مذكرات في الطريق إلى الاستقلال "1-2"

أمير بابكر عبدالله

مطالب الأمة السودانية

في أول رد فعل على المسيرة المناصرة للشيخ (حاج الشيخ عمر) الذي تمت محاكمته إثر أول مظاهرة سياسية بأمدرمان في 19/6/1924 وإلقاء علي عبداللطيف خطابه السياسي المثير، كتبت جريدة الحضارة "إن البلاد أهينت لما تظاهر أصغر وأوضع الناس دون أن يكون لهم مركز في المجتمع .. وإن الزوبعة التي أثارها الدهماء قد أزعجت طبقة التجار ورجال المال"، ودعا كاتب المقال "إلى استئصال شأفة أولاد الشوارع" وذكر "إنها لأمة وضيعة تلك التي يقودها أمثال علي عبد اللطيف، وذلك أن الشعب ينقسم إلى قبائل وبطون وعشائر، ولكل منها رئيس أو زعيم أو شيخ، وهؤلاء هم أصحاب الحق في الحديث عن البلاد.." ثم يتساءل مستنكراً "من هو علي عبداللطيف الذي أصبح مشهوراً حديثاً، وإلى أي قبيلة ينتسب؟".


ثم كان رد الفعل الثاني المصاحب هو إعتقال علي عبد اللطيف في 4/ 7/ 1924، وهي المرة الثانية التي يعتقل ويحكم عليه بالسجن فيها بسبب نشاطه السياسي. أما المرة الأولى فكانت في العام 1922 وامتدت لمدة عام كامل، كان وقتها علي عبداللطيف ضابطاً في الجيش تخرج من المدرسة الحربية قبل ثماني سنوات. لم يكن اعتقاله وسجنه بسبب تمرد عسكري ولا مخالفة لأوامر قادته العسكريين الإنجليز أو المصريين، فقد سبق أن فعل ذلك يوم أن رفض أن يؤدي التحية العسكرية لضابط إنجليزي أثناء خدمته في مدينة مدني، كانت نتيجتها إستدعائه للخرطوم للتحقيق معه. بل جاء اعتقاله وسجنه بسبب مقالة سياسية حاول نشرها في جريدة (حضارة السودان) التي يرأسها حسين شريف، ولكن بدلاً من نشرها داهم قلم الاستخبارات البريطانية الجريدة ووضع يده على المقالة، ليحاكم كاتبها بالسجن لمدة عام، وتشكل نقطة تحول ليس في حياته فحسب وإنما على تداعيات الوضع السياسي في مستقبل السودان.

كانت المقالة عبارة عن مذكرة سياسية وافية، ويكفي أن عنوانها "مطالب الأمة السودانية" يكشف عن مضمونها المتوقع بقراءة للمناخ السياسي السائد وقتها. تضمنت (المذكرة) حسب تلك القراءة ثلاثة محاور رئيسية، أولها حق تقرير مصير السودان، وكانت سيادته وقتها متنازعة بين المصريين الذين يعتبرونه ملك لهم والانجليز الذين يسعون للإنفراد بحكمه، وكان السودانيون أنفسهم منقسمين بين مناصر لفكرة وحدة وادي النيل حسب رؤية المصريين وآخرين يرون في المصريين نصيراً لقضايا السودان وبين مؤيد للولاء للتاج البريطاني، وقد جاء في تقرير المخابرات إن علي عبداللطيف تمت محاكمته لأنه طالب أن تكون حكومة السودان للسودانيين. ثانيها محور مطلبي إذ اشتملت المذكرة على عدة مطالب مباشرة مثل المطالبة بالتوسيع في زيادة فرص التعليم وتعيين الموظفين السودانيين في الوظائف الهامة والاكتفاء بتعيين غيرهم في بعض الوظائف العليا إلى حين، وكلك إلغاء احتكار الحكومة السكر وإعادة النظر في مشروع الجزيرة وغيرها من المطالب الأخرى، أما المحور الثالث فقد تضمن نقداً موجهاً للوجهاء الدينيين والقبليين الذين يعبرون عن ولائهم للسلطات البريطانية، وشددت المذكرة على أن هؤلاء لا يعبرون إلا عن انفسهم، حسبما جاء في بحث اليابانية يوشيكو كوريتا عن علي عبداللطيف.

كان للصراع البريطاني المصري ومطالبة المصريين بالاستقلال أثره على تداعيات الموقف في السودان، خاصة مع نشوء شريحة من الخريجين والمثقفين لها أشواقها وتطلعاتها المغايرة لما حاول المستعمر البريطاني تطبيقه من سياسات رفعت من قدر القبلية والطائفية لتعزيز أركان سلطته على البلاد. ولعل السبب المباشر لكتابة تلك المذكرة هو زيارة اللورد اللنبي للسودان لتبديد مخاوف الطائفيين والزعماء الدينين من تسليم بريطانيا السودان للمصريين، وهذا ما بدا واضحاً في محاور المذكرة التي حاول كاتبها نشرها في ذات الجريدة (الحضارة السودانية) التي بدأت في الترويج للزيارة ومساندة الزعماء الدينيين ودعم التأييد للمستعمر الإنجليزي على حساب الجانب المصري. وما أزعج الإنجليز ليس دعم المذكرة للموقف المصري الذي لم يرد أصلاً في متن المقالة، بل مطالبتها بأن يكون السودان للسودانيين حسبما جاء في تقرير المخابرات، وهو إتجاه جديد ومؤشر لتصاعد الوطنية السودانية.

دفعت تلك المقالة بعلي عبد اللطيف، خاصة بعد سجنه وخروجه من السجن إلى مقدمة الصفوف في العمل السياسي ليتصدى لقيادة جميعة اللواء الأبيض التي قادت ثورة 1924 فيما بعد. تلك الثورة المسلحة التي قادها الضباط والجنود السودانيون إلى جانب طلبة المدرسة الحربية، هي التمرد الثاني الذي واجه المستعمر الانجليزي، وهو يختلف عن الأول الذي قاده الضباط المصريون في العام 1908، يختلف في خلفيته وأهدافه. ولعلها المرة الأولى التي يتزاوج فيها النضال السياسي بالنضال العسكري المنظم.

تمثلت تداعيات تلك المقالة (المذكرة)، مطالب الأمة السودانية، وقوتها في الحرب الشرسة التي شنت عليها ومحاولات قطع الطريق أمام الأفكار الخلاقة الجديدة التي طرحتها، والإجراءات الصارمة من جانب المستعمر بقصد قطع الطريق أمام أي تمرد أو تظاهرات تشارك فيها قوة عسكرية، إضافة لشل قدرات الخريجين والمثقفين في التأثير على القطاعات الجماهيرية. 

من مظاهر تلك التداعيات على المستوى السياسي الاجتماعي هو اكتشاف المستعمر فشل مشروعه المتمثل في إعلاء شأن الزعماء الطائفيين والدينيين، ومحاولاته كسب ولاء المثقفين والخريجين بعد أن استطاع إزاحة المصريين وجيشهم إلى حين من المسرح السوداني. فيما اكتشف أولئك الزعماء المؤيدين للتاج البريطاني أن هناك شرائح وطلائع جديدة بدأت تسحب البساط من تحت ولاءاتهم وتخترق قدسية نفوذهم وسلطانهم، وأن الرجرجة والدهماء بدأوا مزاحمتهم في مواقع كانوا يحسبونها حكراً لهم. وكان ما نشرته جريدة (حضارة السودان) كرد فعل لتلك التظاهرة الوارد ذكرها أبلغ تعبير عن حالة الفزع التي إنتابت الطرفين (الانجليز والزعماء الدينيين) من تنامي ذلك التيار.

المواجهة العنيفة لثورة 1924 وإخمادها بواسطة سلطات المستعمر الإنجليزي وجيشه (كان الجيش المصري وقتها في مرحلة الجلاء قبل أن تعيده اتفاقية 36 مرة أخرى للسودان)، أدت إلى حالة من التوهان وسط المثقفين والخريجين، حالة صدمة خمدت على إثرها الثورة المعتملة في النفوس إلى حين.

تلك الحالة التي انتابت المثقفين كان لها أثرها المباشر في تعالي شعار "السودان للسودانيين" في أوساطهم، بعد تعويلهم الكبير على مشاركة القوات المصرية في معارك نوفمبر حسب الاتفاق ولكنها خذلتهم. وتذكر واحدة من وثائق مؤتمر الحركة الوطنية في السودان الذي نظمه معهد الدراسات الأفريقية والآسيوية في العام 1986، في بحث قدمه عبدالرازق الفضل عبدالرؤوف " أدى عدم إيفاء الضباط المصريين بوعودهم في مساعدة القوة السودانية إلى خلق استياء عام وسط العسكريين والمدنيين السودانيين والين كانوا ينادون بالاتحاد مع مصر. وقد أدى هذا إلى نتائج ذات جذور عميقة كان لها أثرها في تغيير سياسة الدولة في السودان بعد ثلاثة وثلاثين عاماً ثم تغيير وجه الحياة السياسية فيه بعد أربعة وثلاثين عاما. ويشير عبدالرؤوف إلى أن اليوزباشي عبدالله خليل والذي كان من أصدقاء علي عبداللطيف ضمن من أصيبوا بخيبة الأمل في المصريين مما جعله يتبنى وجهة النظر القائلة "السودان للسودانيين".

كان للإدارة البريطانية أن تتعامل مع الوضع الجديد بما يضمن لها إستمرار حماية مصالحها، فلجأت إلى ضرب العسكريين والمثقفين بعدة طرق كما عززت ودعمت مرة أخرى سلطات الإدارة الأهلية القبلية وتكريس نفوذ زعماء القبائل والطوائف الدينية، وذهبت إلى منح شيوخ القبائل سلطات قضائية واسعة، حسبما جاء في السودان المأزق التاريخي وآفاق المستقبل لمحمد أبو القاسم حاج حمد.

من أهم تلك التداعيات كما يذكر د. حسن عابدين "تجاوز رد فعل الحكومة على أحداث 1924 أمر تصفية جمعية اللواء الأبيض وقيادتها إلى خروج الحكومة على سياساتها التعليمية والإدارية السابقة، والتي اتخذت بعداً سياسياً جديداً بعد 1924"

في كتابه فجر الحركة الوطنية، أضاء د. حسن عابدين هذا الجانب "كانت سياسة التعليم سابقاً تنبع من الاحتياجات الإدارية؛ وكانت تهدف إلى تعليم وتدريب السودانيين لشغل الوظائف الصغيرة في الإدارة الحكومية، وبالتالي يحلون محل الموظفين المصريين. وكانت تلك المهمة الأساسية لكلية غردون والمدرسة الحربية ومدرسة المآمير التي أنشئت عام 1914."

ويواصل د. عابدين "ولكن بالرغم من طرد الإداريين والمعلمين المصريين عام 1924 ونشوء وضع طارئ للإسراع بتلك السياسات بدلاً من الابطاء فيها، إلا أن الحكومة بدأت في تقليص أعداد المتعلمين وأيضاً دور الطبقة المتعلمة. وكان من ملامح تلك السياسة الجديدة إغلاق المدرسة الحربية وإيقاف الدورات التدريبية، وتقليص كلية غردون، مما أدى إلى المزيد من التذمر. وقد أوقف كذلك إرسال خريجي كلية غردون في بعثات تعليمية لنيل دراسات عليا بالجامعة الأمريكية ببيروت، ذلك التقليد الذي بدأ العمل به منذ عام 1922."

في مقابل ذلك بعثت سلطات المستعمر روح القبلية بعد أن خبا إوارها في بدايات الغزو الثنائي للسودان، لتتصاعد من جديد، ودعمت خطواتها تلك بتجاوزها للقيادات الدينية والطائفية. ولأن السياسة تحتمل كل شيء، وفي مشهد تكرر عدة مرات أمام أنظار تاريخنا الحديث، بل وحتى حاضرنا، فقد وافق شن المثقفين طبقه الطائفية في رفضهما لإحياء جذوة القبلية وعارضا موقف الإدارة الاستعمارية. إن بعث روح العصبية والقبلية الذي خدم المصالح الإستعمارية في توطيد أركان سيطرتها لا تزال تداعياته ممتدة حتى اليوم، فحتى الحكومات الوطنية عقب الاستقلال وفي إطار بلوغ مصالحها كانت تلجأ إلى ذلك سواء أثناء فترات الحكم الديمقراطي وضرورات الحشد الانتخابي أو أثناء الديكتاتوريات لمواجهة والتصدي للقوى المعارضة، وخير شاهد على تلك التداعيات هو نظام الانقاذ الذي لم يغذ النزعة القبلية فحسب بل استخدمها في مراحل حكمه المختلفة لضرب بؤر التمرد التي يمكن أن تؤثر على استمراره، ولكن القبلية قوة لا يمكن التحكم في إنفلاتاتها وتحولاتها طالما لم نضع الخطط والبرامج القائمة على مفاهيم اجتماعية متقدمة لتحويلها لطاقات فعالة وإيجابية تصب في التوجه القومي العام.

إلى جانب القبلية وتداعياتها المستقبلية بعد ثورة 1924، تجيء الإشارة المهمة هنا إلى أن كاتب المذكرة هو علي عبداللطيف، الضابط الذي ولج السياسة من بوابة العسكرية بإنضباطها وإلتزاماتها المؤهلة للترقي، ومن تأثر بها غير المثقفين هم العسكريون الذين ساروا في التظاهرات إلى جانب المدنيين طوال فترة الغليان التي سبقت يوم السابع والعشرين من نوفمبر، والشاهد على ذلك إنهم أدوا التحية أمام منزله وأمام السجن الذي كان يقضي فيه البطل علي عبداللطيف مدة حكمه تقديراً له، قبل إنطلاقة الثورة المسلحة.

جاء في كتاب عصام الدين ميرغني طه (الجيش السوداني والسياسة) أن إنشاء قوة دفاع السودان وإعلانها بصورة رسمية في 17 يناير 1925، أي بعد حدثين عسكريين هما إجلاء الجيش المصري من السودان وإخماد ثورة 1924 المسلحة. وهي قوة نظامية تحت قيادة ضباط بريطانيين ويعاونهم ضباط سودانيين وتتبع مباشرة لإمرة حاكم عام السودان وتدين له بالولاء والطاعة وبالتالي تقوم بتنفيذ سياسات حكومة السودان الخاصة بحفظ الأمن الداخلي والدفاع، وحظرتها من أي أنشطة مدنية.

لعل من أبرز الملاحظات أن قوة دفاع السودان بعد إعادة تشكيلها، ابتعدت تماماً عن أي نشاط سياسي، ويعزى ذلك حسب محللين إلى إنشغالها بنشاطات عسكرية خارجية خاصة مع بداية نذر الحربة العالمية الثانية. ويقول العميد معاش عصام الدين ميرغني في تناوله لهذا الجانب "فترة الحرب وما بعدها تعكس بوضوح نجاح السياسات البريطانية في إبعاد قوة دفاع السودان عن أي مؤثرات سياسية لفترة امتدت لأكثر من ربع قرن (1925-1957)، وهي فترة الاستقرار الاحترافية الوطنية الأولى والأخيرة في المؤسسة العسكرية السودانية منذ تأسيسها."

تبرز عدة تساؤلات هنا ربما تكشف عن تداعيات مذكرة مطالب الأمة السودانية على صعيد الجيش والسياسة، ولعل أهم تلك التساؤلات هل كان تدخل علي عبداللطيف العسكري المحترف في السياسة له تداعياته في مستقبل السودان؟ وهل بناء قوة دفاع السودان ولوائحها وقوانينها أدت إلى تداعيات المشهد السياسي بعد الاستقلال وتدخل المؤسسة العسكرية في السياسة؟ ومبعث هذا التساؤل إن قوة دفاع السودان هو جيش بني لخدمة المستعمر وحماية نظامه؟ وهل تدخل السياسيين في الجيش هو من إرث جمعية اللواء الأبيض التي ضمت المدنيين إلى جانب العسكريين؟ وربما نجد المبرر في ذلك الوقت لهذا التدخل بسبب الاستعمار، لكن كيف يستقيم بعد الاستقلال إستغلال الجيش لتحقيق مصالح الساسيين؟ ثم تجيء أسئلة بعث القبلية ولماذا لا زلنا نرزح تحت ثقلها السلبي، فما أن تطل أزمة على سطح السودان حتى تتجه الأنظار إلى الاستفادة منها لتحقيق مصالح سياسية نخبوية؟ وهل نتعامل مع التعليم كما المستعمر لمجرد شغل وظائف أم بمفهوم البعث والتنوير الذي يقود إلى نهضة الأمة؟ وأين القوى الحديثة من كل ذلك تلك القوى التي تستمد جذورها من إرث الوطنية السودانية التي لم يشكل الدين أو العنصر أساساً في دعاويهم؟

إنها أسئلة تفتح الباب لإضاءات أكثر حول تاريخنا الحديث وقراءات أعمق لمجريات أحداثه. فقد فتحت تلك المقالة المذكرة التي كتبها الضابط علي عبداللطيف أثناء حماسته السياسية النيران على المستعمر الإنجليزي وعلى الزعماء الدينيين والقبليين، وفتحت أعين السودانيين على حقائق كثيرة وعلى حقوق عليهم المطالبة بها. ورغم تداعياتها على المشهد السياسي السوداني إلى الآن، تظل تلك المذكرة إضاءة قوية في مسيرة النضال السوداني وفي مسيرة القوى الحديثة في السودان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق