العقل القاهر كثيراً في قمع ومحاولة احتواء المسارات المؤدية لما هو إيجابي والسيطرة على انتاج قيم جديدة ومنهج مغاير لا يتفق وعناصر تشكله. هذا قطعاً لا يعني نجاحه المتواصل في استئصال شأفة التطور، وإن نجح في تأجيل الصراع أحياناً وتمييعه في أحايين أخرى، لكن دائماً ما تبقى النار تحت الرماد محافظة على جذوتها.
سأروى واقعة (إشارة) هنا ربما تقرب المسافة بيني وبين القارئ الكريم للوصول لفهم مشترك هنا، وهي واقعة ليست التاريخ الموغل في القدم ولا حتى التاريخ المدون، ولكن شهودها بعضهم قدا انتقل إلى جوار ربه، وآخرون أحياء يرزقون. تقول الرواية إبان انتخابات العام 1965، وفي إحدى الدوائر المقفولة "للحزب" في مدينة ما، لم تمض الأمور كما هي العادة بأن ترسل الدائرة إسم مرشح الحزب أو كما قال الراوي كانت عبارة "إشارة الدائرة وصلت" كافية لحسم أي رغبات لدى بعض أعضاء الحزب المعني في الترشح في ذات الدائرة. في ذاك العام ترشح عن الحزب ثمانية أعضاء في تلك الدائرة، فكان أن وصلت إشارة الدائرة بأن "فلان" هو المرشح للدائرة من قبل الحزب، لكن رفض السبعة الآخرون التنازل عن الترشح. ما كان من الدائرة إلى أن أرسلت وكيلاً على مستوى رفيع من المسئولية لمحاولة تجاوز المشكلة وإقناع السبعة بالعدول عن قرارهم لصالح مرشح الدائرة. فشلت تلك المساعي مما أضطر رئيس الحزب على رأس وفد عالي المستوى للسفر بالطائرة إلى المدينة في محاولة لإثناء السبعة للعدول عن رأيهم، ولكن محاولات الوفد باءت بالفشل. فكان أن خاض الثمانية أعضاء الانتخابات باسم الحزب، ليفوز المرشح المنافس من الحزب الآخر في دائرة ما كان ليحلم بالفوز فيها.
ربما تكون هذه إشارة واضحة لملامح أزمة العقل القاهر، تلك الملامح التي صاحبت محاولاته القمعية ومنهجه الإقصائي وتكريسه المستمر لهيمنة الرأي الواحد طوال مسيرة التطور التاريخي للنظام الاجتماعي، للمحافظة على مصالحه. وهي إشارة تقودنا إلى البحث في أن العقل القاهر يعمل على كافة مستويات السلطة، ويسخر ثالوثه السحري لذلك، سواء على مستوى السلطة المديرة لأجهزة الدولة، أو السلطة على رأس المنظومات القبلية والحزبية، وحتى على مستوى الأسرة، سواء كانت تلك الأسرة ممتدة أو ننوية، أو حتى على مستوى المنظومات الاجتماعية والثقافية.
التحولات الكبرى التي شهدتها مسيرة التاريخ أثناء نشوء وارتقاء ثم انهيار الممالك والسلطنات، وحتى مسيرة الغزو والاحتلال سواء التركي المصري أو الانجليزي المصري، وإلى حين مجيء الحكم الوطني، تكشف عن تناقض كبير في قدرة العقل القاهر على الاستمرار والرغبة في التحرر من سيطرته. بل تذهب إلى أبعد من ذلك درجة، فتلك التحولات تحدث، وبالفعل أحدثت، صدمة ترتج لها مكونات ذلك العقل تجبره مرات على الإنحناء حتى تمر العاصفة ليعود من جديد، عندما تعجز خلايا التطور الإيجابي للعقل المنفتح على الآخر عن القدرة على تجذير قيمه ومفاهيمه على مستوى إجتماعي عريض.
كثيراً ما حدثنا التاريخ عن ثورات كبرى على مستوى السلطة، انهارت نتيجة لها ممالك وسلطنات وحتى ثورات إنهارت تبعاً لها حكومات في العصر الحديث، ولكن تلك الثورات لم تكن على مستوى الصراع بين العقل القاهر والعقل المنفتح على الآخر إيجابياً، بقدر ما هي صراع سلبي سرعان ما يعود بإنتاج جديد لذات القيم والمفاهيم والسلوك المتجذرة في بنية العقل القاهر. في تلك الأثناء يظل مكون القيم الإيجابية يتطور ببطء شديد، وفي فضاءات ستحيلها حتماً إلى الإنتشار الأوسع والسيادة، خاصة مع تنامي الوعي الفردي والجمعي. أو كما يذهب "قولدمان" إلى وسمه بالوعي الممكن، إذا اعتبرنا أن الوعي الفعلي ذلك الوعي الناجم عن الماضي ومختلف في حيثياته وظروفه وأحداثه كما يقول. لن أذهب في إطار التفسير الطبقي لتلك المقولة بقدرما ستعينني في الكشف عن ما يمكن ان تحدثه تلك التغيرات.
لنعود إلى تلك الواقعة (الإشارة) مرة أخرى، محاولين تفكيكها وإعادة تركيبها لنكتشف تلك الملامح التي ادعيتها عن أزمة العقل القاهر. أولاً تكشف تلك الواقعة بجلاء لا لبس فيه عن تمظهر العقل القاهر على كافة مستويات السلطة، فالحزب المعني صاحب تلك الواقعة يصدر اوامره من أعلى طوال الوقت لمنسوبيه وليس عليهم سوى الطاعة. وهنا يتجلى مفهوم الوصاية بوضوح شديد، فقد تعودت دائرة الحزب المركزية على طاعة منسوبيها للأوامر، ولا إعتبار لرأيهم. يتمثل ذلك في الإشارة بمعناها الحرفي. يرسل زعيم الحزب أو دائرته إشارة للشخص المعني بالدائرة الجغرافية تحدد مرشح الحزب. يبلغ الأعضاء بأن زعيم الحزب قرر ترشيح فلان لتلك الدائرة. النتيجة الطبيعية المتوقعة لدى العقل القاهر هي الاستجابة. لكن الواقعة تحيلنا هذه المرة إلى مستوى مختلف، فقد ترشح عدد ثمانية من اعضاء نفس الحزب لخوض الانتخابات في ذات الدائرة، مما يوحي بالتململ من تجاوزهم المستمر وتنامي وعي جديد يستحيل إلى وعي ممكن في مآلاته المنطقية. زيارة رئيس الحزب ومن قبله موفده تصب في اتجاه محاولات السيطرة على ذلك التطور الإيجابي، وإعادة ذلك التمرد إلى حظيرة قيم العقل القاهر. إصرار السبعة الآخرين على خوض معركة الانتخابات برغم كل ذلك، يمثل موقفاً جديداً، ويمثل موقفين متناقضين في ذات الوقت. الموقف الجديد نستبينه في التمرد على قيم ومفاهيم سائدة، أما الموقفين المتناقضين يتمثلان في معرفة الطرفين، الحزب من جهة والسبعة المتمردين من جهة أخرى، بأن هذا الوضع سيضعف الحزب وسيفقده مقعداً مضموناً وأن جميع المترشحين لن يفوزوا.
الرسالة الرئيسية التي نتلقاها أثناء محاولة إعادة التركيب مرة أخرى، هي الترسيخ لقيم جديدة ما كان العقل القاهر يضع اعتباراً لها، أبرزها "على الأقل شاورونا في من نرشح في دائرتنا." هنا تبرز تجليات العقل القاهر على المراوغة وإحناء رأسه للعاصفة في مرات قادمة، حتى يستعيد سيطرته على الوضع مرة أخرى، بدلاً من مواجهة الأزمة وإعادة بناء مكوناته لتتسق مع حتمية التطور. وذلك ما يمكن اكتشافه مرات ومرات أخرى ونحن نستجلي أزمة العقل القاهر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق